كان ياما كان.. في سالف العصر والأوان..
في إحدى القرى الصغيرة والتي تتبع إمارة الشمس، هناك حيث البيت الريفي الجميل بحديقته الغناء، تعيش أم وابنتها (فضة) مع (دهب) ابنة زوجها وأخت فضة من ناحية الأب.
لم تكن حياة دهب سعيدة بأية حال، فقد تعمدت زوجة أبيها إذلالها وكانت تكلفها بإنجاز كل المهام التي تتعلق بالمنزل أو خارجه. في كل صباح يستيقظ الجميع ولا أحد ينهض من سريره غير دهب، إذ يكون عليها إعداد الفطور لشقيقتها وزوجة أبيها، ثم تقوم بكنس ومسح البيت وكذلك غسل الصحون، وعليها أيضا أن تروي الحديقة، وأخيرا تحمل جرتها وتذهب لتملأها من البئر البعيدة هناك على أطراف القرية وحيث يكون الغروب قد حان.
صدفة لحياة جديدة
ذات مساء، وبعدما فرغت دهب من أعمال المنزل، حملت جرتها وتوجهت في طريقها إلى البئر، وكانت تلقي السلام على كل من يقابلها في الطريق، والجميع يردون تحيتها بكل مودة وحب، عندما وصلت دهب إلى البئر، كان المكان يبدو على غير عادته، وكأن شيئا ما قد تغير، لكن دهب لا تعرف ما الذي تغير على وجه التحديد، أنزلت دهب جرتها من على رأسها ووضعتها في البئر، وأخذت تدليها حتى وصلت إلى العمق، لكنها التفتت فجأة على أثر صوت يحادثها، ولم تكن صاحبة الصوت سوى امرأة عجوز تتكأ على عصاتها.
بادرت دهب العجوز قائلة: كيف أساعدك يا أمي؟
ابتسمت العجوز وقالت: أسعدك الله يا ابنتي، نال العطش مني ولا يقوى ظهري على الانحناء حتى أملأ جرتي من البئر.
قالت دهب: أخدمك بعيوني يا أمي.
ثم رفعت دهب جرتها وملأت كوبًا منها، وأعطتها للعجوز لتشرب، ثم تناولت جرة العجوز وملأتها، وقالت لها: سأحملها عنك حتى تصلين لبيتك.
شكرتها العجوز وقالت: ما أجملك يا ابنتي وما أحلى لسانك، ما اسمك ياصغيرتي؟
فأجابتها: اسمي دهب
قالت العجوز : يليق بكِ الاسم يا صغيرتي، وأحتار بعد جميلك معي بماذا أهديك! سأمنحك هدية تجعل كل من يلتقيك يهيم فيكِ وبكِ، وكلما تفتحين شفتيكِ بالكلام يخرج من بينهما ورودا وفراشات وألوانا جميلة وعطرا نادرا وأنيقا.
شكرت دهب العجوز على هديتها، وأثناء عودتها كان الباعة بالسوق يصفون بضاعاتهم ويغلقون محلاتهم، فبادرتها سيدة تبيع الخضر والفاكهة: مرحبًا دهب ليس هذا موعد عودتك من البئر فلماذا تأخرتِ؟
قالت دهب: لقد التقيت سيدة عجوزا وتأخرت معها بعض الوقت، كانت دهب تتحدث بينما تطير من بين شفتيها فراشات بأزهى الألوان وورودا كثيرة خلابة ورائحة ذكية لم يسبق أن اشتمها أحد، والناس كأن على روؤسهم الطير مسحورين بدهب ويتبعونها حتى وصلت إلى البيت.
فضة ودهب
كانت الأم تجلس بعصاتها الغليظة أمام باب المنزل، تنتظر دهب التي تأخرت كي تعاقبها، لكنها رأت كل أهل القرية يتبعون دهب وكأنها أميرة في موكبها، فتظاهرت بالرضا مؤقتا حتى يذهب الجميع، ثم انفردت بدهب واستجوبتها عن سر تأخرها، حكت دهب بكل صدق ما حدث لها، وهنا تفتق ذهن الأم عن حيلة تحاول من خلالها أن تحصل ابنتها فضة على ما حصلت عليه دهب، في الصباح طلبت الأم من فضة أن تحمل الجرة وتذهب للبئر وقبلت فضة على مضض.
عند البئر انتظرت فضة لتملأ الجرة، وكانت تقول لنفسها: الجرة ثقيلة وهي فارغة فكيف سأحملها إذا امتلأت!
ظهرت العجوز من بين الأشجار، واقتربت من فضة وطلبت إليها أن تروي عطشها، لكن فضة نهرتها وقالت لها: لا أراكِ ناقصة قدما أو ذراعا، يمكنك أن تروي عطشك بنفسك.
قالت العجوز: لكني مسنة يا ابنتي ولايقوى ظهري على الانحناء ولا حمل الجرة أو شدها من البئر، أنا مثل أمك.
قالت فضة : ومن أنت لتساوين نفسك بأمي.
غضبت العجوز من غرور فضة وتعاليها وإحجامها عن مساعدتها.
فقالت لها : سأمنحك شيئا يزيد من غرورك وتعاليك.
امتعضت فضة وحملت جرتها وقصدت طريق العودة لمنزلها.
وكانت كلما مرت بأحد ينفر من رائحتها، وإذا تحدثت تخرج من بين شفتيها روائح كريهة فيبتعد الناس عن طريقها.
وصلت فضة إلى منزلها، وكانت الأم في انتظارها فلما لمحتها تقترب سألتها: ما الذي حدث يادفضة؟
قالت فضة: لقد التقيت عند البئر عجوزا سليطة اللسان فنهرتها ومشيت.
في صباح اليوم التالي، كان أهل القرية يتحدثون عن الفارق الواضح ما بين دهب وفضة وكيف أن الكلام الحلو ومساعدة الناس يجعل الروح مشرقة ويمنح الناس طاقة إيجابية فينجزون أعمالهم بسعادة ورضا.
دهب والأمير
وهناك في باحة القصر، كان الملك والملكة ينظران من الشرفة إلى وحيدهما وهو يمتطي جواده بين مجموعة من خيرة الفرسان وهم يستعدون للذهاب لرحلة الصيد الموسمية.
قالت الملكة: ما شاء الله لقد صار الأمير رجلا وفارسًا مهابًا، أما آن أن نبحث له عن عروس؟
قال الملك: نعم لقد نضج بما يكفي. وعلينا أن نرتب أثناء غيابه لحفل كبير تحضره كل عذراوات الإمارة، في باحة القصر. وأشار ولي العهد لوالديه مودعا.
وتقدم الجمع خارجا من بوابة القصر، يتبعه الخدم والحرس متمنين له السلامة والفوز بصيد ثمين، أما دهب فقد كانت كعادتها اليومية في طريقها للبئر، لكن نفسها محملة ببعض الحزن من أفعال زوجة أبيها، فتنحت جانبا إلى طريق صخرية مغايرة، وارتكنت إلى شلال تبكي في أنين مكتوم.
تصادف مرور ولي العهد وموكبه من نفس الطريق، ولما لمحتهم دهب جرت على جرتها وحملتها وفي هذه الأثناء كان ولي العهد يميل ناحية الشلال فاصطدم بها حتى وقعت جرتها وتعثرت دهب وكادت تسقط أرضا لولا أن مد يده الأمير وأنقذها من السقوط، رفعت دهب وجهها لتتطلع فيمن أنقذها، فلما رأت أنه الأمير تلعثمت وارتبكت وصارت تتحدث بكلمات غير مفهومة، لكنها أثناء ذلك كانت الفراشات والورود والروائح الذكية تخرج من بين شفتيها فهام الأمير بها. وقبل أن يسألها عن اسمها وأهلها ومكان بيتها، كانت قد لملمت نفسها وركضت كأنها مهرة في الريح.
وصلت دهب لبيتها متأخرة، ثم حكت لزوجة أبيها ما حدث. فما كان من زوجة الأب إلا أن عاقبتها وحبستها بإحدى غرف البيت حتى تخفيها عن أعين الأمير. وبذلت الأم جهودًا كبيرة مع ابنتها فضة، وجلبت لها مدربين لتعليمها كيفية التعامل مع الناس وبخاصة رجال القصر، وكذلك كيف تقف شامخة كأنثى، وكيف تمشي ومتى تتحدث وكيف.
عاد الأمير سالما غانما من رحلة الصيد، ومبكرا عن ميعاد عودته، فقد كان شغوفا برؤية دهب مرة أخرى، لكنه لما عاد علم من الملكة ما فكرت فيه مع الملك أثناء غيابه وأن عليه أن يختار عروسه.
في مساء اليوم التالي، كانت الموسيقى تملأ جنبات القصر، وكذلك بعض الرقصات التي تتميز بها الإمارة، وما هي إلا دقائق حتى نزل الأمير يتوسط الملكة والملك، بينما اصطفت على جانبي الطرق كل عذراوات المملكة. مشى الأمير بين الفتيات يتطلع يمينا ويسارا، لكنه يعيد الكرة ولا يختار إحداهن، وفي نهاية اليوم قال لوالديه: ليست هنا التي أريدها.
فقال الملك: لقد جمعنا لك كل الحسان ولم تتغيب أي فتاة عن الحفل.
لكن الأمير قال له: لا يا أبي، أنا أعرفها من رائحتها وحلاوة لسانها.
وقص على والديه حكاية دهب، فأمر الملك رجاله بالبحث عن الفتاة، وكذلك تفتيش البيوت كلها للعثور على دهب، في هذه الأثناء كان قلب فضة قد رق لأختها وكانت تذهب لغرفة حبسها في الليل حاملة معها بعض الماء والطعام.
ذات مساء وعند عودة فضة من البئر حيث عهدت إليها الأم بتلك المهمة أثناء حبس دهب، قررت فضة أن تذهب للقصر، وتخبر الأمير عن مكان دهب.
ذهب الأمير في موكب مهيب بين رجاله، ولما وصل لبيت دهب، أمر الأم بأن تفتح باب الغرفة التي تحبس بها دهب، في القصر كان الأمير يقف مزهوا وفرحا بعثوره على دهب، وقد وقف في الشرفة الكبيرة مع والديه، بينما كانت دهب بجناح الوصيفات يحضرنها للعرس.
قالت دهب: لولا الحب لما وافقت أن يكون زواجي بالأمير مجرد مكافأة لعمل الخير لأن ذلك هو ما ينبغي أن يكون أمرا عاديا بين الناس، وهناك خلف الأشجار، كانت السيدة العجوز تضحك بسعادة بعد أن اطمأنت أن كل إنسان يحصل على جزاء ما عمل.