أحدث الحكايا
صورة تعبيرية

شريف صالح يحكي (على باب الله): الجمال طريقي إلى الله

تكرر في كوابيسي، أن عانيتُ الجاثوم، وكثيرًا ما كان يندفع من داخلي صوت يردد: “الله” أو “لا إله إلا الله”. أحد هذه الكوابيس القديمة كنتُ أشعر بنفسي وحدي والسماء تنطبق على الأرض. وقرأتُ مرة تفسيرًا أنها صدى للحظات المخاض والولادة كامنة في لا وعي كل منا، وتنعكس في أحلامنا وكوابيسنا.

لكن ما يلفت نظري هنا ارتباط  الانعتاق من تلك الكوابيس المقبضة بترديد لفظ الجلالة. اللجوء إلى الله، ليس بإرادة كاملة مني، ولا قرار عقلي واع. إنما رد فعلي داخلي عميق.

وأحيانًا يحدث ذلك في أحلام رائقة نشرتُ بعضها في كتبي، وأستذكر منها حلمين، صدرا ضمن مجموعة “شق الثعبان”، والغريب أنني كنتُ أعتقد أنهما حلم واحد يكرر الرسالة نفسها.

في نص “طريقي إلى الله” كتبتُ:

“رأيتُ كف يدها في عتمة النافذة البعيدة مثل نقطة ضوء، وسمعت صوتها يحذرني: “لا تقتربْ!”

هتفتُ: “لا مفر”

سألتني: “والذنوب؟”

قلت لها: “الجمال طريقي إلى الله.. ليس لي طريق آخر”.. وواصلتُ السير”.

صورة مصممة بواسطة الذكا الاصطناعي

 

وفي النص الآخر “كشف الغطاء” كتبتُ:

“جاءت المرأة وكشفت الغطاء عن جسدي العاري. بعدما انتهتْ من تغسيلي ولفتني في الكفن، جلبتْ زجاجة الخمر من تحت السرير ووضعتها في حضني. رشفتُ منها ثلاث رشفات وابتسمتُ: ما أعظم الوجود!”

صورة مصممة بواسطة الذكاء الاصطناعي

 

غواية الجمال

في كلا النصين ارتبطتْ يقظتي بحضور المرأة؛ الأولى كانت جمالًا مغويًا عن طريق كف يدها الذي اقتحم نافذتي، جذبتني إليها برغم صدها لي وتحذيرها من الذنوب، وهنا أخبرتها بحكمتي الباطنية: “الجمال طريقي إلى الله”.

أما المرأة الأخرى فتولت عملية انتقالي من حياتي الدنيا إلى حياتي الأخروية، وبدلًا من أن توقظني بجمال يدها في النافذة، أيقظتني بالسكر، وهنا انكشف غطاء الجهل والأوهام فوجدتني أبتسم وأردد مع بلوغي اليقين: ما أعظم الوجود!

في الحالين أدركتُ جمال وعظمة الوجود، بكل ما يعنيه ذلك، عن طريق امرأة رسولة الأحلام. عقدتُ صلة باطنية بين الحسي (يدها، والخمر) والروحاني (اليقين بجمال وعظمة الوجود).

 

على ما يبدو، يتخذ كل منا طريقه إلى الله بمقتضى خبراته الذاتية والمهنية، وقدراته العقلية والعاطفية. ينظر الفيلسوف للحقائق المجردة موضوعيًا، وينغمس العالِم (المؤمن والملحد) في التجريب وكشف أسرار الطبيعة المادية، مع تحييد التصور الإلهي إلى حدٍ كبير، ويخوض المتصوفة تجربتهم بالحدس والسعي الذاتي، ويكتفي رجال الشرائع بأداء الطقوس الفردية والجماعية بإتقان.

 

هل كان ذلك حلًا حلميًا تخييلًا نحكيه في قصصنا أم حلًا قابلًا للتنفيذ في الواقع المعيش؟ هل هي نصوص تبحث عن الله، أم عن الطريق والطريقة إلى الله؟

البحث عن الله

ليس مهمًا كيف وصل صاحب الطريق بل المهم أن تعثر أنت على طريقك

في طفولتي البعيدة، وبحكم ولادتي في أسرتي قريبة من التصوف، ولأب كان برهاميًا أو برهانيًا، جوّابًا للموالد، أعجبني التقرب إلى الله بالموسيقى والإنشاد والرقص، أثار وجداني وخيالي منظر البيارق والرجال ذوي العمائم الخضراء، وذلك الإيقاع الموسيقى الرتيب المتكرر “الله.. الله.. الله. الله” كأنه تنويم مغناطيسي للوعي، كي يتحرر اللاوعي ويتصل بالتجربة العميقة، وجمال الكون نفسه.

حلقة ذكر صوفية تركية

 

ثم في مراهقتي التقيتُ رجال دين طقوسيين، دربوني على الالتزام بالطقوس والعبادات وتشغيل عدّاد الحسنات، صلاة الفرد بكذا حسنة وصلاة الجماعة بكذا حسنة.

لاحقًا علمت أن أتباع الطريقة الأولى يسمون أنفسهم طُلاب الحقيقة، ورجال الطريقة الأخرى هم “أهل الشريعة”.

ليس بالضرورة أن يتعارض طريقا الحقيقة والشريعة. ولا يمنع أيضًا أن يكون هناك طريق ثالث ورابع.. فالمتصوفة أنفسهم يقولون إن الطريق إلى الله بعدد أنفاس الخلق. والبوذية يقولون: إذا صادفتَ البوذا اقتل البوذا!

فليس مهمًا كيف وصل صاحب الطريق بل المهم أن تعثر أنت على طريقك.. وليس مهمًا أن نعدد الطرق ونصنفها، وإنما أن نختبر الطريق نفسه، ونكتشف ذاتنا فيه، فربما كان جيدًا لكنه لا يناسب أرواحنا، وليس مُعبدًا لنا.

يتطلب الأمر التجربة والمكابدة والمجاهدة والبحث المضني إلى أن تنسجم الذات مع طريقها الذي اختارته، أو اختارها هو.

صورة تعبيرية

فكرة الله

منذ القدم يبحث الفلاسفة عن الله، لكنهم يتصورونه كمفهوم متعال مفسر للكون، وعلة العلل، وفق كتاب جيمس كولينز “الله في الفلسفة” بترجمة فؤاد كامل، ربط “كانط” الله بالأخلاق بالدرجة الأولى. وانشغل الفلاسفة بفهم طبيعة الله، وإثبات ماهية وجوده، وكذلك علاقته بالطبيعة والكون والإنسان، فثمة من اعتقد بأن الله هو الجوهر الفرد في الوجود، وينبغي النظر إلى الأشياء جميعًا في الله، فثمة علاقة تبادلية بين الله والعالم داخل الكل الجوهري الواحد. ولخص ذلك كانت في أن فكرة الله هي الشعور بحضور الألوهية في الإنسان.

غلاف كتاب الله في الفلسفة الحديثة

 

واختلفت نسبيًا نظرة هيجل الأكثر مثالية، في تصوره لله كروح مطلقة، باطنية ومتطورة داخل الإنسان، مبديًا تحفظه على شخصنة التصور المسيحي للذات الإلهية، وعلى تلك الثنائية ما بين الكنيسة والدولة، والفعل الروحي والفعل الدنيوي، فهذه الازدواجية تحول دون إدراك الله بوصفه “الجمال اللاشخصي الحي”.

بينما مال فلاسفة وعلماء آخرون إلى تصور تجريبي، يحييد مفهوم الله، فغالبًا ما يتم إسناد وظائفه وتفسيرها بمبادئ أخرى، إضافة إلى تعزيز فصل العلم عن اللاهوت؛ فحركة الذرة هي أقدم قوة ولا ينبغي تفسيرها بأي تصور لاهوتي سابق عليها.

أخذًا في الاعتبار أن تحييد الفكرة، لا يعني بالضرورة إنكارها، وإنما الحذر في تلقيها، وصعوبة إثباتها تجريبيًا، فثمة من تحدث ـ مثل أينشتاين ـ عن عقل علوي بديع نظم الكون، لكنه لا يتدخل في شؤون البشر، وإنما طور اللاهوت بواسطته وظائف أخلاقية لردع أفراد المجتمع والسيطرة عليهم.

بينما بالغ علماء وفلاسفة في التجريبية واتخذوا طريقًا إلحاديًا ينكر وجود الله أساسًا، مثل بول دولباك الذي يرى أن وجود الله لا يعني أكثر من الرعب إزاء كوارث الطبيعة.

 

ربما ذلك السعي الحثيث للإيمان بالعلم بديلًا عن الله، وما تنجزه البشرية من تطور مادي عظيم، ساهما في رفاهية لم تصل إليها البشرية في مجمل تاريخها، لكن هذا كله لم يقدم عزاء كافيًا للأرواح القلقة المعذبة، فلم يمنع التقدم مشاعر البؤس والعدمية والنزوع للانتحار والكآبة والاكتئاب.

 

بول دولباك يرى أن وجود الله لا يعني أكثر من الرعب إزاء كوارث الطبيعة.

 

ربما ذلك السعي الحثيث للإيمان بالعلم بديلًا عن الله، وما تنجزه البشرية من تطور مادي عظيم، ساهما في رفاهية لم تصل إليها البشرية في مجمل تاريخها، لكن هذا كله لم يقدم عزاء كافيًا للأرواح القلقة المعذبة، فلم يمنع التقدم مشاعر البؤس والعدمية والنزوع للانتحار والكآبة والاكتئاب.

على ما يبدو، يتخذ كل منا طريقه إلى الله بمقتضى خبراته الذاتية والمهنية، وقدراته العقلية والعاطفية. ينظر الفيلسوف للحقائق المجردة موضوعيًا، وينغمس العالِم (المؤمن والملحد) في التجريب وكشف أسرار الطبيعة المادية، مع تحييد التصور الإلهي إلى حدٍ كبير، ويخوض المتصوفة تجربتهم بالحدس والسعي الذاتي، ويكتفي رجال الشرائع بأداء الطقوس الفردية والجماعية بإتقان.

في قصة نجيب محفوظ الشهيرة “زعبلاوي” يفتتحها الراوي بأغنية من طفولته: “الدنيا ما لها يا زعبلاوي شقلبوا حالها وخلوها ماوي؟!”، كأنه من دون هذا الشيخ المقدس لا تستقيم أحوال الدنيا، لذلك يجد ويكد بطل القصة في البحث عنه لأنه “لولاه لماتَ غمًا”، ويقابل شخصيات على كل شكل ولون، كل منها يعيد توصيفه وتعريفه بطرق مختلفة.

تفاوتت الإجابات ما بين الترحم على أيامه، والتبرك بنفحاته، والتأكيد أنه مازال حيًا، ومن يعتبره “خرافة”.

عبقرية القصة التي ألحتْ على محفوظ وتوسع فيها مرارًا في سرده الميتافزيقي، أنه وضع ماهية “الزعبلاوي” على المحك بين وجوده وعدمه، ونوّع توصيفه ووظائفه، وعلاقة الآخرين به، مع الإلماح إلى أنه يصعب أن يحده زمان ومكان، وأن يكون له تصور أحادي راسخ. ثم تنتهي القصة بالبطل وهو يردد: “علي أن أجد زعبلاوي نعم، عليٌ أن أجد زعبلاوي”.

 

دنيا الله (رواية) - ويكيبيديا
مجموعة دنيا الله التي تحتوي على قصة زعبلاوي

 

يمكننا بطبيعة الحال فهم القصة باعتبارها استعارة لرحلة بحث البشر عن الله، لكن الوجه الآخر للقصة أنها استقصاء لطرق/رحلات البشر، في طريقهم إلى الله. فالله موجود ولا يستقيم حال الدنيا من دونه، لكن بأي كيفية نفهم نحن وجوده، وبأية طريقة نسعى إليه؟

فشخصية البطل الراوي ليست هي المهمة،  لأنها مجرد مرآة كاشفة للشخصيات التي عرفت “زعبلاوي” ووجدتْ إجابة وطريقة وطريقا. فهناك من وصل بواسطة “السُّكْر”، ومن صنع بفضله أجمل لوحاته، ومن وصفه بأنه الطرب نفسه. من وصل بالعقل ومن اتصل بالقلب.

هكذا رأتْ شخصيات القصة ـ ورأى محفوظ من خلفها ـ أنك لن تبلغ المقدس بمجرد الإيمان النظري، ولا أداء الطقوس الدينية، ولا التنظير الفلسفي، ولا التجريب العلمي، وإنما بالعثور على طريقك الخاص إليه، كالرسم والطرب والسُكر برمزيته؛ ما وصل إليه محفوظ بسرده، أتاني عبر أحلامي.. فتردد الصوت الجواني الباطني.. الله هو الجمال في الوجود.. هو الجمال في الطريق والرحلة وهو الجمال في منتهاها. وكل ما تعارض مع الجمال لا يُصلح طريقًا لي.

عن شريف صالح

‎كاتب وصحفي مصري، درس في دار العلوم في جامعة القاهرة. كما نال دبلوم النقد الفني، ودرجتي الماجستير والدكتوراة في النقد الأدبي من أكاديمية الفنون. له العديد من المؤلفات الأدبية، وحصل على عدة جوائز أبرزها جائزة ساويرس في القصة القصيرة عن مجموعة «مثلث العشق»، وجائزة دبي الثقافية عن مجموعة «بيضة على الشاطئ»، وجائزة أفضل مؤلف مسرحي من مهرجان «أيام المسرح للشباب» في الكويت عن مسرحية «مقهى المساء»، وجائزة الشارقة للإبداع العربي عن الإصدار الأول لمسرحية «رقصة الديك».

تعليق واحد

  1. Atef Makram Sharkawe

    الله عليك يا استاذ شريف…..الريح تهب حيث تشاء ولاتعرف من أين تأتي ولا إلي أين تذهب وهي تملا الكون.. في رأئي هذا أقرب وصف لذات الالهيه.تحياتي لحضرتك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *