أحدث الحكايا

د. هيثم الحاج علي يحكي: حكاية محمود الفلكي.. رائد الجغرافيا والفلك وصاحب الميدان

كثير منا يعشق السير في وسط القاهرة، التي ترتبط فيها أسماء شوارعها بذكريات لا يمكن نسيانها، لكن الأسماء تحمل خلفها حكايات تعبر عن ظهير تاريخي لو تم الالتفات إليه لعرفنا أنها ليست مجرد أسماء.

كانت شقة جمعة الشوان التي يلتقي فيها بالريس زكريا في مسلسل “دموع في عيون وقحة” تقع في شارع الفلكي في باب اللوق، ربما كانت هذه هي المرة الأولى التي ألمح فيها هذا الاسم، الذي يحمل إشارة إلى العلم من ناحية وإلى الدجل من ناحية أخرى، فمن هو هذا الفلكي الذي سمي باسمه واحد من أشهر شوارع القاهرة على صغر مساحته.

ميدان الفلكي بوسط القاهرة

 

الحكاية متكررة، حدثت كثيرا في مصر، فتى يولد في إحدى قرى الدلتا ويتعلم في كتابها القرآن والعلوم الأولية، وبالصدفة يكون له أخ يقيم في المدينة فيصحبه معه إلى المدينة ليلتحق بالمدرسة وينبغ فيها فتتغير حياته وينتقل من رتبة الفلاحين إلى رتبة الباشوات.

حكاية الفلكي

هكذا كانت ببساطة حكاية محمود أحمد حمدي، الفتى الذي ولد في قرية الحصة بالقرب من طنطا، وهي غالبا القرية المشهورة الآن بإنتاج أجود أنواع عسل النحل.. حصة شبشير. ولد في عام 1815، وبقي في القرية حيث تعلم في كتاب القرية العلوم الأولية والقرآن، وكان أخوه قد التحق بسلاح البحرية المصرية خلال التطوير الذي قام به محمد علي لجيشه، وسكن هذا الأخ الإسكندرية، فاصحب أخاه محمود ليلحقه مثله بمدرسة الترسانة البحرية بالإسكندرية، وكان أن التحق بها فعلا في سن التاسعة عام 1824.

بعد تسع سنوات تخرج محمود من مدرسة الترسانة البحرية عام 1833، لكنه لم يكتف بهذا القدر من التعليم، فقد بدأ طموحه في الظهور فالتحق مباشرة وهو في رتبة بلوكامين بمدرسة المهندسخانة، وتخرج فيها ليتم تعيينه مدرسا للجبر والتفاضل في المدرسة نفسها، ليكون على مقربة من علي باشا مبارك، الذي رشحه لبعثة إلى فرنسا ليستكمل تعليمه للرياضيات الحديثة.

محمود باشا الفلكي

 

عندما وصلت أخبار تفوقه إلى محمد علي باشا، فكر في الاستفادة من علمه فطلب منه تحديد المساحات المنزرعة من الأرض لتحديد خراجها، فاستطاع أن يعين خطوط الطول ودوائر العرض لنحو ثلاثين نقطة في الدلتا والوجه القبلي، كما قام بقياس المساحات المنزرعة على أسس علمية لأول مرة في مصر.

سافر العالم الشاب إلى فرنسا، التي انغمس في مختبراتها وقاعات درسها وتعرف على علمائها الذين أبدوا إعجابهم بذكائه ودأبه على تحصيل العلم، فحصل على شهادته العليا في عام 1854 أي بعد أربع سنوات فقط من بداية بعثته، لكنه لم يكتف بالشهادة بل تنقل بين العديد من العواصم والمدن الأوروبية متواصلا مع مراكزها العلمية.

أبحاث الفلك

لم يتوقف إنجاز الفلكي على تحصيل العلم بل كان حريصا على إنتاج أبحاث جديدة تطور من علوم الفلك والجغرافيا معا، ونجح بذلك في قياس شدة المجال للمركبة الأفقية للقوي المغناطيسية الأرضية في ثلاثين مدينة ألمانية وبلجيكية لصالح أكاديمية العلوم البلجيكية، وبتكليف من الحكومة المصرية وسع منطقة أبحاثه لتشمل الجزر البريطانية وهولندا وفرنسا وبلجيكا، عين فيها الميل المغناطيسي للمحصلة الكلية للمجال المغناطيسي الأرضي في خمس وأربعين محطة أرصاد في مدن هذه الدول، وأنهى رصده بإيجاد خريطة دقيقة لهذه المنطقة الجغرافية، وقارن بين النتائج التي توصل إليها ونتائج العالم الفلكي الإنجليزي إدوارد سايين عام 1837 والتي اقتصرت على الجزر البريطانية فقط، فكان محمود الفلكي أول من خرج بنطاق أبحاثه عن نطاق الجزر البريطانية.

عاد محمود الفلكي من فرنسا في 18 أغسطس 1859م في عهد سعيد باشا، ونظرا لما حققه من إنجازات في المحافل الأوربية فقد تم انتخابه عضوا في المجمع العلمي المصري، كما انتخب وكيلا للجمعية الجغرافية المصرية ثم أصبح رئيسا لها، وقد أشرف على المرصد الفلكي بعد نقله من بولاق إلى العباسية (القاهرة)، كما قام برسم خريطة طبوغرافية للقطر المصري بتكليف من الحكومة المصرية وهي المهمة التي استغرقت عشر سنوات.

خريطة الإسكندرية

 

عمل محمود الفلكي وزيرًا للأشغال في وزارة محمود سامي البارودي باشا في عام 1882، ثم عين وكيلا لنظارة المعارف في وزارة شريف باشا من عام 1882 إلى عام 1884م وتوفي في عام 1885.

الفلكي والنهضة المصرية الحديثة

كان محمود باشا الفلكي واحدا من جنود النهضة الحديثة الذين فكروا مبكرا في العلوم البينية والإفادة منها فهو أول من ربط العلوم الفلكية بالعلوم الجغرافية كما استطاع خلق مجالات مهمة للاستفادة من مخرجات هذه العلوم.

وقد كان من أوائل من فكروا في الحساب العلمي الفلكي للشهور القمرية، فكان يحسب لرؤية الهلال فلكيا قبل العمل بها بأكثر من قرن ونصف، وهو الذي كلف عام 1860م بطلب من علماء أوروبا والخديوي سعيد برصد كسوف الشمس وتسجيله، وكانت منطقة الكسوف الكلى تبدأ من كاليفورنيا وتمتد حتى جنوب أفريقيا عبر المحيط الأطلسي، وقد اختار محمود الفلكي مديرية دنقلة في شمال السودان كموقع للرصد، واستطاع أن يرصد منها الكسوف وسجله في تقرير بعثه إلى أكاديمية العلوم بباريس التي أشادت به.

محمود باشا الفلكي

 

كتب محمود الفلكي بحثا بعنوان (في التنبؤ عن مقدار فيضان النيل قبل فيضانه) بعد أن جمع بيانات عن فيضان النيل من عام 1825 إلى عام 1864م، وقد أصبح بحثه هذا مرجعا أساسيا لتقديرات الري في مصر.

لم يكن محمود باشا الفلكي مجرد إداري في الحكومة بل تم انتخابه في المجلس العالمي الذي ألف في عهد وزارة شريف باشا، كما أنابته الحكومة المصرية للحضور ممثلا لها في المؤتمر الجغرافي الذي عقد في مدينة البندقية عام 1881م.

قام محمود الفلكي ببحث عن مدينة الإسكندرية وضع خلاله خرائط لمعالمها القديمة حيث نقب في حفائرها ليصبح أول مصري معاصر ينقب عن آثار الإسكندرية وموقع سورها القديم وقصورها ومتاحفها ومكتبتها القديمة، وقد كتب بحثه بالفرنسية، ويعتبر الفلكي بهذا أول عالم يضع أول دراسة علمية تعتمد على الربط بين المواقع الجغرافية والأثرية.

دفن بعد وفاته في مقابر الإمام الشافعي في مقبرة خاصة، وسمي باسمه ميدان وشارع في وسط القاهرة، ليظل الفلكي اسما باقيا في ذاكرة المصريين على الرغم من عدم معرفة كثيرين منهم بإنجازاته التي وضعت مصر في مصاف الدول المتقدمة في علمي الفلك والجغرافيا في القرن التاسع عشر.

مدفن الفلكي

عن د. هيثم الحاج علي

شاعر وناقد، أستاذ مساعد الأدب العربي الحديث والنقد بكلية الآداب جامعة حلوان. شغل سابقا العديد من المناصب في وزارة الثقافة المصرية مثل: رئيس مجلس إدارة الهيئة المصرية العامة للكتاب، أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، رئيس مجلس إدارة جريدة القاهرة الصادرة عن وزارة الثقافة المصرية، له العديد من الكتب النقدية والإبداعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *