أحدث الحكايا

شريف صالح يحكي (على باب الله): لماذا لا توجد امرأة رسولة؟

عشتُ طفولتي في نظام “العائلة” تحت سلطة الجد لا الأب، ولفت نظري المكانة المقدسة للأم لكنها بلا سلطة ظاهرية وإنما سلطتها “مخفية”، تُحرك الأحداث من وراء ستار. كما لفت نظري أنه لولا الجدة والأم والعمة لانفرط عقد العائلة بسهولة.

لكن المرأة مهما بلغ تقديسها، ومهما كانت مصدر أمن وحماية، تظل وظائفها الاجتماعية تابعة للرجل، ولا يحق لها أن تنازعه الصدارة اجتماعيًا وسياسيًا ودينيا.

لذلك وجدتني أسأل نفسي: لماذا لا توجد امرأة نبية أو رسولة أو ولية من أولياء الله الصالحين أو بابا في روما، أو ضمن الأئمة المعصومين لدى الشيعة؟

صورة تعبيرية- لولا الجدة والأم والعمة لانفرط عقد العائلة بسهولة

 

قوامة الذكر

حسب تفسير أهل السنة والجماعة من صفات المرسلين: “الذكورة”، ولأن التبليغ يقتضي الاشتهار بالدعوة ومخاطبة الرجال والنساء، والتنقل في فجاج الأرض، وإعداد الجيوش، وقوامة الرسول على تابعيه، وكلها مهام تجمع بين “الرسالة والمُلك”، بينما لدى المرأة ما يعيقها مثل الحيض والولادة وما يصاحب ذلك من اضطرابات نفسية وجسمية.

ويذهب بعض الأئمة مثل ابن حزم والأشعري إلى وجود نبيات ومنهن “مريم بنت عمران”. استنادًا على أن النبوة لا تشترط التبليغ برسالة، إضافة إلى النص بأنه قد أٌوحي إلى مريم. أي ثمة إجماع على عدم وجود رسولة، وقبول البعض بأن هناك نبيات.

أسأل نفسي: لماذا لا توجد امرأة نبية أو رسولة أو ولية من أولياء الله الصالحين أو بابا في روما، أو ضمن الأئمة المعصومين لدى الشيعة؟

ولا يختلف الأمر كثيرًا في المسيحية، فالكنيسة الأرثوذكسية تتشدد في منح سلطة الكهنوت للمرأة، وتبقيها تابعة للكاهن/القس، باعتبار أن تلك هي شريعة الرب التي تحظر على النساء الخدمة كقساوسة، كما يستند هؤلاء إلى مقولة بولس الرسول: “لتتعلم المرأة بسكوت في كل خضوع”. مع ذلك بعض الكنائس الغربية منحت المرأة وظيفة قس.

راهبات- صورة تعبيرية؛ الكنيسة الأرثوذكسية تتشدد في منح سلطة الكهنوت للمرأة، وتبقيها تابعة للكاهن/القس
راهبات- صورة تعبيرية؛ الكنيسة الأرثوذكسية تتشدد في منح سلطة الكهنوت للمرأة، وتبقيها تابعة للكاهن/القس

 

ثلاثة أسباب

إجمالًا ثمة ثلاثة أسباب رائجة لتبعية المرأة للرجل دينيًا، أولاها: طبيعتها “البيولوجية” التي تفترض أنها جنس ناقص عاطفي وانفعالي، ثانيها: الاستناد إلى النصوص المقدسة وتأويلاتها والتي تحسم “القيادة” و”القوامة” للرجل الذكر، وثالثها: عدم القبول نفسيًا بأن تصبح المرأة قائد جيش على رجل، أو قاضية، أو راهبة يعترف لها ويطلب بركتها ومشورتها. وكلها أسباب تنتهي بنا إلى تكريس الهيمنة الذكورية، والانتقاص من طبيعة المرأة وحصر وظائفها حسب ما يقبله الرجل.

وقد تغير الموقف في الغرب – إلى حد كبير – لمصلحة المرأة، فباتت السيدات يتولين وزرات الدفاع والمخابرات، ويرثن الحكم كملكات أو يختارهن الشعب رئيسات دول وحكومات، توازيًا مع سماح كنائس بسيامتهن كقساوسة. لكن في كل الدول العربية تقريبًا لم يحدث هذا. فلم نسمع عن ملكة أو قائدة للجيش أو مفتية أو شيخة للأزهر أو بابا امرأة للكنيسة المرقسية.

أي أن تحصين الألقاب والمكانة للذكور لا يقتصر على النبوة والرسالة، بل يشمل مناصب دينية أدنى، لأن المنصب الديني في توأمة مع السياسي، فالملك قديمًا كان إلهًا وابن إله، يجلس على قمة السلطتين الدينية والدنيوية، ما يكرس الامتياز الذكوري وتبرير وجود المرأة كشريك تابع.

تمثال رمسيس الثاني وزوجته بمعبد الكرنك، وكان يتم تمثيل المرأة بحجم أقل من الملك أحيانا كعنصر تابع لزوجها

 

وليّات وعارفات

جاء تصور المتصوفة أكثر مرونة نسبيًا في ولاية المرأة، صحيح أن معظم الأولياء من الرجال، وتمتد المشيخة كسسلسة ذكورية نقية لا تقطعها امرأة، حتى تصل إلى الإمام علي. مع ذلك ثمة عارفات وليات لهن كتب وكرامات تنسب إليهن.

تبدأ السلسلة عادة بزوجات النبي حيث تنسب إليهن كرامات عدة منهن عائشة التي دعت على أيمن بن صعصعة وهو مَن عقر الجمل: “اللهم اهتك ستره” وقد مات وهو يتبول عاريًا!

وكذلك بنات وحفيدات النبي خصوصًا فاطمة، والحفيدة أم هاشم السيدة زينب، حيث لضريحها في مصر مكانة عظيمة بوصفها “رئيسة الديوان” التي يجتمع لديها الأقطاب من الأولياء.

مقام السيدة زينب بالقاهرة

 

ومن أبرز العارفات: أم شريك الدوسية وقيل إنها هاجرت وعطشت عطشًا شديدًا، وصاحبها رجل من اليهود حذر زوجته من أن تسقيها، فلما كان آخر الليل دلي عليها دلو من السماء، فشربت حتى رويت. وقالوا إن القصة وقعت مع أهل زوجها فأسلموا بسببها.

وكذلك  رابعة العدوية ومن كراماتها أنها كانت تطبخ قدرًا يومًا فاشتهت بصلًا فجاء طير في منقاره بصلة فألقاها إليها.

وتشير سعاد الحكيم في مقال لها إلى أشهر العارفات عبر التاريخ ومنهن “أم علي” زوجة أحمد بن خضراويه، والتي قال عنها البسطامي “من تصوف فليتصوف بهمة أم علي”، وزوجة الحكيم الترمذي، التي كانت تفسر له رؤاه ومناماته، وقد تجلى لها نور وسمعت هاتفًا يقول: “وهبتك علم الأولين والآخرين”، وفاطمة النيسابورية أستاذة ذي النون المصري الذي قال عنها “هي ولية من أولياء الله الصالحين”.

مع ذلك يفضح النظرة الدونية للنساء، ما قيل عن بداية التعارف بينهما، حين أرسلت إليه برفق (معونة) فأجاب: “في قبول أرفاق النساء مذلة ونقصان”!

صورة تعبيرية

 

وهناك أيضًا عائشة المكية ويروى أنها مرت بأبي القاسم بن سلام وكان يستلقي قرب الكعبة ويمد رجله، فنهرته: “يا أبا عبيد، يقال إنك من أهل العلم. اقبل مني كلمة. لا تجالسه إلا بأدب وإلا فيمحى اسمك من ديوان القرب”.

ومن نساء القرن السابع الهجري “ست الملوك المغربية” التي كان يعظمها الأولياء والعلماء في بيت المقدس، وقال أحدهم إنه شهد حبلًا من نور يتدلى إلى قبة في المسجد حيث تجلس، وفاطمة بنت عباس أو “أم زينب البغدادية” التي شهد لها كبار العلماء بالعلم والتقوى، وكانت تصعد المنبر، فقال عنها ابن تيمية “بقي في نفسي منها شيء لكونها تصعد المنبر فأردت أن أنهاها عنه، فنمتُ، فرأيتُ المصطفى فقال: هذه المرأة صالحة”.

كما كانت فاطمة بنت المثني القرطبي بمثابة مرشدة روحية لابن عربي وهي عجوز، واستغرب ذات مرة أنها كانت تضرب الدف وتفرح، فقالت له: “أفرح به حيث اعتنى بي وجعلني من أوليائه واصطنعني لنفسه”.

أما عجم بنت النفيس فانتقلت من الجهل بالله إلى العلم بالله في ليلة واحدة، وكانت امرأة عامية أمية اعتمدت على زوجها في تدوين ما تقول في ثلاثة كتب، وشرحت أحد كتب ابن عربي.

ومن الجزائر لالا زينب أو الشيخة زينب القاسمية (1850 ـ 1904) التي تولت مشيخة طريقة الزاوية خلفًا لأبيها، وهي حالة نادرة أن تصبح المرأة شيخة طريقة.

وأخيرًا من العارفات في القرن العشرين فاطمة اليشرطي المولودة في عكا (1890) والتي التقاها كبار الشيوخ منهم إمام الجامع الأزهر الشيخ عبد الحليم محمود، وقد ثقفت نفسها بنفسها دون أن تذهب إلى مدرسة، ونشرت أربعة كتب.

صورة تعبيرية

 

حديث الأبدال

يُنسب إلى النبي بضعة أحاديث عن الأبدال بصيغ مختلفة، وبدرجات متفاوتة من التشكيك فيها، منها حديث “الأبدال أربعون رجلًا وأربعون امرأة كلما مات رجل أبدل الله رجلًا مكانه وإذا ماتت امرأة أبدل الله مكانها امرأة” وقد نقله الألكاني عن ابن كثير.

وسعى المتصوفة إلى وضع نموذج تراتبي للأولياء فحسب ابن عربي هناك: الغوث وهو قطب في كل زمان، الإمامان وهما بمثابة يديه، ثم الأوتاد الأربعة (جهات الكون) حفظة الأرض من كل شر، ثم الأبدال السبعة (عدد القارات)  ويسمون بذلك لأن لهم القدرة على تبديل أنفسهم بشبيه ثم يتجولون في الأرض كالأشباح، ثم النجباء وهم أربعون ومهمتهم حمل أثقال البشرية، وأخيرًا “النقباء” وهم أول درجات الترقي الصوفي.

وقد ملأ المتصوفة كتبهم بأسماء الرجال وفق هذا التصنيف، بينما لا نجد أثرًا يذكر حول الأبدال الأربعين من النساء، كما أشار الحديث. وهل هن ينتمين إلى تراتبية خاصة بهن أم لا؟

واقع الحال أنه مثلما همّشت المؤسسات الدينية الرسمية حضور ومكانة المرأة، لم تختلف المؤسسات الروحانية كثيرًا في درجة التهميش. فكل ما نعثر عليه لا يعدو شذرات لنساء تقيات عارفات، يربطهن الزواج غالبًا بأحد المتصوفة الكبار، وقلما تنسب إليهن مؤلفات أو تقام لهن أضرحة.

كذلك لا يُنص صراحة على أن المرأة “ولية” إلا في النادر، ولا توضع أسماؤهن في طبقات مثل الرجال. بل حتى الكرامات المنسوبة إليهن تبدو بسيطة و”هزلية” مثل احتياجها إلى بصلة!

هل لأن المرأة لا تملك القدرة على الارتقاء الروحي مثل الرجل؟ هل لأن السماء تفضل التعامل مع الرجال وتقر بعدم صلاحية النساء لأن يصبحن نبيات ورسولات ووليات؟

صورة تعبيرية

 

في الغالب، هو ميراث طويل من التمييز السلطوي، اعتاد أن يقرن المرأة بالشر والخطيئة والغواية والنجاسة، مثلما كان كهنة التوراة في زمن ما، يحرمون على المرأة اليهودية أن تدرس كتابها المقدس، ومثلما يتعامل المسلمون بحذر شديد مع مشاركة النساء لهن في العبادة داخل المسجد.

هذا الميراث – في حقيقته – لا يهتم بالارتقاء الروحي، ولا يكابر في ما تحققه المرأة من زهد وورع، لكن العقل الذكوري يفضل أن تبقى سلطتها الروحانية محجوبة ومخفية، وأن يظل خاتم البابوية والرسولية عالقًا في إصبع الرجل.

عن شريف صالح

‎كاتب وصحفي مصري، درس في دار العلوم في جامعة القاهرة. كما نال دبلوم النقد الفني، ودرجتي الماجستير والدكتوراة في النقد الأدبي من أكاديمية الفنون. له العديد من المؤلفات الأدبية، وحصل على عدة جوائز أبرزها جائزة ساويرس في القصة القصيرة عن مجموعة «مثلث العشق»، وجائزة دبي الثقافية عن مجموعة «بيضة على الشاطئ»، وجائزة أفضل مؤلف مسرحي من مهرجان «أيام المسرح للشباب» في الكويت عن مسرحية «مقهى المساء»، وجائزة الشارقة للإبداع العربي عن الإصدار الأول لمسرحية «رقصة الديك».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *