** لأول مرة.. أسرار “بريد الجمعة” الشهير الذي استأجر له شقة خاصة يقصدها أسبوعيا حاملا عشرات الرسائل وملخصاتها
** المتصوف الذي لا يعرفه الكثيرون كان يسافر مئات الكيلومترات لحضور مولد أحد أولياء الله أو يتمايل في ساحة “الحسين” في حلقة ذكر أو حفل لياسين التهامي
** نجح في تربية جيل كامل من الصحفيين بدأوا صغارا معه ثم انتشروا في مختلف الإصدارات وظلوا يدينون له بفضل لا يمكن نسيانه وأستاذية لا يمكن إنكارها
تمر هذا الشهر الذكرى العشرون لرحيل الكاتب الصحفي عبد الوهاب مطاوع (11 نوفمبر 1940 – 6 أغسطس 2004)، مدير تحرير الأهرام ورئيس تحرير مجلة “الشباب” الأسبق وصاحب “بريد الجمعة” الشهير الذي تحوّل معه إلى واحة للحائرين والمأزومين، والذي تجاوز توزيع عدد الجمعة من “الأهرام” بفضله حاجز المليون نسخة وفق أرقام التوزيع الرسمية وقتها.
عملت معه واقتربت منه عامين في بداية عملي الصحفي قبل وفور تخرجي من الجامعة، ليكون أول الكبار الذين أسعدني الحظ بالتتلمذ على أيديهم بعد أبي الأديب والكاتب الصحفي الراحل عبد الفتاح رزق، ومنهم الكبيران صلاح هلال وصلاح عيسى.
رجل مهذب خفيض الصوت، خجول، يتجنب النظر مباشرة في عينيّ من يكلمه، وربما يكون من الأفضل ألا يوجّه لك تلك النظرة المباشرة، لأنها غالبا ما تكون مقترنة بلوم أو عتاب أو كشف ساخر لحقيقة ما تقول.. له جانب متصوف لا يعرفه الكثيرون، قد يسافر مئات الكيلومترات في ذروة انشغاله لحضور مولد ولي من أولياء الله، وقد تلمحه – كما حدث معي أكثر من مرة – واقفا في ساحة الحسين في عز البرد، واضعا يديه في جيبي البالطو الضخم، متمايلا بوجد في حلقة ذكر أو حفل لياسين التهامي.
صحفي مثقف لا يتوقف عن القراءة ويؤمن بأنها وقود الكتابة، وبعد الاقتراب منه، ومع التسليم بهيبة يتمتع بها ومكانة كبيرة بين أقرانه يستحقها، تجده إنسانا بسيطا متواضعا، لا تمنعه سيارة المؤسسة وسائقها من التجول في شوارع وحواري القاهرة ومعرفة خفاياها وأصغر محلاتها، يدخن السجائر المحلية بـ”مبسم” قصير، ويضعها أمامه على وحدة أدراج مكتبه، لكنه يضع علبة سجائر مستوردة فوق المكتب لتدخينها مع الضيوف!
شقة “الجمعة”
من الممتع أن تراقب كاتبا مثله وهو يعمل. يكتب بحبر أسود سائل على ورق “فلوسكاب” أصفر مسطر، وليس مثلنا على الورق “الدشت” –وهو نوع من الورق الرخيص المعالج، وكان بلا سطور-. كثيرا ما يكتب الكلمة ثم يشطبها، ثم يرسم سهما منها إلى هامش الصفحة ليكتب كلمة بديلة لها داخل دائرة، وقد يتكرر ذلك عدة مرات في عدة سطور، لتبدو الورقة في النهاية مثل لعبة السلم والثعبان، لكن طاقم التنفيذ في “الأهرام” كان يفهم تلك اللغة الخاصة جيدا.
ولأنه كان يقوم بثلاثة أدوار كبرى بالمؤسسة العريقة، كمدير لتحرير صحيفة “الأهرام” ومسئول عن الصفحة الأولى، ومحرر للبريد اليومي وكاتب لبريد “الجمعة”، ورئيس لتحرير مجلة “الشباب”، ولأنه كان يعمل طوال اليوم، حيث يأتي ظهرا لمباشرة عمله في الصحيفة اليومية ثم يحصل على فترة راحة في بيته قبل أن يعود ليلا قاصدا مكتبه في “الشباب”، فقد كان لديه عدد كبير من المساعدين، أكثرهم في فريق البريد، يفتحون الخطابات ويقرأونها ويكتبون له ملخصاتها ويرفقونها معها، وكان ذلك يسري على بريد “الجمعة” المخصص للمشكلات الاجتماعية والعاطفية.
ولا يعرف الكثيرون أنه استأجر شقة خاصة لكتابة هذا البريد، حيث كان ينصرف من “الأهرام” مساء الثلاثاء من كل أسبوع متوجها إليها، حاملا عشرات الرسائل وملخصاتها لاختيار واحدة أو اثنتين منها فقط، وكان يخصص الأربعاء لكتابة الباب وإرساله مع سائقه لتنفيذه مساء نفس اليوم أو صباح اليوم التالي على أقصى تقدير ليكون جاهزا في موعد دوران عدد الجمعة مساء الخميس.
تجربة “الشباب”
أدركت، بعد سنوات من مغادرة مجلة “الشباب”، أهمية تجربة مطاوع معها في أواخر ثمانينات وأوائل تسعينات القرن الماضي، حين أعطى مجموعة كبيرة من “الشباب” فرصة التدرب والتعلم في مجلة ناجحة تصدر عن مؤسسة كبيرة مثل “الأهرام”.. لم تكن مثل هذه الفرص متاحة أو شائعة في ذلك الوقت، ولم يكن من المعتاد أن تُنشر أسماء طلاب في الجامعة –أسعدني الحظ بأن أكون منهم– على موضوعاتهم في مؤسسة قومية، حيث كان نشر الاسم في صحيفة “الأهرام” مثلا –ولا يزال في اعتقادي– يستوجب “التعيين” في المؤسسة، ذلك الحلم الذي كان يراودنا جميعا.
فهمت، بعد أن كبرت، أنه لا يمكن أن يحدث ذلك إلا على يد صحفي كبير لا يؤمن بمنح الفرصة للشباب فقط، ولا يملك الشجاعة والثقة في النفس فقط، بل يتمتع –قبل ذلك– بمكانة كبيرة في مؤسسته، وبثقة كبيرة في سياسته وقراراته.
سمعت عن الفرصة المتاحة في “الشباب” في الجامعة، والتحقت بالمجلة في أول يونيو من العام 1989، في إجازة عامي الجامعي الثالث، ولم أكن قد تجاوزت العشرين سوى بعدة أشهر. كان مطاوع مسافرا، فاستقبلني الراحل الأستاذ السيد عزمي، الذي كان مسئولا وقتها في المجلة قبل أن ينتقل إلى المسئولية الفنية عن مطبوعات مركز الأهرام للدراسات السياسية والاسترتيجية، ودلني على ما أحتاج، وأعطاني فكرة الموضوع الأول، وكان زيارة للمتحف “الإثنوغرافي” ضمن سلسلة “زيارة لمتحف لا يزوره أحد”، وعلمني كيف أكتب مذكرتيّ التصوير والجراج ليصاحبني مصور من “الأهرام” –الراحل محمد وسيم– وتنقلني سيارة من “الأهرام”.
عاد الأستاذ عبد الوهاب ونشر الموضوع على صفحتين، وهذه مساحة ضخمة بالنظر للنجاح الساحق الذي كانت تحققه المجلة في ذلك الوقت، والتنافس الكبير على النشر فيها. طالعت اسمي منشورا لأول مرة في عدد أول أغسطس ١٩٨٩. لم أنم بالطبع، وظللت طوال الليل أحملق فيه. وهكذا استحقيت أول مكافأة لي من “الأهرام”، وأول نقود أكسبها من الصحافة بشكل عام. كانت 25 جنيها بعد خصم الضرائب لأن الموضوع من صفحتين، أما الموضوع الصفحة، فكانت مكافأته 13 جنيها.
الأستاذ
لم أكن أشغل بالي بالمال، مكافأتي الكبرى تمثلت فيما تعلمته منه، حيث أعتبره أستاذي الثاني بعد أبي كما أشرت.. وأتذكر أنه بعد أن أقر موضوعي الأول وأرسله للتنفيذ، استدعاني وقال لي بالنص: “انت بتكتب كويس، بس لسه بدري على ما تكتب رأيك الشخصي، خصوصا إن ده تحقيق.. شوف الموضوع هيتنشر ازاي وإيه التعديلات اللي تمت عليه عشان تاخد بالك منها بعدين”.
وكنت بالفعل قد وضعت تصريحات المصادر ثم أضفت رأيي في الإهمال الذي يعاني منه المتحف ودعوت للاهتمام به كأنني أكتب مقالا، قرأت الموضوع بعد نشره وتعلمت ولم أكرر ما وقعت فيه، وبعد ذلك أصدر مطاوع تعليماته بعدم إرسال موضوعاتي للديسك (قسم تحرير وضبط الموضوعات) وإعدادها للنشر مباشرة.
لكنني عدت للذاتية مرة أخرى عندما أجريت حوارا مع الطبيب المصري العالمي ذهني فراج، ولم أحذف إشادة الرجل بي أثناء الحوار، فاستدعاني وكان درسه مجددا لي: “أنت تجري حوارا مع رجل مهم، تراجع إلى الظل واترك له مساحة الضوء كاملة”.. ولن أنسى سعادته عندما استوعبت الدرس في حوار تال أجريته مع المهندس محمد، نجل الموسيقار محمد عبد الوهاب، ضمن سلسلة بعنوان “شاب مشهور رغم أنفه”، وقال لي ما اعتبرته جائزة كبيرة حصلت عليها: “الحوار حلو قوي”، وبدلا من صفحتين، المساحة المعتادة للباب، أفرد له ثلاث صفحات ونصف الصفحة.
تكليفات صعبة
وبعد أن نلت ثقته، نقلني الأستاذ إلى المستوى الأعلى، وأصبح يكلفني بشكل مباشر بموضوعات أصعب، على الأقل بالنسبة لمحرر تحت التمرين في الثانية والعشرين من عمره، ومنها طلبه عمل تحقيق عن المقدم عمرو الشربيني، الذي استشهد في حادث اغتيال رئيس مجلس الشعب الأسبق، الدكتور رفعت المحجوب، في 12 أكتوبر 1990، والحصول على رسوم للضابط المغدور -الذي كان يهوى الرسم- كان يريد نشرها في مجلة “الشباب” نفسها لكن لم تسمح الظروف بذلك، وقال لي مطاوع إن الوقت حان لتحقيق رغبته.. أما آخر وأصعب جزء في التكليف، فكان إجراء أول حوار بعد الحادث مع اللواء سعد الشربيني، والد الشهيد ومدير أمن القاهرة ومحافظ الدقهلية الأسبق، وكان ذلك في حكم المستحيل لأنه لم تكن قد مضت سوى أيام قليلة منذ رأى بنفسه دماء ابنه على الأسفلت في موقع الحادث.
أنجزت المطلوب بالكامل وأتيت بالرسوم ونشرناها تحقيقا لرغبة الشهيد، وساعدني في ذلك الأستاذ أسامة سرايا، رئيس تحرير “الأهرام” الأسبق، ابن شقيقة اللواء الشربيني، بفضل صلة القرابة التي تربطه بالأسرة.
وبعد أقل من شهرين، أي في ديسمبر ١٩٩٠، كلفني الأستاذ بعمل تحقيق صحفي من بيت البطل أيمن حسن بقسم النحال بالزقازيق، مع والديه وإخوته.. وكان أيمن يُحاكم في ذلك الوقت بالسويس بعد أن اخترق الحدود المصرية الشرقية وقتل عددا من الجنود الإسرائيليين بعد أن شاهد أحدهم يدنس العلم المصري الغالي، وكذلك انتقاما لضحايا مذبحة المسجد الأقصى التي وقعت في 8 أكتوبر من نفس العام.
هذه المرة لم يكن هناك من يساعدني، سافرت وحدي وبحثت عن البيت حتى وصلت وتناولت الشاي مع أهل أيمن وحصلت على صور خاصة ومعلومات ومستندات، ومن فرط سعادة الأستاذ عبد الوهاب بالتحقيق، نشره في افتتاحية العدد، وكان آخر موضوع لي في المجلة، حيث انتقلت إلى “الأهرام المسائي” بدءا من يناير ١٩٩١.
قائد حقيقي
كان قائدا حقيقيا لجيل كامل من الصحفيين بدأوا صغارا معه ثم انتشروا في مختلف إصدارات “الأهرام” والمؤسسات الأخرى، ومنهم من استمر في المجلة بالطبع، وظلوا جميعا يدينون له بفضل لا يمكن نسيانه وأستاذية لا يمكن إنكارها.. ورغم أن معاملته لنا كانت تبدو قاسية، حيث لا تهاون في التكليفات والمواعيد التي كانت تبقينا حتى ما بعد منتصف الليل بمقر المجلة، وحيث لا “دلع” أو “تهريج” على الإطلاق مع بعض التعنيف إن لزم الأمر، إلا أنه نجح في تربية جيل من الجادين المترابطين بعيدا عن الحسابات الضيقة والحساسيات.. كنا نعمل وكأننا نلعب وكان ذلك يليق بأعمارنا، وكنا نساعد بعضنا البعض باقتراح المصادر ووسائل الاتصال بها وعناوين الموضوعات، وقد يرافق أحدنا الآخر لدى ذهابه لمصدره رغم أنه غير مشارك في الموضوع ولن يوضع اسمه عليه.