واحد من أجمل الأفلام المصرية القديمة التي تقدم فكرة ملهمة إلى حد كبير، كان فيلم “السفيرة عزيزة” يدور أساسا حول القوة الكامنة داخل الفرد الذي يبدو طيبا ومسالما وكيف أنه يمكنه عند الحاجة أن يتحول إلى ذلك المدافع الشرس.
وفيلم السفيرة عزيزة بطولة شكري سرحان وسعاد حسني، التي كانت في ذروة براءتها، وتدور أحداثه في حي شعبي حيث يسكن مدرس في بيت جزار يتصادف أن تكون شقته هي المقابلة لشقة المستأجر، ويتصادف أن يكتشف أن أحد زملائه المدرسين قد سكن في الشقة نفسها لكنه تركها بعد شجار مع الجزار لشكه في أنه ينظر إلى أخته “عزيزة”، وبالطبع فإن الحبكة تقوم على أن علاقة تقوم بين الساكن والأخت تنتهي بالزواج، حيث تطلب من الزوج أن يسترد ميراثها من أخيها الجزار ليستمر الصراع بين الزوج المتعفف والأخ والزوجة حتى ينتهي الفيلم بمعركة ينتصر فيها الزوج الطيب على الأخ القوي الشرس.
وسط ذلك كله يتم استخدام اسم عزيزة، على اعتبار أن أخاها قد جعلها فوق العادة ربما لجمالها الملحوظ، وربما لأنه يفرض عليها سياجا منيعا لا يقدر أو يحاول أحد اختراقه، ولذلك فإن أهل منطقتها يطلقون عليها اسم السفيرة عزيزة في نوع من التندر.
من هي إذن السفيرة عزيزة، التي صارت مثلا في الثقافة الشعبية المصرية؟
السفيرة عزيزة الحقيقية!
اسمها عزيزة سيد شكري دحروج من مواليد 1919، نشأت في قرية ميت يعيش التابعة لمدينة «ميت غمر» بمحافظة الدقهلية وسماها والدها -طبيب النساء والولادة- الدكتور سيد، باسم جدتها لأبيها الحاجة عزيزة.
تمسك والدها بتعليمها رغم الظروف الصعبة والتحديات التي واجهت الأم التي أصيبت بمرض ألزهايمر ولم تعد قادرة على رعاية أطفالها الخمسة، عزيزة وعصمت ومحمد وحسين وليلى، حيث تحملت المسئولية في سن مبكرة، فصارت الأم الصغيرة لأربعة أشقاء منهم حسين الذي ولد مصابا بالصمم مما زاد من المسئولية على الأم الصغيرة عزيزة، لكنها واصلت دراستها بتشجيع من الأب في عشرينيات القرن الماضي حتى تخرجت من مدرسة «الأم المقدسة»، بعد قضاء سنوات الدراسة الخمس ملتزمة بمناهجها المعتمدة على اللغة الفرنسية دون غيرها، ثم تلتحق بعد ذلك بالكلية الأمريكية، حيث تظهر عقبة اللغة الإنجليزية بالنسبة إليها لكنها تقبل التحدي، وتقضي الليالي ساهرة على كتب تعلم اللغة حتى أتقنتها مثل أهلها.
كانت الأخوات الثلاثة قد أصبحن الطالبات المصريات الوحيدات اللاتي التحقن بالتعليم المختلط في الكلية الأمريكية، وهذا مما زاد عزيزة فخرا بأبيها، التي قالت عنه في كتابها “حج الروح”: “أبويا هو السبب في دخولي الكلية، وكان عنده فكرة مهمة عن المرأة ودورها، لدرجة إنه كان بيزعل جدا من فكرة سيطرة المجتمع الذكوري عليها، وكان مناصرا للمرأة من الطراز الأول”.
تخرجت عزيزة من الكلية الأمريكية عام 1942، وجذبها العمل الاجتماعي، وتطوعت للعمل في الجمعيات الخيرية، وبدأت من نادى سيدات القاهرة محطتها الأهم في العمل الاجتماعي، حيث تعلمت كيفية إدارة جماعة ودراسة احتياجات المجتمع، على خلاف باقي الجمعيات التي كانت قائمة على جمع التبرعات، وتقديمها للمحتاجين، ولا ننسى أن كل ذلك قبل قيام ثورة 23 يوليو.
عزيزة هانم الزوجة
في عام 1945 تزوجت عزيزة دحروج من أحمد بك حسين، وهو أول سفير لمصر في الولايات المتحدة الأمريكية عقب ثورة يوليو، وقد كان زوجها شخصية لامعة في مجال العمل التعاوني والمجتمعي واعتبرته عزيزة أستاذا لها، وكان هو النموذج المبهر الثاني في حياتها بعد الأب.
بعدها بأعوام قليلة وقبل قيام ثورة يوليو بعام واحد بدأت الانطلاقة الكبرى للزوجين، ووضع أحمد بك حسين -الزوج- اللبنة الأولى لوزارة الشؤون الاجتماعية في مصر من خلال جمعيته التي أطلق عليها «مصلحة الفلاح»، وانطلقت عزيزة بدعم زوجها للعمل في الريف مع الفلاحات للتعرف إلى مشاكلهن ومساعدتهن وأسست أول دار حضانة في قرية سنديون بالقليوبية وهي أول حضانة في الريف المصري للاهتمام بالأطفال وتحسين صحتهم ورعايتهم، وانتشرت الفكرة في عدد كبير من القرى بفضل السفيرة عزيزة، وكان ذلك تمهيدا لتعيينه وزيرا للشئون الاجتماعية في حكومة الوفد في عام 1951، قبل أن يعتذر عن المنصب للتفرغ للعمل الاجتماعي، كما اعتذر عن شغل منصب مساعد الأمين العام للأمم المتحدة، ليتمكن من رعاية والدته المريضة.
بعد الثورة
غير أنه بعد فترة سافر مع زوجته عزيزة إلى الولايات المتحدة بدعوة من الأمم المتحدة، حين حصلت عزيزة هانم على لقب السفيرة بصفتها خبيرة اجتماعية لتصبح أول امرأة عربية تقوم بجولة في دول العالم الغربي لإلقاء محاضرات عن العمل الاجتماعي، وكان ذلك في بدايات عام 1952، حيث جابت حوالي أربعين ولاية أمريكية للتحدث عن التنمية البشرية والعمل الاجتماعي وحققت شهرة واسعة حين تحدثت الصحافة الأمريكية عن السفيرة عزيزة، لتنال اللقب إعلاميا للمرة الأولى.
وفي أثناء هذه الجولة قامت ثورة يوليو، وفي محاضرتها في بنسلفانيا تحدثت حول التغييرات التي ترجوها في مصر بصورة إيجابية، وبحماس شديد دفع رئيس مجلس الكلية التي حلت ضيفة عليها لإرسال برقية إلى الرئيس محمد نجيب ليؤكد أن “السفيرة عزيزة هانم دحروج قد نجحت في تمثيل مصر بامتياز وقدمت صورة وافية وراقية عن بلدها”.
اعتذر أحمد حسين عن تولي وزارة الشئون الاجتماعية في حكومة الثورة، مفضلا العمل العام، لكن هذا الاعتذار لم يؤثر على ترشيحات أخرى فقد نجح في ترتيب لقاء بين جمال عبد الناصر والسفير البريطاني في بدايات عام 1953 مما أسهم في دفع مفاوضات الجلاء، وهو ما جعل عبد الناصر يصر على تعيينه سفيرا لمصر بالولايات المتحدة الأمريكية، وقد حاول الرفض في بداية الأمر لكن والد عزيزة كان له دور في إقناعه هذه المرة ليعود الزوجان إلى الولايات المتحدة ولتبدأ السفيرة عزيزة في دور جديد ومرحلة جديدة، حيث تم تعيينها مرة أخرى في لجنة المرأة بالوفد المصري في الأمم المتحدة، حيث كانت أول امرأة عربية تتولى منصبا رسميا لتمثيل بلادها في الأمم المتحدة.
عزيزة وتنظيم الأسرة
كانت السفيرة عزيزة أول من يطرح فكرة تنظيم الأسرة، واعتبرها المجتمع الدولي شجاعة كبرى، فحين خشيت الدول الكبرى عرض الموضوع على اعتبار أنه تدخل في الحياة الشخصية عالجت عزيزة الأمر من وجهة نظر دينية وربطته بالممارسات الضارة ضد المرأة، فتم ترشيحها لتكون عضوا بلجنة المرأة في الأمم المتحدة، وقد بقيت في هذه اللجنة لمدة سبعة عشر عاما كما أنها نجحت في إدراج تنظيم الأسرة على جدول أعمال المنظمة الدولية في عام 1956.
بعد تعقد العلاقات بين مصر أمريكا في أعقاب العدوان الثلاثي على مصر عاد أحمد حسين إلى مصر ورفض عرض جمال عبد الناصر لتعيينه سفيرا متجولا، وفضل اعتزال المناصب الرسمية ليتفرغ للعمل العام حتى وفاته في نوفمبر 1984.
عودة إلى مصر
عادت السفيرة عزيزة إلى مصر عام 1958، لتبدأ في العمل العام التطوعي مرة أخرى وتعمل على التنمية الريفية، حيث أنشأت أول حضانة للأطفال في الريف المصري في قرية سنديون بمحافظة القليوبية، كما بدأت في تجربة فكرة تنظيم الأسرة في الريف المصري.
تقول: بدأت الجمعيات الأهلية تطلب التصاريح لافتتاح عيادات فتم تشكيل لجنة لتجميع الجهود وتبادل الخبرات خاصة مع ظهور وسائل جديدة لمنع الحمل، وكانت العادات والتقاليد والمعتقدات الخاطئة خاصة في الريف عائقا تغلبنا عليه بالاستعانة برجال الدين المستنيرين والأطباء، ونتيجة لما حققناه من نجاح تم اختياري لرئاسة الاتحاد الدولي لتنظيم الأسرة، ثم تم تأسيس جمعية تنظيم الأسرة بالقاهرة التي أصبح لها فروع في كل المحافظات، ثم تم تأسيس جمعية أسرة المستقبل.
لم تتردد السفيرة عزيزة في رفض منصب وزيرة الشئون الاجتماعية الذي عرضه عليها رئيس الوزراء ممدوح سالم عام 1977، وفضلت أن تواصل جهودها متطوعة، فترأست وفد مصر الرسمي في المنتدى الدولي للمرأة والسكان والتنمية عام 1978، ثم في عام 1979 شاركت في صياغة التصور النهائي لاتفاقية الأمم المتحدة للقضاء على أشكال التمييز ضد المرأة، ثم رأست الاتحاد الدولي لتنظيم الأسرة منذ عام 1977 حتى عام 1983، لتحصل في عام 2000 على جائزة الاتحاد لإنجازاتها الرائدة على مستوى العالم.
واعترافا بهذا الدور الرائد في تغيير وضع المرأة والأسرة على مستوى العالم قلدتها منظمة الأغذية والزراعة ميداليتها، وهي الميدالية التي حصل عليها كل من الأم تريزا وأنديرا غاندي.
وفي التاسع عشر من يناير من عام 2015 وفي سن الرابعة والتسعين رحلت السفيرة عزيزة عن عالمنا بعد أن تركت مسيرة تفخر بها كل مصرية وكل مصري، ليبقى السؤال المطروح باستمرار: من المسئول عن عدم معرفة أبناء مصر بما فعلته هذه المرأة النموذج لكل مصرية؟ وكيف يمكن أن نضع مثل اسم السفيرة عزيزة في الذاكرة الوطنية؟ وكيف يمكن أن تمثل هذه الأسماء نموذجا لاستعادة الثقة القومية؟ ولا تظل مجرد اسم لا يستدعي في الذاكرة سوى فيلم سينمائي لا يمثل حقيقة هذا الاسم.