أزور باريس بصورة دورية، فلا يمر عام دون أن أجد نفسي مرة أو مرتين في مدينة “الجن والملائكة”، حسب وصف طه حسين الشهير. إلا أن هذه الزيارة اختلفت كثيرًا من بدايتها لنهايتها. كيف لا وأنا الذي اعتدت الوصول إلى فرنسا لأسباب ثقافية وسينمائية، أذهب إليها هذه المرة لحضور دورة الألعاب الأوليمبية، والتي اقترنت منذ ليلة افتتاحها بقائمة ضخمة من الموضوعات الجدلية، بعضها ذو طابع كوني شغل العالم بأكمله، وبعضها إقليمي اهتم به العرب، وبعضها محلي يخص الحضور المصري في الأولمبياد.
بين هذه الموضوعات العديدة، والمشاهدات الشخصية، حضور المنافسات والتسكع الذي يحلو في شوارع المدينة، خرجت بعدة أفكار، أو لنقل خواطر ممتزجة بالخبرة المباشرة، سواء خبرة الوجود في موقع الحدث، أو الانطلاق من الثقافة التي تناقشه عن بُعد.
فلنبدأ تلك التأملات.
احذر من الفئران!
في كل مرة تزور فيها باريس تتلقى رسائل من الأصدقاء والمتابعين، بعضهم يقترح مكانًا للزيارة، أو يروي ذكرى في مكان نشرت صورتك فيه، أو حتى يبدي بعض الغبطة لوجودك في هذا المكان ذي الخصوصية الثقافية والتاريخية والجمالية. إلا أن الرسائل هذه المرة جاءت مغايرة كليًا، من مصادر غير معتادة، كثير منها مدفوع بمشاعر طيبة، تُحذر شخصي المتواضع من فئران العاصمة الفرنسية الضخمة التي تفوق القطط حجمًا، والتي تنتشر في المدينة وتهدد سلامة ضيوف الأولمبياد، كما أكدت شهادات مواقع التواصل الاجتماعي والصور المتداولة عليها!
في البداية تعاملت مع الأمر باعتباره مزحة، لكن تكراره جعلني في حيرة عمّا يُمكن أن يكون قد حدث في المدينة منذ آخر زيارة في مايو الماضي قبل مهرجان كان، وكيف ظهرت طفرة جينية على فئرانها جعلتها تواجه أزمة بيولوجية كهذه في وقت حساس كتنظيم أكبر احتفال رياضي في العالم؟
الحقيقة الصادمة للبعض، هي أنني، وبعض قضاء أسبوع بين باريس وليل، والتنقل بين ثلاثة فنادق وخمسة ملاعب والعديد من الأحياء، لم أرصد أي فأر هائل الحجم، بل لم أر أي فأر من الأساس.
أعلم أن الأمر لن يُشكل اكتشافًا لقراء “شهرزاد”، لكنه – صدق أو لا تصدق – قد يصدم البعض ممن صار شغلهم الشاغل منذ ديسمبر 2022 هو إثبات فشل تنظيم أي بطولة رياضية، سواء عبر الترويج للفكرة أو تصديقها بلا مراجعة أو تأكد. الأمر الذي زاد في حالة أولمبياد باريس لأسباب ثقافية وسياسية وصلت ذروتها خلال الأيام التالية لحفل الافتتاح، الذي يمكن اعتباره ذروة التصادم الثقافي بين منظومتي القيم الغربية والشرقية.
لن ننخرط كثيرًا في رصد هذا الصدام، لكن سنؤكد للجميع أن باريس مدينة كبيرة كأي مدينة أخرى، فيها بالتأكيد مناطق أقل نظامًا ونظافة من مناطق أخرى، لكن المستوى العام للنظافة فيها سيكون في أغلب الحالات يساوي أو يزيد عن مستوى النظافة في مدينتك.
أعلم بالطبع أن هناك فارقا بين الألعاب الأفريقية والألعاب الأوليمبية، لكنني أعلم أيضًا أن التأهل للأولمبياد حلم أي رياضي حول العالم، وأن مجرد المشاركة والحضور بين آلاف الرياضيين في القرية الأوليمبية تجربة يعيش اللاعبون يحلمون بها طيلة عمرهم. وإذا كان هؤلاء اللاعبون هم الأفضل في قارتهم، وتأهلوا بجدارة وفقًا للنظام الأوليمبي، فلا يملك إنسان الحق في الدعوة لتجريدهم من هذا الشرف.
لماذا نسافر دون أن ننافس؟
مهما كانت علاقتك بالرياضة ومتابعتك لها، بالتأكيد مررت خلال أيام الدورة الأوليمبية بمنشور أو تعليق يسخر من أحد الرياضيين المصريين، سواء قام الأمر على حدث حقيقي (كالملاكمة التي حُرمت من المشاركة لزيادة وزنها)، أو على أمر مختلق كليًا (كلاعبة التجديف التي ضلت الطريق خلال السباق). وسواء كانت الواقعة حقيقية أو مختلقة، ستجد المنطق الحاكم واحدًا: لماذا يذهب هؤلاء ليخسروا؟ لماذا يسافرون طالما ليس لديهم فرصة للحصول على ميدالية؟ البعض يقترح خططًا بالتركيز على الألعاب التي نمتلك فيها حظوظًا ومنع رياضيي الألعاب الأخرى من المشاركة.
حسنًا، أرجو إلقاء نظرة على هذا الجدول الذي يتضمن النتائج النهائية لدورة الألعاب الأفريقية التي أقيمت خلال مارس الماضي في العاصمة الغانية أكرا، والتي تصدرتها الرياضة المصرية بفارق هائل عن أقرب منافسيها، حتى أنك لو جمعت الميداليات الذهبية التي حصدتها أقرب ثلاث دول منافسة (نيجيريا وجنوب أفريقيا والجزائر)، ستجدها مجتمعة تتجاوز بالكاد الذهبيات التي جمعها الرياضيون المصريون (103 ذهبية مصرية في مقابل 108 للدول الثلاث).
أعلم بالطبع أن هناك فارقا بين الألعاب الأفريقية والألعاب الأوليمبية، لكنني أعلم أيضًا أن التأهل للأولمبياد حلم أي رياضي حول العالم، وأن مجرد المشاركة والحضور بين آلاف الرياضيين في القرية الأوليمبية تجربة يعيش اللاعبون يحلمون بها طيلة عمرهم. وإذا كان هؤلاء اللاعبين هم الأفضل في قارتهم، وتأهلوا بجدارة وفقًا للنظام الأوليمبي، فلا يملك إنسان الحق في الدعوة لتجريدهم من هذا الشرف، حتى لو كان مستوى رياضتهم في أفريقيا منخفضًا يجعل البطل لا يحقق مركزًا متقدمًا عندما يتنافس على مستوى دولي.
ألا تخرج المواكب الاحتفالية في الشوارع عندما يتأهل منتخب الكرة كل عدة عقود إلى كأس العالم؟ هل يملك شخص أن يُطالب بألا نسافر لكأس العالم بما أننا لا نملك فرصة منطقية للحصول على ميدالية فيه؟ خاصةً وأنه قياسًا على تاريخ مشاركاتنا الثلاث السابقة التي لم نحقق فيها أي فوز تبدو إمكانية الحصول على ميدالية أوليمبية في التجديف أو القوس والسهم (ولو بالصدفة) أعلى من الوصول لنصف نهائي كأس العالم لكرة القدم!
ليس من حق مخلوق أن يطلب من رياضي فقير، يمارس لعبة لا يتابعها الجمهور إلا كل أربع سنوات، أن تأتي هذه اللحظة فيرفضها لأن هناك من يمارسون اللعبة أفضل منه في أماكن أخرى من العالم. وتذكر أن لا أحد يشارك في الأولمبياد بالواسطة، فلكل رياضة نظام تأهل خاص بها أفرز عن هذه المجموعة المتنافسة. تذكر أيضًا أن شخصًا يتنافس في أرفع مسابقة عالمية فينال المركز الثلاثين ضمن ثلاثين منافسًا، فهذا لا يعني كونه الأخير، وإنما كونه ضمن أفضل ثلاثين يمارسون اللعبة حول العالم.
اتركهم يستمتعون بالتجربة
في حلقة من حلقات بودكاست “حكاوي مكاوي” تم تسجيلها قبل ثلاثة أشهر من أولمبياد باريس، تحدث أحمد الجندي، البطل الأوليمبي في رياضة الخماسي الحديث عن سعادته عندما يتعرف عليه بعض الناس ويبدون تقديرهم لحصوله على فضية أولمبياد طوكيو، مؤكدًا – بعقل راجح يفوق سنواته الأربع وعشرين – إنه يتفهم طبيعة الرياضة التي يلعبها والتي لا تمتلك شعبية كرة القدم أو حتى بعض الرياضات الأخرى.
لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
ربما سيتغير الحال قليلًا بعدما عاد الجندي ليتوج بالذهبية في باريس محطمًا الرقم العالمي في رياضته بالغة الصعوبة، سينال بالتأكيد بعض التكريم ويلتف حوله عدة رعاة، لكني على يقين أن مجموع ما سيجمعه من مسيرته الرياضية قد يتساوى مع أجر محترف يشتريه أحد الأندية الكبرى بملايين الدولارات فيقضي موسمًا أو اثنين ويسجل حفنة أهداف ثم يعود لبلاده دون أثر يُذكر، بل ربما يعود قبل انقضاء العقد حاصلًا على قيمته بالكامل إن قرر النادي الاستغناء عنه لسوء مستواه.
حسنًا، لا تتوقع أن أتحدث بالنبرة الشعبوية المعتادة عن لاعبي الكرة الفشلة الذين ينالون الملايين مقابل أبطال الخماسي وسلاح الشيش الذين يتقاضون الملاليم، وهي نبرة يحبها المصريون عمومًا عند الحديث عن بعض المجالات التي يحبونها ويكرهونها في الوقت نفسه كالفن والرياضة، فكم مرة سمعت في حياتك (أو حتى رددت بنفسك) مقارنة بين أجر المغني وأجر الطبيب؟
ليس من حق مخلوق أن يطلب من رياضي فقير، يمارس لعبة لا يتابعها الجمهور إلا كل أربع سنوات، أن تأتي هذه اللحظة فيرفضها لأن هناك من يمارسون اللعبة أفضل منه في أماكن أخرى من العالم.
لن أردد هذه النبرة لأنها باختصار خاطئة، تنم عن جهل واضح بطبيعة الأمور، ففي كل مكان في العالم، سواء كانت البلاد تقدر العلم والطب والمجالات الرصينة أو لا تقدرها، سيظل نجم الموسيقى ولاعب الكرة وممثل السينما ينال أضعاف ما يتقاضاه الطبيب، لأسباب تتعلق بحجم المكاسب المترتبة على هذا الأجر. لاعب كرة السلة في الدوري الأمريكي NBA يتقاضى متوسط راتب سنوي يقدر بـ 12 مليون دولار للاعب العادي ويصل لما يفوق مئة مليون دولار لنجم الفريق، فقط لأنها صناعة تُدر ما يفوق هذه الرواتب بمراحل.
لماذا إذن نذكر المقارنة بين حال البطل الأوليمبي ومحترف الكرة في مصر؟ لأننا نتذكر فجأة أن لدينا لاعبين يمارسون رياضات أخرى قبل الألعاب الأوليمبية، ونقرر بشكل جماعي أن نحملهم كل إحباطاتنا وسخطنا على الأوضاع المحيطة، فنحاسبهم على أحلامنا لا على واقع الأمور، فنفسد عليهم أهم لحظات في مسيرتهم الرياضية، البائسة بطبيعتها.
تخيل معي: المصارع المصري محمد جبر يعمل مع والده في الزراعة صباحًا، ويعمل فرد أمن مساءً في النادي الذي يتدرب فيه، وعندما يتأهل ليلعب في أعلى مستوى عالمي، لا يُترك ليستمتع بالتجربة ويخوض لحظات يرويها لأهله في المستقبل بعد أن ينساه الجميع مجددًا (بالمستقبل نقصد بعد شهر أو أثنين في أغلب الحالات)، يحاصره الجمهور بالضغوط والتعليقات المتحمسة تارة والساخطة تارة، فيدخل المنافسة حاملًا هموم العالم فوق أكتافه، وعليه إما أن يربح أو يتحول هدفًا لآلاف التعليقات الساخرة القاسية التي لم ينل اهتمامًا يوازيها ليوم آخر في حياته.
اتركوهم يستمتعون بلحظتهم، يقابلون نجومهم في القرية الأوليمبية ويخوضون حلم أي رياضي في العالم، فهي ليست حربًا وإنما مساحة للاستمتاع. ولنتذكر مقطع الربّاع الذي ينتمي لجزيرة كريبياتي، والذي فشل في رفع الثقل المطلوب خلال منافسات أولمبياد ريو دي جانيرو 2016 فقرر أن يعوض نفسه بالرقص أمام الجمهور الذي استقبله بعاصفة من المحبة والاحتفاء ليصير الفيديو مثالًا عالميًا للروح الأوليمبية. أحاول تخيل الموقف لو قرر ربّاع مصري أن يفعل أمرًا مماثلًا بعد رفعة فاشلة، سيتم اغتياله معنويًا في دقائق وتنتهي علاقته بالرياضة وبتمثيل بلده قبل أن يعود إليها.
لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
تحيا المرأة الجزائرية.. ولكن!
إذا كانت فئران فرنسا قد شغلت الرأي العام العربي، وإحباطات البعثة المصرية اختص بها الرأي العام المحلي، فالجدل حول الملاكمة الجزائرية إيمان خليف كان موضوعًا كونيًا تحدث عنه أشخاص بحجم إيلون ماسك وج. ك. رولينج، اللذان قررت إيمان المتوجة بالميدالية الذهبية مقاضاتهما وكل من عرضها لموجة هائلة من التنمر الإلكتروني تتعلق بهويتها الجنسية كامرأة مؤهلة للتنافس مع السيدات.
في الصورة الأعم، لا يمكن فصل القضية عن صراع اللجنة الأوليمبية الدولية مع الاتحاد الدولي للمكالمة الذي لا تعترف به اللجنة، الصراع الذي أدى لقرار استبعاد الملاكمة من الألعاب الأوليمبية كليًا. نعم، لن تتمكن إيمان من الدفاع عن ذهبيتها ليس لجدارتها الجنسية، ولكن لأن أولمبياد لوس أنجلوس 2028 لن تتضمن منافسات الملاكمة من الأساس (حتى هذه اللحظة على الأقل وقد يحدث تصالح خلال السنوات المقبلة).
لا يمكن أيضًا فصل الجدل عن كونه انطلق من شكوى ملاكمة إيطالية بيضاء من امرأة شرق أوسطية. هذا صحيح وقُتل بحثًا، بل يمكن بكثير من الارتياح القول بإنه كان المحرك الرئيسي لأغلب حملات التضامن العربية مع موقف إيمان.
شخصيًا، أتضامن معها بالطبع، فهي امرأة ولدت وشبّت وتُعرّف نفسها كامرأة، وإن كانت جيناتها تمنحها امتيازًا تنافسيًا بيولوجيًا، فهذا أمر في صميم الرياضة، الاعتراض عليه يشبه الاعتراض على كون لاعب كرة سلة أطول من المعدل الطبيعي وبالتالي فلا عدالة في تنافسه مع من يفوقهم طولًا. راجع ما كُتب عن الاختلافات الجينية التي تولّد ميزات فسيولوجية لدى رياضيين مثل ليونيل ميسي ومايكل فيليبس لتتأكد من أن الامتياز البيولوجي أمر في صميم التنافس الرياضي لا ضده.
لكن يبقى هنا التساؤل البديهي حول موقف نفس المدافعين المتحمسين لو تغير عنصر واحد في المعادلة. فلنفترض أن الموقف قد انعكس، وأن ملاكمة عربية اشتكت من السمات الذكورية لدى منافسة أوروبية. هل كان الجمهور العريض سيدافع عن حق الأوروبية في التنافس؟ أم كان الأمر سيؤخذ فورًا في اتجاه دعم الغرب للتحول واختلاط الهوية الجنسية، وأن الثقافة الغربية المعاصرة تفسد الأخلاق والرياضة معًا؟ سأترك الإجابة للقارئ.
لنفترض أيضًا انقلاب الآية لدى إيمان، ماذا لو كانت القضية تتعلق برياضي عربي ذكر، لكنه يتمتع ببعض الجينات والسمات الأنثوية، والتي تمنحه امتيازًا في رياضة ما ولتكن الجمباز الفني. هل كان الجمهور العربي ليتضامن بنفس الحماس مع رجل يشبه النساء كما تضامن مع امرأة تشبه الرجال؟ أترك الإجابة أيضًا لتوقعات القارئ وتقديره لطبيعة المجتمع الذي يعيش فيه.
بالمناسبة، الشوفينية الوطنية جزء لا يتجزأ من تشجيع الرياضة، ولولا رفع هؤلاء اللاعبين أعلام دولهم لفقدت الألعاب الأوليمبية غالبية متابعيها وأرباحها. ومن المنطقي أن يتحمس الجمهور عندما تتعرض امرأة من بني جلدته للظلم والتشهير، لكن ما أفكر فيه أن الحماس لو اتجه في هذا الموقف تحديدًا للاتجاه الصحيح، فهذا لا يعني إطلاقًا إنه نابع من تحليل منطقي للحالة أو قياس يمكن تعميمه، هي فقط محض مصادفة، مع الأسف.
لا يزال ذهني يحمل الكثير من الملاحظات والذكريات التي لا تسعها مساحة المقال، والأفكار التي حركتها تجربة حضور الألعاب الأوليمبية من قلب الحدث، بالتزامن مع متابعة ما يقوله عنها من يجلسون في بيوتهم بعيدًا ليقيّموا ويحكموا ويسخروا. أولمبياد باريس 2024 كما كانت منافسة رياضية محتدمة، كانت أيضًا نقطة لقاء مشتعلة بين ثقافات وخلفيات ورؤى متباينة للحظة العسيرة التي يعيشها عالمنا. فلعلنا نعود ونزور المزيد من الأفكار في مقال لاحق.