أحدث الحكايا

د. سارة قويسي تحكي: “يا إلهي إنها تؤلم بشدة!”.. اللكمة أم العنصرية؟

“من غير الممكن أن يقول شخص (هذه ليست امرأة) فقط من النظر لشخص”.
توماس باخ، رئيس اللجنة الأولمبية الدولية

بعد 46 ثانية قررت الملاكمة الإيطالية إنجيلا كاريني الانسحاب من النزال بعد تلقيها بضعة ضربات. تقول: “قررت التوقف بعد تعرضي للكمة الثانية، بعد سنوات في الحلبة وفي حياة الملاكمة شعرت بألم شديد في أنفي”.

الملاكمة الإيطالية إنجيلا كاريني تنسحب من المباراة أمام منافستها الملاكمة الجزائرية إيمان خليف

 

هذا الانسحاب والغضب الذي وُجه في وجه “إنسان” واحد، وخروج رئيسة وزراء إيطاليا كي تؤكد على أن “هذا نزال غير عادل” يجعلنا نتساءل: هل كانت إيمان خليف هي الأولى التي يتم اتهامها من قبل الغرب بأنها امرأة غير حقيقية؟ ويصر على أنها تتشابه مع التصورات الغربية عن العالم العربي؟ والأسوأ هذه المرة أن تجتمع قارة بأكملها على التنمر على “شخص” دون سواه، لأن لاعبة إيطاليا لم تتحمل الضربات التي تلقتها في النزال، وانسحبت بعد 46 ثانية فقط من بداية الجولة الأولى.

ايمان خليف

فتيات ولكن..!

قراءتي للأخبار المتداولة عن إيمان خليف وسارة سمير وفريدة عثمان، وغيرهن من الفتيات اللاتي احترفن لعب خطرة ومارسنها دون خوف من الحكم عليهن، جعلني أعُودت بذاكرتي للعام 2014، حين كنت أقوم بالانتهاء من كتابة رسالة الماجستير الخاصة بي، والتي تتحدث عن الحركة النسوية، وجعلني أشعر مرة ثانية بنفس المشاعر التي صاحبتني وأنا أقرأ عن تاريخها، وما مرت به النساء عبر العالم، وكيف –كان- العالم الغربي يعامل نساءه وينظر إليهن قبل أن تتحول هذه النظرة إلى السيدات العربيات، حين خرجت حركات تحرر المرأة الغربية وبدأت بتوجيه الدعوات إلى باقي العالم لكي تشارك في تحسين أوضاع النساء.

نفس الشعور بالقشعريرة التي تزحف فوق عمودي الفقري، عاودني مرة ثانية ولكن هذه المرة قررت أن أدون عن تلك المحطات التي قرأت عنها..

إحدى حركات تحرير المرأة بإفريقيا

نظرة الغرب للمرأة العربية

حين يتحدث الغربي عن العربي يعتمد في حديثه على فكرة مفادها أن الشرق مختلف عن الغرب، كما يحرص الكتاب المفكرون الغربيون على تخفيف المستوى الفكري والإنساني لدى الشرقيين، لدرجة وصفه بأنه إنسان لا صلاح له، لذا يجب قيادته والتحكم فيه، لأننا أشخاص يتحكم بنا الشر، لذلك يصبح الشرقي أقل رتبة من الغربي، فعالم الشرق هو عالم الفسق والملذات والعنف والشر.

لم يقتصر الأمر عند هذه الصورة فحسب بل امتد لتصورهم عن المرأة، فقد قدم الغرب تصورا عن المرأة العربية ووصفها بأنها في آخر الركب، تسير وهي تركب الجمال وترتدي “اليشمك-الخمار- النقاب” ولا تتلقى التعليم، ولا تفعل أي شيء في حياتها إلا الزواج والخدمة، لكن الواقع الفعلي عكس ذلك.

البعثة العلمية المصرية الأولى لاستكمال الدراسات في الطب بلندن

 

الاتحاد النسائي العالمي

في المحطات التالية نستعرض جزءًا من النظرة الغربية الخاصة بالمرأة ورد السيدة هدى شعراوي على هذا الادعاء.

في العام 1923 تلقت السيدة هدى شعراوي دعوة من الاتحاد النسائي العالمي لحضور المؤتمر الدولي الثاني للاتحاد النسائي العالمي، لإلقاء نظرة على أوضاع المرأة في مصر، وقد لبت السيدة هدى ومجموعة من النساء المصريات هذه الدعوة، وحين ذهبن إلى المؤتمر فوجئن بطريقة التعامل معهن، تقول السيدة هدى عن تلك الواقعة: “وفدنا رغم أنه كان أقل الوفود عددًا، إلا أنه أحدث تأثيرًا كبيرًا ولقي ترحيبًا عظيمًا، لأنه ظهر أمامهن بمظهر أرقى مما كن ينتظرن، فصرن يسألننا في فضول وإلحاح إن كنا حقًا مصريات، وكلما أكدنا لهن ذلك شاهدنا علامات الدهشة على وجوههن كأنما كانت المرأة المصرية المحجبة مطبوعة في مخيلتهن بطابع الجهل والهمجية، ولكن سرعان ما تغيرت تلك الفكرة في أذهانهن عندما رأيننا نؤدي رسالتنا على الوجه الأكمل، تلك الرسالة التي رحبن بها وعضدنها ودعوننا للانخراط في سلك الاتحاد النسائي الدولي كفرع منه يمثل مصر”.

ربما تجاهلت السيدة هدى شعراوي الحديث عن المواقف التي تعرضت لها هي وصديقتيها خلال هذا المؤتمر، ولكنها عادت بعد سنوات لتتحدث عما حدث معهن، في حوار أجراه معها الكاتب إحسان عبد القدوس، تقول في معرض حديثها معه: “كانت الدعوة موجهة إلينا من الاتحاد النسائي البريطاني، فاكتشفت أننا دعينا للتشهير بنا وإظهار بشاعتنا وهمجيتنا أمام نساء العالم إلا أننا عندما بدونا سافرات بين أعضاء المؤتمر صاحت كل الموجودات: إنكن لستن مصريات. قلنا: لِمَ؟ قلن: إن لكن وجوهًا مثل وجوهنا! ثم التفتت إحداهن إلى السيدة الجليلة نبوية موسى وقالت: ربما كانت هذه مصرية؟”.

هدى شعراوي

 

هذا الموقف الذي تعرضت له السيدة هدى شعراوي وصديقتيها يوضح الطريقة التي كان ينظر الغرب بها إلى المرأة العربية، وهي الطريقة التي بدأت الثقافة الغربية تصدرها لطريقة التعامل مع النساء، وهذه الرؤية هي ما تظهر في الطريقة التي ينظر بها الرجل إلى المرأة، ويعبر من خلال نظرته عن هذه الصورة القديمة المعلبة للمرأة، والتي ضحت سيدات كثيرات بأعمارهن لمواجهة كل هذه الأفكار، تنتهي بطريقة غير مباشرة، حين تزرع في عقول الرجال والشباب شكلا واحدا مقبولا للمرأة لو خالفت هذا الشكل يتم معاقبتها اجتماعيا بالرفض.

لذلك ظهرت حالة من الرفض للمرأة التي تظهر بطريقة غير مقبولة ومخالفة للصور النمطية التي يتم تقديمها وتغذية العقول بها، أو حالة الرفض لصور أي ممثلة أو شخصية عامة أو امرأة عادية قررت أن تشارك صورها عن طريقة وسائل التواصل الاجتماعي أو الجرائد، ثورة من الغضب تنفجر في وجهنا لأن مجموعة من النساء خرجن عن القالب التقليدي.

إيمان خليف واضطراب الـ DSDs

لنقل إن هذه النظرة الغربية للمشرق العربي هي نظرة للعرب جميعا، وهذه النظرة لم تغادر عالمنا حتى اليوم، فحتى اللاعبة إيمان خليف تعرضت للتنمر والانتقاد رغم أن حالتها الصحية ليست الوحيدة بين اللاعبات اللاتي شاركن في دور الألعاب الأولمبية الصيفية لهذا العام، فهناك أكثر من لاعبة تعاني من نفس الحالة التي تعاني منها إيمان خليف، مثل اللاعبة لين يو تينغ واللاعبة كاستر سيمينيا، ولم يتنمر عليهما أحد، ولم توجه لهما اتهامات بأنهما رجال أو عابرات جنسيا.

الغريب أننا نجد أن قارة بأكملها تقوم بصب جام غضبها على امرأة تعاني من حالة نادرة تظهر في فرد واحد من بين 16 ألف فرد ويصعب تشخيصها. هذا الغضب الذي تم تسليطه على إيمان فقط لأنها عربية، وقام دونالد ترامب باتهامها بأنها رجل، وبين ليلة وضحاها وجدت نفسها في مواجهة حملة على موقع إكس قادها إيلون ماسك بنفسه.

على اليسار اللاعبة لين يو تينغ وعلى اليمين اللاعبة كاستر سيمينيا

اختيار اللاعبين

ما زاد من اختلاط الجدل الدائر حول إيمان، هو تسريب معلومة حول رفض الاتحاد الدولي للملاكمة بمشاركة إيمان نتيجة لعدم اجتيازها اختبارات الأهلية الخاصة بالنوع الاجتماعي، ولكن هذه الاختبارات ليست ضرورية لتحديد مصير المشاركات في الألعاب الأولمبية، ونلاحظ أن هذه التقارير تم الإشارة لها ولم يتم الإعلان عنها ولا الإفصاح عن أي تفاصيل صحية خاصة باللاعبة.

وهذا يدعنا للسؤال عن الطريقة التي يتم بها اختيار اللاعبين للمشاركة في الأولمبياد، نجد الإجابة عن هذا السؤال في موقع الألعاب الأولمبية: يتم اختيار الرياضيين من قبل لجانهم الأولمبية الوطنية (NOC) المسؤولة عن دعمهم وتسجيلهم في الألعاب.

ترسل اللجنة الأولمبية الدولية دعوات إلى جميع اللجان الأولمبية الوطنية قبل عام من حفل الافتتاح، وتقدم هذه اللجان بدورها طلب المشاركة في الألعاب إلى اللجنة الأولمبية التي تتمتع بكامل الصلاحية في قبول هذه الطلبات أو رفضها.

بالمقابل، يجب على الرياضيين الالتزام بالميثاق الأولمبي الذي يتضمن الامتثال للقانون الدولي لمكافحة المنشطات وقانون الحركة الأولمبية الذي ينص على حماية المنافسات الرياضية من التلاعب بها.

هذه القوانين لم تخترقها إيمان لذلك تم السماح لها بالمشاركة.

ايمان خليف بعد فوزها بالميدالية الذهبية في أولمبياد باريس 2024

ما هو اضطراب الـ DSD؟

يقول توماس باخ رئيس اللجنة الأولمبية الدولية: “لو قدم لنا شخص نظاما علميا راسخا حول كيفية تحديد الرجال والنساء، فنحن أول من سيعمل به. نحن لا نحب مثل هذا النوع من الارتباك”، وهذا التصريح يجعلنا نتساءل حول الحالة الصحية التي يتحدث عنها رئيس اللجنة الأولمبية الدولية.

توماس باخ رئيس اللجنة الأولمبية الدولية

 

تشير مجموعة من الأبحاث الحديثة أن الكروموسومات ليست هي العنصر الوحيد المسؤول عن تحديد طبيعتنا الجنسية، فهناك تداخل هام مع الهرمونات التي تشارك في تحديد طبيعة الجنس البشري. ورغم وجود الكروموسومات والهرمونات التي تشكلان طبيعتنا في كل مرة، فإن هناك بعض الاضطرابات الخاصة بالنمو التي تحدد هذه الطبيعة، وهذا ما يعرف باضطراب DSDS، وهذا -الجين غير مكتمل النمو- الذي يجعل الاضطرابات التي يمر بها الأشخاص المصابين بها مختلفة عن الاضطرابات التي يمر بها البشر العاديون، فهنا يصعب التحديد بأن كل من يحمل الكرموسوم Y ذكر أو من لا يحمله أنثى.

يقول البروفيسور ألون ويليامز، الباحث في العوامل الوراثية المتعلقة بالأداء الرياضي في معهد الرياضة بجامعة مانشستر متروبوليتان: “مجرد وجود كروموسوم Y لا يحدد بشكل قاطع ما إذا كان الشخص ذكراً أم أنثى”، لأن بعض الحالات يمكن أن تمتلك كروموسوم Y ولكنه يكون غير مكتمل النمو، بالتالي يصعب تحديد النوع الاجتماعي لهذا الإنسان، لأن الإنسان في هذه الحالة يحتاج إلى الجين SRY في حالة نمو مكتملة، لأنه الجين المسؤول عن منطقة تحديد الجنس في الكرموسوم Y، فهو جين التحول إلى الذكورة لأنه المفتاح الرئيسي للتحول الجنسي، وتوقف نموه يؤدي إلى ظهور بعض الحالات التي تحمل الكرموسوم Y، إذ يتوقف الجسد تمامًا عن إنتاج هرمون الذكورة “التستوستيرون” وتكون البنية التشريحية أنثوية، رغم ذلك يشير الخبراء إلى عدم وجود دليل قاطع على تمتع الرياضيين المصابين بهذا الاضطراب بالقدرات العادية للرجال.

ايمان خليف

 

الغريب أن إيمان خليف لم ترد على الأسئلة المطروحة على الساحة حولها، ولم توضح أي أمر أو تصرح بأي معلومة حول اجتيازها الاختبارات الخاصة بتحديد النوع الاجتماعي، واكتفت بتصريحات عمتها بأنها نشأت كامرأة، وكانت ترتدي ملابس النساء وتضع طلاء الأظافر، ولم توضح هي أو اللجنة الطبية المشرفة على حالتها أي أمر أو تصدر أي رد يوضح طبيعة الحالة الصحية التي تعاني منها إيمان، هذه الحالة التي تحتاج إلى مزيد من الدراسة والتحليل حتى تفهم طبيعتها!

يبدو موقف إيمان غريبا لأن باقي اللاعبات لم يمانعن من الحديث عن طبيعة حالتهن والاعتراف بارتفاع هرمونات الذكورة في أجسادهن مما سمح لهن بالفوز في بعض المسابقات، بل إن بعض اللاعبات لم يكن لديهن مشكلة في تعاطي المنشطات وكشف الأمر بعد تحطيم بعض الأرقام القياسية والتنازل عن الميداليات اللاتي حصلن عليها.

والسؤال هنا، لماذا لم يتم اتهام اللاعبات اللاتي يعانين من نفس الحالة أو اللاعبات العابرات جنسيا بأنهن رجال كما حدث مع إيمان خليف، هذا الخلل الجيني يجعلني أفكر في عدة أسئلة:

هل يتمتع الأشخاص الذين يعانون من هذا الاضطراب بأفضلية في القوة الجسدية تجعل منافستهن غير عادلة خاصة مع المزايا الجسدية التي تسمح لأجسادهن بالتمتع بكتلة عضلية أكبر وعظام أطول وأقوى؟ هل ستظل إيمان محتفظة بتلك الميدالية الذهبية التي حصلت عليها؟

ربما هذا ما ستجيب عنه الأيام ويوضح لنا السبب خلف انسحاب اللاعبة الإيطالية من أمام إيمان وهي تبكي وتهمس لنفسها: “إنها تؤلم بشدة”.

عن د. سارة قويسي

باحثة أكاديمية متخصصة في الدراسات الثقافية وشئون المرأة، حاصلة على درجة الدكتوراه في النقد الأدبي.

2 تعليقات

  1. مقال مهم. فالغرب الذي يصف نفسه بالتفكير العلمي يعيش في أوهام أفكار مسبقة يحكم بها على الآخرين من منطلق عنصري

  2. أحسنتِ..
    ولو كان ما حدث هو العكس.. ماذا كان سيكون رد فعل هذا العالم العنصري؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *