اشتريت هاتفًا جديدًا الأسبوع الماضي.
قد تبدو تلك بداية غريبة بعض الشيء لمقال يتعلق بالسينما، لكنها مساحة الحكي المغرية التي تسمح بها الكتابة في “شهرزاد”. من السهل إيجاد موضوع لمقال تقليدي عن السينما، فالأفلام والمهرجانات لا تنتهي. لكن التحدي هو إيجاد ما يمكن اعتباره حكاية حقًا، يُمكن أن تُنشر في موضع ذي طبيعة خاصة كموقعنا هذا.
نعود للهاتف الجديد، والذي من الطبيعي أن تكون الخطوات الأولى هي نقل البيانات إليه من هاتفك السابق: أرقام الهواتف والحسابات الشخصية وما شابه. أما الصور فهي أمر خلافيّ، البعض يُفضل نقلها لمساحة تخزين أخرى وترك ذاكرة الهاتف خاوية وبناء ذكريات جديدة تبدأ من اللحظة الحالية، والبعض يفضل نقلها معه حتى وإن كان ذلك يعني بدء علاقته مع الجهاز الجديد بمساحة تخزين نصف ممتلئة.
أنتمي للنوع الثاني من البشر، نقلت ما يزيد عن ثمانية آلاف صورة وفيديو التقطها الهاتف السابق خلال السنوات الأربع الأخيرة، وقضيت ساعات في فحصها، حذف المكرر وغير الضروري منها، والتفكير في مسار الفترة كلها والتي يمكن تلخيصها بالنسبة للفرد من خلال صور يلتقطها هنا وهناك في كل مكان يزوره أو بشر يلتقي بهم، وما أكثر الأماكن والبشر إن كنت تعمل ناقدًا رحّالًا تُسافر من بلد إلى بلد، ومن مهرجان إلى آخر.
أعوام حافلة بكل شيء
بدأت ذاكرة الهاتف السابق مع اقتراب إغلاق جائحة كورونا الأول من الانتهاء. نعم مرت سنوات أربع على هذه الفترة التي لا تبدو بهذا البُعد (تذكر أن 25 يناير اندلعت قبل أكثر من 13 عامًا وابك عمرك الهارب). وخلال تلك الفترة مرت مياه كثيرة تحت الجسور، ووقعت حوادث يصعب ملاحظتها في خلفية الذكريات المجمدة في الصور.
دخلت السعودية كمكان بالغ الأهمية في حياتي وحياة كثير من العاملين في هذا المجال، بأنشطة عديدة، وسفرات متكررة، ودعم لصناعة الأفلام، واهتمام خاص بالنقد رصدناه في مقال سابق على “شهرزاد”. توسعت السفرات والعلاقات الدولية بانتخابي في الاتحاد الدولي للنقاد. استمتعت بتجربة حضور كأس العالم لكرة القدم للمرة الأولى في حياتي. واحتفلت جمعية نقاد السينما المصريين، الاتحاد العريق الذي أشرف بالانتماء إليه، باليوبيل الذهبي لتأسيسها (عمر الجمعية الآن 52 عامًا).
اقرأ:
أحمد شوقي يحكي: أصوات السينما السعودية بعيدًا عن شوشرات التواصل الاجتماعي
جمعية النقاد
أجّلت وضع جمعية النقاد لنهاية الفقرة السابقة لأنها الموضوع الرئيسي هنا، فمن بين صور التقطت في كان وبرلين وتورينو وبودابست، في الرياض وتونس ودبي وعمّان، صورة واحدة توقفت أمامها طويلًا، تأملتها بمحبة وإعجاب، ووجدت في نفسي رغبة نشرها مجددًا على مواقع التواصل الاجتماعي.
صورة تم التقاطها في وسط البلد بالقاهرة، على الرصيف الجانبي لشارع شريف باشا، وبالتحديد أمام الممر الذي يقود إلى مدخل البناية رقم 36، المقر التاريخي لجمعية نقاد السينما المصريين، والتي يحمل مدخلها لافتة تذكارية من مشروع “عاش هنا”، تُذكّر الزائر أن السيناريست الكبير عبد الحيّ أديب والمخرج حسن الصيفي والموسيقار محمود إسماعيل كانوا من سكان البناية التاريخية، ومعهم الجمعية التي اجتمع فيها النقاد المصريون كل أحد منذ عام 1972.
مخرجون ونقاد
الصورة تجمعني بثلاثة مخرجين، اثنان من الكبار خيري بشارة ويسري نصر الله، والثالث هو عمر الزهيري، آخر مخرج مصري حقق اعترافًا دوليًا. صورة عابرة التقطها لنا الصديق زين العابدين خيري (رئيس تحرير “شهرزاد”)، بعدما انتهينا من ندوة احتفالية لتسليم الزهيري جائزة نقاد السينما المصريين لأحسن فيلم في عام 2022 عن فيلم “ريش”. لكنني عندما فكرت في قدر ما تحمله من روابط تاريخية، ثقافية وفنية وإنسانية، شعرت بالفخر لانتمائي لهذا التراث العظيم المسمى السينما المصرية.
خيري بشارة ويسري نصر الله عضوان قديمان في الجمعية، مارسا النقد قبل الإخراج. خيري راسل الصحف طفلًا بآرائه في الأفلام ويتملك حتى الآن نسخًا من مقالات كتبها مُشاهد صغير يعود تاريخها لخمسينيات القرن الماضي. وكان من الجيل الأول لجمعية النقاد (رقم عضويته 15)، وطالما أثرى النشرات السينمائية بدراسات معمقة وتحليلات نمت آنذاك عن نظرة شابة، يسارية الطابع، تطورت كثيرًا بمرور الزمن مع انتقال صاحبها لصناعة الأفلام الوثائقية ثم الروائية، ثم تمرده على تراث الواقعية ودخوله في صدام مع نقاد جيله الذين عارضوا اختياره بتغيير بوصلة أفلامه في مطلع التسعينيات مع فيلم “كابوريا”.
أما يسري فكان ناقدًا محترفًا، عرفه القرّاء العرب من فترة عمله كناقد رئيسي لجريدة “السفير” اللبنانية، وكان قبلها من أنشط أعضاء جمعية النقاد. وبالرغم من عدم نجاحه في الانتخابات في المرة الوحيدة التي حاول فيها دخول مجلس الإدارة وهو شاب في العشرينيات، إلا إنه لم يتوقف عن خدمة الجمعية بثقافته الموسوعية وذائقته السينمائية وإجادته لأربع لغات من بينها الألمانية، التي كانت المدخل لتنظيم بانوراما السينما الألمانية عام 1977، لتظل حتى يومنا هذا أحد أهم الأحداث التي نظمها النقاد (والثانية في تاريخ الجمعية بعد أسبوع السينما البرازيلية الذي أشرف عليه الناقد سمير فريد عام 1975). بالطبع انطلق نصر الله منذ منتصف الثمانينيات ليصير مخرجًا عالميًا هو أشهر مخرجينا المعاصرين على المستوى الدولي.
خيري لا يزال عضوًا في جمعية النقاد، يحرص على دفع الاشتراك السنوي وإن لم يستفد من هذه العضوية بأي صورة، بينما فضّل يسري أن يمارس النقد في نظرته للعالم وفي أفلامه، ويوقف عضويته رسميًا وإن لم تنقطع علاقته بها أبدًا، وفي خمسينية جمعية النقاد احتفت به الجمعية مرتين، مرة كواحد من كبار أعضائها القدامى خلال الاحتفالية الرسمية باليوبيل الذهبي، والثانية بشكل منفرد عندما أكمل عامه السبعين (فهو من مواليد 26 يوليو 1952)، ليجتمع معه النقاد للاحتفال بعيد ميلاد فنان عزيز على الجميع.
أجيال تلي أجيال
تتلمذ خيري ويسري على أيدي أساتذة سبقوهما: يوسف شاهين وشادي عبد السلام وعباس كامل وتوفيق صالح. كبرا في جمعية النقاد ونادي سينما القاهرة، وسط الحراك الفكري للعاصمة المصرية، فظلا حتى يومنا هذا -أطال الله عمريهما- اسمين فاعلين في الحياة السينمائية والثقافية المصرية. لتأتي أجيال لاحقة من بينها عمر الزهيري وزين العابدين خيري وكاتب هذه السطور لتحب السينما من مشاهدة أفلام كل هؤلاء الأساتذة المذكورة أسماءهم.
لا يخفي عمر الزهيري تأثره هذا، ولا يتعالى على تاريخ السينما المصرية كما يفعل أغلب المخرجين الشباب الراغبين في تحقيق مكانة عالمية. لا يتوقف في التأكيد في كل مكان على تأثره بأفلام بلده، بما في ذلك وقت عرض فيلمه “ريش” في مهرجان كان وتتويجه بجائزتين. توقع الصحفيون أن يذكر مصدر إلهام من كبار مخرجي العالم، لكنه أشار لخيري بشارة ويسري نصر الله، بل ولأفلام سمير غانم الكوميدية. وهي نفس التأثيرات التي أعلنها مؤخرًا عندما طلب منه موقع “فاصلة” اختيار أفلامه المفضلة الخمسة.
لذلك كان الطلب الأول للزهيري عندما دعوناه لاستلام جائزة النقاد أن يكون خيري ويسري أول المدعوين، وبدورهما رحبا بالدعوة ووصلا مبكرًا وتطوعا بالحديث الذي مازلت أتذكر تفاصيله رغم مرور أكثر من سنة عليه، تمامًا كما أذكر اللحظات الرائعة التي عشتها وأنا أكتب عنهما كتابين احتفاليين: “يسري نصر الله.. محاورات أحمد شوقي” عندما كرّمه مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية، و”خيري بشارة.. فيلم طويل عن الحياة” تزامنًا مع تكريم المهرجان القومي للسينما. التكريمان والكتابان كان بالمصادفة في عام واحد هو 2017.
أذكر أيضًا أن علاقتي بعمر الزهيري كانت فاترة، لم تتوطد إلا بعدما دعانا يسري نصر الله على عشاء أنيق في مطعم إيطالي خلال مهرجان كان من العام نفسه، ومن وقتها صار الزهيري صديقا سعدت بمتابعة خطواته الناجحة ولحظاته الصعبة، والكل يذكر الاحتفاء بفيلمه الرائع “ريش” في مهرجان كان 2021، ثم ما لاقاه من هجوم عبثي بعد أشهر عند عرضه في مهرجان الجونة. هجمة مضت كسحابة صيف، ليأتي فوز الفيلم بجائزة النقاد كأحسن فيلم مصري بالإجماع (للمرة الوحيدة خلال 15 سنة شاركت فيها الاختيار)، كبادرة اعتذار صغيرة يستحقها الفيلم وصانعه.
وفي النهاية
كل هذه الروابط وما لم يُذكر أكثر، وكل التاريخ الذي يحمله كل شخص في الصورة وراءه، سواء من يملكان سيرة طويلة مذهلة (خيري ويسري)، أو من قطعا بعض الخطوات الصغيرة (الزهيري وأنا)، هي مجرد كسر مئوي من رقم ضخم، ضربة فرشاة في لوحة هائلة اسمها السينما المصرية، صناعةً ونقدًا. عالم سحري كان من حظنا أن وقعنا في حبه وتمكنّا من دخوله والتمتع بصحبة أهله، بحلوهم ومرّهم.
عثرت على الصورة لينطلق في ذهني تيار من الذكريات والمواقف والأفكار، ربما أهمها -والتي أردت كتابة هذه الحكاية بسببها- هي فكرة استحالة وجود كل هذه الروابط والتاريخ المشترك، بين أربعة أشخاص مختلفين في كل شيء، في العمر والجيل والخلفية والنشأة والدين وغيرها، إلا في ظل ثقافة عريقة، فريدة، متجذّرة، محتضنة أحيانًا وقاسية أحيانًا، لكن عظمتها تكمن في قدرتها على جمع المتناقضات، وفي تاريخها الطويل الذي تصعب كثيرًا منافسته أو المقارنة معه.
أنتجت السينما المصرية ما يفوق الأربعة آلاف فيلم روائي طويل، وهو رقم معجز، مهما كبرت ستظل صغيرًا جواره. مجرد ملاحظة لا تعني شيئًا، لنقل أني أذكّر بها نفسي بالأساس!