قبل بداية الإرسال الرسمي للتليفزيون المصري، وقبل أن يتم تدشينه في 21 يونيو 1960 يتم إجراء اختبارات القبول لمن يودون الالتحاق به، النخبة المختارة ستخوض فترة تدريب تؤهلهم بعدها للعمل فيه وستكون منهم نواة طيبة للمشروع الضخم الذي ينتظره الجميع.
اختبارات القبول بالتليفزيون -كما وصفتها الجرائد والمجلات حينها- كانت غاية في الصعوبة، فيخبرنا محرر مجلة المصور بأن “امتحان التليفزيون صعب نار” وكانت الأسئلة عن مؤتمر الأقطاب، والتنظيم الجديد للصحافة. وكان سؤال الترجمة هو البيان المشترك الذي أصدره نــهـرو وجمال عبد الناصر وناشدا فيه العالم ألا يتركوا الموقف الدولي للإنفجار.
ورغم توجّه الدولة الجديدة -حينها- لتمكين المرأة وانتشار عبارات على غرار “نصف المجتمع” بعد ثورة 1952 واتساع تداولها؛ إلا أننا نلمح التحــيُّـز ضد النساء حين يخبرنا المحرر أن الجنس الخشن كان مقبلا على أوراق الإجـابة وكان واضحا أنه أشطر من الجنس الناعم! ويزيد المحرر أن أكثر الفتيات المتقدمات جئن وفي اعتقادهن أن الامتحان امتحان صورة فقط. أي أنهن سيقفن أمام عدسة الكاميرا ويراقب الممتحِـن صورهن على شاشة التليفزيون، ويجرب أصواتهن، ولهذا صدمهن أن يجدن امتحانا جديا.
لا ينسى محررنا أن يذكر ملاحظاته من قبيل أن نسبة الجمال كانت مرتفعة وأن بعضهن قد خرجن من اللجنة بعد نصف ساعة من توزيع الأوراق، كما يذكر أن الاختبارات قد شهدت حالة إغماء واحدة، في حين جاء طالب بجهاز راديو صغير فتحه على موسيقى وراح يجيب على أنغام الموسيقى، نافيا أن تكون هناك حالات غشٍ لاعتماد الاختبار على المعلومات العامة وليس مما يُـذاكر في الكتب.
أمـا المتقدمون الذين تجاوز عددهم الألف فقد كانت نسبة كبيرة منهم ممن لديهم وظائف بالفعل.. ولكن التليفزيون أصبح أمــلا بالنسبة لجيل الشباب سواء حديثي التخرج أو المشتغلين منهم، وكان الشرط الأبرز لدخول الامتحان هو الحصول على شهادة جامعية. وكانت ثلاث صحفيات من دار أخبار اليوم قد تقدمن للاختبار، واثنتان من دار الهلال هما سماء العاصي وسهير الكيالي، وقد راقب السيد محمد طيفور وكيل الإذاعة للشئون الإدارية مطابقة وجه الممتحن على بطاقته الشخصية.
يقول خبراء الإعلام الألمان إن “مذيع التليفزيون ومذيعته يجب أن تتوافر لهما صفات مميزة شكلا وموضوعا، وقد يفشل أبرع الممثلين في أن يكون مذيعا للتليفزيون لأن مخاطبة الجماهير شيء وأداء الممثل لقطعة تمثيلية أمام ممثل شيء آخـر.” من هذا المنطلق شكَّـل السيد/ صلاح زكي لجنة من رؤساء الأقسام والمراقبين بالإذاعة لإختيار المذيعين والمذيعات الذين سيقدمون أول البرامج عند افتتاح التليفزيون.
وكانت عشرات الوجوه الجديدة تتقدم كل يوم لماسبيرو قُـبيل افتتاحه ليُعقد لها اختبارات دقيقة. ولم يكن شرط جمال الوجوه الباهر هو الأساس؛ بل يكفي الشخصية القوية والصوت الواضح والطلة أو الحضور المناسبين للظهور في التليفزيون.
وفي حين كانت تجرى الاختبارات والتدريبات لقبول دفعات جديدة للعمل بماسبيرو كانت معركة أخرى تتم في أروقة ماسبيرو يخوضوها مؤلفو التليفزيون لمضاعفة أجورهم مع الدكتور عبد القادر حاتم الذي توصل إلى قرارات بعد اجتماع طويل مع وفد من المؤلفين استقر الرأي فيه على رفع أجورهم على أن يكون بضعف أجـر الكتابة للإذاعة.
جاءت تبريرات مؤلفي الشاشة الصغيرة أن العمل بالتليفزيون يستلزم مجهودا كالمجهود الذي يبذل في العمل السينمائي. وطبيعي أن يستعين التليفزيون في بداياته بمؤلفي الإذاعة والسينما كوسيطين سبقاه في أسرة وسائل الاتصال الجماهيرية. وبذلك وجدنا العديد من نجوم أثير الإذاعة المصرية ينتقلون للشاشة الصغيرة، ومنهم من تقلّـد منصبا إداريا بخلاف عمله الفني، وها هو الإعلامي سعد لبيب وقد أصبح سكرتير عام التليفزيون ينتقل ببرنامجه الإذاعي “مجلة الهواء” -والذي كان يقدمه مع الإذاعي فهمي عمر في الإذاعة- إلى الشاشة ليصبح اسمها “مجلة الأسبوع” والتي عالجت الأخبار الخفيفة والمنوّعة. وكانت مدة هذه المجلة نصف الساعة. أما القدير طاهر أبو زيد فتقول الصحافة إن برنامجه “رأي الشعب” الذي كان يقدمه في الإذاعة سينقله للتليفزيون. وقد يذاع البرنامج هنا وهناك. فتراه مرة على الشاشة وتسمعه مرة في الإذاعة في أسبوع واحد.
أما أحمد فرَّاج فقد جاءت الأنباء بانتقال برنامجه “المائدة المستديرة” الذي كان يقدمه في الإذاعة إلى التليفزيون بعد أن توقفت إذاعته، وفي هذا البرنامج يقدم لنا فراج كبار رجال الاقتصاد أو العلوم أو الآداب لتناول قضية تهم المواطنين. أما موضوع أولى حلقاته فكانت عن مفهوم الإشتراكية، واشترك فيها كل من الدكتور حسين خلاف ولبيب شقير.
ومن البرامج الثقافية التي ستنتقل من الإذاعة للتليفزيون “ندوة الفكر” لسميرة الكيلاني وسيذاع مرة في الشهر. وفي أولى حلقات الندوات سيناقش إثنان من النقاد االمعروفين “في سبيل الحرية” وهي القصة التي بدأ الرئيس جمال عبد الناصر كتابتها وهو طالب بالمدرسة الثانوية، وأقامت وزارة الثقافة مسابقة لتكملة هذه القصة. وسيناقش الكتاب الدكتور عبد القادر القط والدكتور محمد رشاد رشدي.
ورغم احترافية الإعلاميين السابقين وجدارتهم الإذاعية التي جلبتهم إلى الشاشة؛ إلا أن ماسبيرو فتح ذراعـيه للموهوبين من الهـواة، فتأتي صفحة الإذاعة والتليفزيون بجريدة الأهـرام في يوم 30 يوليو 1960 حاملة نبأ بعنوان: “ركن الهواة بالتليفزيون يتولاه واحد منهم”، ونقرأ في متنه أن السيد/ سعيد أبو السعد مراقب التخطيط والتنفيذ بالتليفزيون يستدعي السيد/ إبراهيم لبيب الذي أنشأ “ركن الهواة” بإذاعة الإسكندرية، وأسند إليه اعداد وتقديم ركن الهواة بالتليفزيون، حيث سيشكِّـلان لجنة لإختيار الصالحين من المتقدمين وعددهم 500 شاب وفتاة ومن يُثبت جدارته سيُنتفع به في البرامج العامة ومن ثمّ سيُنقل إلى قائمة المحترفين.
ثم كانت أول حلقة لبرنامج الهواة الذين أهّـلتهم كفاءتهم للظهور في التليفزيون حين بدأ سعيد أبو السعد في تقديمهم في تمام العاشرة والربع مساءا من كل أربعاء من مركز رعاية الشباب في الجزيرة. وكان البرنامج مذاعا على الهواء مباشرة. وقد اكتشف هذا البرنامج العديد من المواهب الغنائية والأدائية التي أثرت الشاشة الصغيرة بنجومها أمثال سيد الملاح فنان المونولوج الشهير. هواة صاروا نجوما محترفين عبر هذا الركن، فقد كان حلم تدشين التليفزيون الوطني عريضا ورحبا، ولكل مواطن أن يشارك فيه ويفتح باب أمل في الالتحاق بهذا الكيان الكبير.