ربما زرت المسجد الحرام وكانت زيارتك في الجو الحار، وربما اندهشت عند الطواف بقدميك الحافيتين أن الأرض باردة، مما يسهل السير عليها في أي وقت، نوع غريب من الرخام أبيض ربما لم تشاهده في أي مكان، هذا النوع الذي تم استيراده خصيصا من اليونان لأرضية الحرم المكي، صاحب فكرة استيراده ومنفذ توسعة الحرمين الشريفين التي وجه بها الملك فهد هو مهندس مصري لا يعرفه الكثيرون.
كان الملك فهد قد اطلع على مجموعة من الكتب التي تتحدث عن عمارة المساجد وجذبه كتاب لمهندس مصري اسمه محمد كمال إسماعيل، وكان الكتاب بمثابة موسوعة للمساجد المصرية من وجهة نظر معمارية، فطلب لقاء المهندس وكلفه بعمل تصور لتوسعة الحرمين فقبل على الفور، ولكنه اشترط أن يكون متطوعا، أي لا يحصل على أي أجر.
أصغر من حصل على الثانوية
ولد محمد كمال إسماعيل في 15 سبتمبر 1908 بمدينة ميت غمر بمحافظة الدقهلية، ودرس في مدارس المدينة الابتدائية، ثم انتقلت أسرته إلي مدينة الإسكندرية، وهناك أنهى تعليمه الثانوي في مدرسة العباسية، وكان أصغر من حصل على الثانوية في تاريخ مصر.
توجه بعدها إلى القاهرة للالتحاق بجامعة فؤاد الأول، حيث التحق بكلية الهندسة، فكان واحدا من بين أفراد دفعته التي لم يتعد عددها سبعة دارسين، وعلى الرغم من أنه تتلمذ على يد أساتذة من إنجلترا وسويسرا درسوا له في الجامعة فنون العمارة العالمية فقد تأثر بشدة بفن العمارة الإسلامية ليبدع فيه عقب التخرج ويكون ملهمه لعمل دراسة شاملة عن المساجد المصرية.
أصغر حاصل على الدكتوراه
بعد حصوله على بكالوريوس الهندسة من جامعة فؤاد الأول في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، سافر إلي فرنسا للحصول على الدكتوراه التي حصل عليها للمرة الأولى في العمارة من مدرسة بوزال عام 1933، أي كان عمره 25 عاما فقط، ليكون بذلك أصغر من يحمل لقب دكتور في الهندسة، تلاها بعدها بسنوات قليلة بدرجة دكتوراه أخرى في الإنشاءات.
بعد عودته إلى مصر التحق بالعمل في مصلحة المباني الأميرية التي شغل منصب مديرها في العام 1948، كانت المصلحة وقتها تشرف على بناء وصيانة جميع المباني والمصالح الحكومية، ليقوم بنفسه بتصميم العديد من الهيئات ومنها المبنى الحالي لدار القضاء العالي الذي يتميز بتصميمه الفرعوني المهيب، ومصلحة التليفونات، ومجمع المصالح الحكومية الشهير بمجمع التحرير الذي أنشئ عام 1951 بتكلفة 200 ألف جنيه للإنشاءات، ومليون جنيه للمباني التي بلغ ارتفاعها 14 طابقا، وكان لتصميم المبنى على شكل القوس دور أساسي في تحديد شكل ميدان التحرير، وما تفرع منه من شوارع -على حد وصف المعماريين في تلك الفترة-.
المهمة المستحيلة
في منتصف الثمانينيات من القرن العشرين، كان محمد كمال إسماعيل قد جاوز السبعين عاما وله من إنجازاته الكبيرة ما جعله يتفرغ تقريبا للتأليف المعماري، حين استدعاه الملك فهد بن عبد العزيز وأوكل إليه مهمة إعداد التصميمات الخاصة بمشروع توسعة الحرم النبوي الشريف، والإشراف على عمليات التنفيذ. وكانت هذه أكبر عملية توسعة للحرم منذ قرون عديدة.
وقد قال إسماعيل في لقاء تلفزيوني نادر ووحيد، عن توسعة الحرمين: “لا يجرؤ رجل ذو قلب على الاقتراب من مشروع من هذا النوع”.
وأضاف المهندس المصري: “المهمة الموكولة لي كانت الربط بين العلاقة الوظيفية والعلاقة الجمالية، فحرصت على عمل مكان كبير يصلي فيه الحجاج، أما الوظيفة الجمالية دي فـهي جزء من عملي، بالإضافة إلى المكونات الأخرى من تكييفات ومظلات وقباب وواجهات وأرضيات وجراج تحت الأرض”.
وقد حرص على اختيار نوع الرخام الذي يؤدي إلى تخفيض درجة الحرارة وهو يسمى رخام التاسوس ويستورد خصيصا من اليونان.
أما عن أعمال توسعة الحرم المكي، فقد كان أبرز ما يفكر فيه هو تكييف المسجد الحرام، كما اجتهد كثيرا في إذابة الفارق بين التوسعات الجديدة وآخر توسعات حدثت قبل خمسين عاما، فلا تشعر في هذا المكان المقدس بأي نشاز هندسي أو بصري.
إنجازات
رفض المهندس المصري الحصول على مقابل لتوسعة الحرمين الشريفين، وتم تكريمه من قبل منظمة المؤتمر الإسلامي بحصوله على جائزة التفوق في العمارة والتي سلمها له الملك فهد شخصيا.
قدم إلى المكتبة العربية والعالمية موسوعة مساجد مصر في أربع مجلدات عرض فيها لتصميمات المساجد المصرية وطرزها وسماتها المعمارية التي تعبر كل منها عن مرحلة من مراحل الحضارة الإسلامية، وقد طبعت تلك الموسوعة فيما بعد في أوروبا، ونفدت كما يقول المتخصصون فلم يعد منها أي نسخ سوى في المكتبات الكبرى. وقد كانت تلك الموسوعة سببا في حصوله على رتبة البكوية من الملك فاروق تقديرا لجهوده العلمية في تقديمها.
انشغل بحياته العملية عن مثيلتها الخاصة، لينسى حتى فكرة الزواج إلى أن اتخذ قرار الارتباط في العام 1952، وهو في الرابعة والأربعين من العمر ولينجب ابنا واحدا، أنجب له حفيدان، ومع رحيل الزوجة في العام 2002، ورحيل غالبية أصدقائه أيضا، زادت حالة الانعزال التي عاشها خاصة بعد أن بلغ الخامسة والتسعين من عمره ورحل قبل أن يتم العام المائة من عمره، في عام 2008، بعد أن كرمته محافظة الدقهلية باعتباره واحدا من أهم أعلامها وقد حضر التكريم الأخير بنفسه على الرغم من اقترابه من حافة المائة عام ليلقى ربه بعدها راضيا عن كل ما أنجزه من عمل استمر لأكثر من ثمانية عقود.