استغرقتني في العام السابق فكرة البحث الدائم عن أصحاب الريادة المصريين، كان ذلك حين بدأت العمل على بحث عن الترجمة في عصر محمد علي فانفتح البحث بقوة على عدد كبير من الأسماء التي كان لها سبق التأسيس أو العمل على تخصص ما علمي أو عملي، وهو ما فتح الباب للنظر في أسماء المبعوثين المصريين الذين سافروا إلى أوربا ضمن بعثات محمد علي، وكذا أسماء من تعلموا في المدارس المدنية المصرية مختلفة التخصصات، وكان البحث بهذا منصبا على رجال القرن التاسع عشر ممن أسميتهم في حينه: الآباء المؤسسون، الذين يمكننا أن نحصي منهم قرابة الستمائة اسم كان لكل منهم السبق والريادة في مجاله، بل إن كثيرا منهم كان لهم أثر لا يزال باقيا حتى الآن.
لكن هذا البحث قد امتد قليلا إلى بدايات القرن العشرين حين اكتشفت أن هنالك من النساء المصريات من كان لهن الريادة نفسها، فكانت سلسلة المصريات الأوائل التي رأينا فيها أول معلمة مصرية وأول قائدة طائرة وأول جيولوجية ومحامية وطبيبة إلى آخر ذلك من سلسلة طويلة من النساء المصريات اللاتي فتحن الباب للمرأة المصرية لكي تحقق ريادتها الخاصة.
وفي أثناء البحث عن أول طبيبة مصرية معينة في الحكومة الدكتورة توحيدة عبد الرحمن كانت المفاجأة، فقد درست توحيدة عبد الرحمن الطب في إنجلترا، وكان ذلك ضمن بعثة علمية مصرية كان قوامها ست فتيات مصريات سافرن عام 1922 إلى إنجلترا ضمن بعثة رسمية مصرية لدراسة الطب ولم يتعد عمر أكبرهن الخمس عشرة سنة.
وهي مفاجأة ما زلت مندهشا من عظمتها كما لا تزال الصدمة كبيرة من عدم إلقاء الضوء على هذه البعثة التي سبقت مصر بها كثيرا من الحضارات، حين سمحت بل شجعت على سفر فتيات وانقطاعهن للعلم في بلاد غريبة لمدة عشر سنوات في وقت لم يكن فيه أي وسيلة للاتصال بهن سوى الخطابات المنقولة بالسفن، وعلى الرغم من ذلك فقد عدن كلهن طبيبات ماهرات أثرن في بناء مجتمعهن على مدار عقود كاملة.
فما هي قصة هذه البعثة؟
بعثة الفتيات
بدأت القصة بموت كيتشنر غرقا في عام 1916 في أثناء أحداث الحرب العالمية الأولى، وعلى الرغم من سمعته السيئة في الحروب التي خاضها بطريقة الأرض المحروقة، وعلى الرغم من كونه ممثلا للاستعمار، فقد ساعدته لغته العربية ومساعدته في إنشاء وتنظيم بعض قطاعات الجيش المصري في أواخر القرن التاسع عشر، كل ذلك ساعده على تكوين علاقات جيدة في مصر، تلك العلاقات التي توجها بتعيينه المعتمد البريطاني في مصر من عام 1911 حتى عام 1914 حين تم تعيينه وزيرا للحرب حين قيام الحرب العالمية.
ونظرا لعلاقاته الجيدة في مصر فقد فكر عدد من المصريين والأوربيين بعد وفاته في إنشاء جمعية خيرية تحمل اسمه ويكون النشاط الأول لجمعية ذكرى كيتشنر في سنة 1916م هو إنشاء مدرسة طب لتخريج الطبيبات والممرضات، وبناء مستشفى لمعالجة النساء والأطفال في شبرا، وخصصت قسما فيه لتعليم البنات فن التمريض.
غير أن أعضاء الجمعية فكرن في البدء في تمويل بعثة علمية إلى إنجلترا قوامها من الطالبات المصريات النابغات ليتعلمن الطب، ولكي يصبحن طبيبات في مستشفى الجمعية، فخاطبت وزارة المعارف لترشيح الطالبات التي رفعت الأمر إلى الملك فؤاد فوافق على عمل مسابقة للبنات في مدارس مصر بإشراف وزارة المعارف، لاختيار ست بنات للسفر على أن تقوم السفارة المصرية بمتابعة وتسهيل مهمة المبعوثات، وعلى أن تتكفل جمعية كيتشنر بمصروفات ميزانية البعثة التي تقدر سنويا ب 2200 جنيه مصري، وهو ما انتظمت فيه الجمعية حتى عام 1925، وحين تعثرت الجمعية في تغطية هذه الميزانية السنوية تكفلت الحكومة المصرية منذ عام 1926 بتحمل تكاليف البعثة.
بعد أن تمت المسابقة تم اختيار كل من: الآنسة هيلانة سيداروس، والآنسة أنيسة ناجي، والآنسة كوكب حفني ناصف، والآنسة حبيبة عويس، والآنسة فتحية حامد، والآنسة توحيدة عبد الرحمن.
خمس مصريات يحاربن الجهل والمرض
سافرت البعثة بحرا من بورسعيد وقد تكونت من خمس طالبات حيث كانت هيلانة سيداروس قد سافرت قبل ذلك بأشهر ونجحت في معادلة شهادتها المصرية لتدرس الطب مباشرة من دون سنوات إعداد وهو ما جعلها أولى العائدات من البعثة، وعلى مدار السنوات التالية كانت الطالبات مقيمات في السكن الداخلي لمدرسة الطب وكان لهن فسحة أسبوعية واحدة تنظمها المدرسة وتشرف عليها، وعلى الرغم من صعوبة التخصص وعلى الرغم من الغربة فقد تفوقن جميعهن مما جعل الملك فؤاد يخصص لهن وقتا في أثناء زيارته لإنجلترا ليجتمع بهن، حيث قال لهن إنهن قد سافرن ليس فقط لتحصيل العلم ولكن لكي يعدن إلى بلدهن يحاربن الجهل والمرض وأن هذا الدور هو الدور الأهم الذي يجب أن يكون في صدارة اهتمام كل منهن، وهي الكلمات التي جعلتهن جميعا يرفضن عروض اكتساب الجنسية الإنجليزية والبقاء في إنجلترا والعمل كطبيبات هناك.
عدن جميعا لتصبح هيلانة سيداروس (ابنة طنطا) أول طبيبة مصرية وتخصصت في أمراض النساء وأكملت تدريبها على يد الدكتور نجيب محفوظ، وعادت توحيدة عبد الرحمن وتعمل في مستشفى كيتشنر بشبرا الذي صار تابعا للحكومة المصرية لتصبح أول طبيبة معينة في الحكومة المصرية، وتعود كوكب حفني ناصف (أخت ملك حفني ناصف باحثة البادية) لتصبح أول طبيبة جراحة مصرية.
تعليم المرأة.. أين نحن؟!
وهكذا ليصبح السؤال حول الطريقة التي تطور بها المجتمع المصري بعد ذلك بعقود والتي جعلته يناقش أمورا مثل جدوى تعليم المرأة أو سفرها منفردة أو بقاء المرأة في المنزل من عدمه، كلها أسئلة تمت إثارتها في النصف الثاني من القرن العشرين على الرغم أن هذا المجتمع نفسه هو الذي ساعد وتحمس لتعليم المرأة وسفرها قبل ذلك بأقل من نصف قرن بل إنه قد عاين بنفسه نجاح التجربة، ولاقى من نجاحها ما أثر بصورة إيجابية في تطور المجتمع والأسرة المصرية.
في ظني أن بعثة البنات التي سافرت بمبادرة من جمعية أهلية وبدعم وإشراف من الحكومة المصرية هي دليل واضح على إيمان المجتمع بأهمية التعليم عموما وتعليم الفتيات خصوصا، كما أنه دليل واضح على تطور المجتمع المصري في بدايات القرن وإيمانه بأهمية العلم ودوره في التطور في ذلك الوقت، كما أن فيها دليل على انفتاح وعي وأفق المسئولين الحكوميين في ذلك الوقت لكسر الأشكال الروتينية في التعامل مع مثل هذه المشروعات الرائدة.
وليظل السؤال مطروحا: أين نحن الآن بالمقارنة مع كل هذا؟
ليت أحدهم يطالب بالعودة إلى هذا الزمن بإرسال البعثات المصرية من الشباب ليعودوا إلى أرض الوطن مثلما عدن تلك الفتيات وكن فخرًا للجميع..
مقالة كاشفة أوضحت مدى اهتمام المصريين بتعليم الفتيات والبنات ودور الرائدات اللاتى تقدمنا الصف فى نشر التعليم بين البنات وكن قدوات مضيئلت الطريق لغيرهم ومرشدات وطنيات مخلصات فى العمل من أجل بنات جنسهن وتقدم ورقة الوطن.
ولكن لدى استفسار هل كوكب حسنى ناصف تمت بصلة لملك حفنى الشخصية التصويرية ذات الدور العظيم فى نشر تعليم المرأة فى المجتمع المصرى.تحياتى دكتور هيثم مقالة قرية