أحدث الحكايا

أحمد شوقي يحكي: أصوات السينما السعودية بعيدًا عن شوشرات التواصل الاجتماعي

لو قيل لي قبل خمس سنوات إنني سأزور المملكة العربية السعودية خلال عام واحد أربع مرات، لأسباب وأحداث مختلفة كلها تتعلق بالسينما، لاعتبرت الأمر محض خيال جامح أو تفكير بالتمني. لكن الأيام دارت وإذ بالخيال يغدو حقيقة تستحق التأمل.

وبينما ينشغل رواد مواقع التواصل الاجتماعي من البلدين في جدالات لا تنتهي تتعلق بكل شيء إلا بالسينما نفسها، وتظل معلومات السواد الأعظم من المتابعين عمّا يجري في المملكة تقتصر على ما يسمعونه عن مسرحيات موسم الرياض الترفيهية، التي ورثت صناعة مسرح القطاع الخاص المصري بكل ما فيها من تسطيح وميل للتسلية الخفيفة المتطايرة، تنمو على الأرض نفسها صناعة وثقافة سينمائية مثيرة للاهتمام.

في العاصمة الرياض بين 8 و14 نوفمبر عُقد المؤتمر الأول للنقد السينمائي، جامعًا نقادًا وأكاديميين وصناع أفلام من مختلف دول العالم، في تجربة لا تُسعف الذاكرة باسترجاع ما يشبهها. نذكر بالطبع مؤتمرات أكاديمية تحتضنها جامعات، وحلقات بحثية ونقاشية تقام على هامش مهرجانات السينما، لكن أن يُقام مؤتمر سنوي كبير موضوعه الوحيد هو النقد، ونجومه هم النقاد، وأنشطته هي سلسلة من المحاضرات والنقاشات وورش العمل المرتبطة بمهنة تعاني من تناقص في الاهتمام حتى من قبل أعرق وأكبر مؤسسات ومهرجانات العالم، فالأمر بالتأكيد يستحق التحية، لاسيما وإنه قد تم دون أي قدر من البهرجة الإعلامية أو الاهتمام بأي شيء بخلاف الموضوع الرئيس.

أحمد شوقي يحاور المخرج يسري نصر الله في مؤتمر النقد السينمائي

 

بعد أسبوعين تقريبًا استضافت مدينة جدة بين 30 نوفمبر و9 ديسمبر الدورة الثالثة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي، ليُعرض خلالها عدد كبير من الأفلام العالمية والعربية والسعودية، والأخيرة هي بالتأكيد العنصر الذي يستحق أن نتوقف عنده، فإذا كان الهدف الأهم لأي نشاط سينمائي، مهرجان، أو مؤتمر، أو هيئة، أو صندوق تمويل، هو دعم السينما المحلية ومنح فرص أكثر للأصوات الجديدة، فإن عام 2023 قد شهد طفرة واضحة في مستوى الأفلام الآتية من المملكة.

 

جدة التاريخية" تستضيف مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي | اندبندنت عربية

 

طفرة في الكم والكيف

تمكنت من رصد 12 فيلمًا روائيًا طويلًا عُرضت خلال العام، وهو مبدئيًا رقم كبير قياسًا على عمر صناعة السينما السعودية الذي لا يتجاوز عدة أعوام، سبقتها بالطبع محاولات متناثرة للرواد الذين صنعوا الأفلام وقت كانت ممنوعة.

غير أن العدد لا يعني وحده شيئًا باستثناء توافر الموارد والفرص، لكن الملفت هو جودة تلك الأفلام، وتنوعها الشديد في الشكل والمضمون. بالطبع هناك أعمال متواضعة وأخرى تعاني من عيوب البدايات، لكننا لا نبالغ إذا قلنا إن قائمة أحسن عشرين فيلمًا عربيًا عُرضت خلال العام تضم ثلاثة أفلام سعودية على الأقل.

“مندوب الليل” ممثلًا لسينما المؤلف

من بين أفضل أفلام العام العربية بالتأكيد يظهر “مندوب الليل” للمخرج علي الكلثمي، الذي يقدم في فيلمه الطويل الأول نقدًا اجتماعيًا وإنسانيًا للحياة في الرياض المعاصرة التي يعيش فيها بطل الفيلم، الشاب الفقير الذي يعمل نهارًا في إحدى الشركات وليلًا مندوبًا لحساب أحد تطبيقات توصيل الطلبات، حياة عسيرة خصمه الأساسي فيها هو المدينة الموحشة، والمنقسمة بين كل التناقضات، بين ثراء هائل وفقر ضاغط، حداثة وعتاقة، محافظة وانفتاح.

من فيلم “مندوب الليل”

بطل الفيلم يكتشف بالصدفة عالمًا سريًا في ليل المدينة، يعمل فيه مندوبون مثله، لكنهم يتقاضون آلاف الريالات في كل طلبية يقومون فيها بتوصيل الخمور الممنوعة لمن يريدها ويرغب في دفع الثمن، ليجد نفسه مدفوعًا للتسلل إلى ذلك العالم الخطير.

تجدر الإشارة هنا أن “مندوب الليل” ليس فيلمًا تشويقيًا عن عالم الجريمة السري في الرياض، وإن احتوت أحداثه على بعض التشويق، وإنما هو بالأساس عمل يحاول التأمل في اللحظة الراهنة من تطور المجتمع السعودي، وانقسامه إلى عدة عوالم متوازية تجمعها نفس المدينة الضخمة، المزدحمة لدرجة الاختناق صباحًا، والهادئة لدرجة الخواء ليلًا، والتي يقدمها الفيلم كشخصية فاعلة تضغط على أعصاب البطل حتى تصل به إلى درجة الغليان، مع توظيف بصري مدهش للشوارع والأماكن والمساحات في تقديم دراما تُشكل الصورة مكوّنًا محوريًا فيما تُحدثه من أثر.

فيلم مندوب الليل

“ناقة”.. وقيمة التمرد

على النقيض من الحس التأملي المسيطر على “مندوب الليل” يأتي “ناقة”، أول أفلام مشعل الجاسر، صاخبًا مندفعًا، يأخذ مشاهديه في رحلة تبدأ عندما توافق البطلة المراهقة على الخروج في رحلة إلى الصحراء مع حبيبها على وعد بالعودة قبل موعدها مع أبيها الصارم، لتدخل مغامرة محمومة تتعرض فيها لسلسلة لا تنتهي من المواقف الصعبة والمواجهات القاسية.

فيلم “ناقة”

 

ينشغل الجاسر أكثر بالتجربة السمعية والبصرية للفيلم، كاسرًا القواعد المألوفة بهدف دفع المشاهدين للتماهي مع التجربة التي تخوضها بطلة الحكاية سارة، والتي يمتزج فيها الخوف بالسخرية. طبيعة الاختيارات الإخراجية تجعل من الصعوبة بمكان أن تقف على الحياد من الفيلم، مما جعل الآراء تنقسم بوضوح حول “ناقة”، بين معجب أسره اندفاع الفيلم وإيقاعه اللاهث فوجد نفسه يخوض الرحلة مع سارة، وبين ساخط لم يجد في الفيلم ما يستحق الاحتفاء.

من فيلم “ناقة”

 

هذا الانقسام في حد ذاته يعد توكيدًا على قيمة التجربة التي أقدم عليها المخرج الشاب، بالانحياز للشكل الذي أراده لفيلمه، ومد خطوط الأسلوب على استقامتها ليخلق فيلمًا له مذاق خاص، وهي سمة صارت شحيحة في السينما العربية مؤخرًا.

“هجّان” والانتصار للكلاسيكية

أما ثالث الأفلام التي أحدثت أثرًا واضحًا في مهرجان البحر الأحمر فهو “هجّان”، الذي يختلف قليلًا عن الفيلمين السابقين، فإذا كان “مندوب الليل” و”ناقة” صورتين متباينتين لسينما المؤلف، فيمكن اعتبار “هجّان” نموذجًا للصناعة الجماعية: مخرج مصري هو أبو بكر شوقي، فريق كتابة متعدد الجنسيات، تمويل مؤسسة كبيرة هي مركز الملك عبد العزيز الثقافي (إثراء)، وفريق منتجين من عدة دول عملوا على إنجاز المشروع ضخم.

فيلم “هجان”

في كواليس سباقات الهجن يحاول هجّان صغير تربطه علاقة خاصة بناقته أن يجد مكانه، سعيًا للانتقام لشقيقه الذي مات بسبب غش داخل أحد السباقات، ورغبةً في تحقيق ذاته كهجّان موهوب. قصة تبدو مثالية لفيلم رياضي تشويقي على الطريقة الأمريكية، لكن الفيلم يحمل ما يفوق هذا التبسيط المخل.

صحيح أن “هجّان” هو الأكثر التزامًا بالمعايير القياسية لبناء الدراما ورحلة البطل، يحاول مخرجه صنع فيلم قادر على التواصل مع الجميع، متفاديًا أي قرارات إخراجية راديكالية كالتي نراها في “ناقة”، لكن الفيلم يتجاوز حكايته البسيطة ليطرح أسئلة بالغة الأهمية عن صاحب التقدير الحقيقي: هل هو مالك الهجن أم قائدها؟ سؤال لو ترجمناه للغة السينما سيكون: هل صاحب الفن هو صانعه أم مموله؟ وهو سؤال شائك داخل هذا السياق لمن يقرأ ما بين السطور.

لكن الأهم من الأسئلة الشائكة هي تلك القدرة على الاحتفاظ باهتمام الجمهور العريض، فعرض “هجّان” في جدّة شهد لحظات سحرية لتفاعل الجمهور مع العمل، تفاعل صادق يعلو فيه صوت الشهقات وتنزل فيه الدموع من العيون، في تجسد لأثر السينما الكلاسيكية التي كدنا ننساها وسط هوسنا بسينما المؤلف والأعمال الخاصة.

فيلم “نوره” السعودي

 

قد تتسع القائمة لتتضمن أفلاما سعودية أقل أثرًا عُرضت في البحر الأحمر مثل “نوره” لتوفيق الزايدي و”أحلام العصر” لفارس قدس، وقد تتسع أكثر إذا ما أضفنا الأعمال التي عُرضت خلال العام في القاعات مثل “سطّار” لعبد الله العراك و”الهامور ح.ع” لعبد الإله القرشي، أو التي طرحت مباشرة على المنصات الإلكترونية كـ “راس براس” لمالك نجر.

هذا الاتساع والتنوع يخبرنا بوضوح أن ثمّة حراك سينمائي حقيقي يحدث في جزيرة العرب. مواهب وأصوات كانت تنتظر الفرصة لتُنتج أفلامًا متنوعة مختلفة في كل شيء، لا يمكن تجاهلها لمن يهتم بهذا الفن وهذا الجزء من العالم. لم أزر موسم الرياض ولا تحركني أي رغبة في مشاهدة مسرحياته، لكنني سأتحمس بالتأكيد في كل مرة تتاح فيها فرصة لمشاهدة فيلم جديد لمخرج من الرياض، أو جدّة، أو الدمام، أو أي مكان آخر ظلت قصصه طويلًا تنتظر من يحكها على الشاشة.

فيلم أحلام العصر

 

عن أحمد شوقي

ناقد سينمائي مصري ومبرمج ومشرف سيناريو. حاليًا هو رئيس الاتحاد الدولي للنقاد (فيبريسى)، ورئيس جمعية نقاد السينما المصريين. ينشر مقالات أسبوعية عن السينما وصناعة الترفيه. كما أصدر ثمانية كتب متخصصة حول السينما المصرية. شوقي يشغل منصب مدير منطلق الجونة، برنامج تطوير المشروعات والإنتاج المشترك الخاص بمهرجان الجونة السينمائي. كما إنه مدير التطوير لمنطقة الشرق الأوسط بمنصة "فيو" الإلكترونية.

تعليق واحد

  1. احمد شوقي ناقد مهم لا يكتب إلا عن دراية تامة بما يكتب عنه، والحراك السينمائي السعودي يستحق الاشارة اليه والى تطوره

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *