أحدث الحكايا

أحمد الشهاوي يحكي: ابن الكيزاني..الذي نُبِشَ قبرُهُ بسببِ اتهامِهِ بالزَّندقة

هو ابنُ القلب لا الجوارح، جاهَدَ وكابَدَ، ونحَا نحوًا مُختلفًا كعادة أهل التصوُّف في زمانه أو الأزمنة السَّابقة عليه، حتى وصَلَ إلى مقام القُرب من الله، وحلَّ مشكلتَهُ الرُّوحية شِعرًا ونثرًا الذي ضاع أغلبُهُ وفُقِدَ، وأقام من الدين أساسًا للتصوُّف،جمعَ بين الحقيقةِ أي المعنى الباطن المُستتر وراء الشَّريعة، والشَّريعة أي الرسُوم والأوضاع التي تُعبِّر عن ظاهر الأحكام وتجري على الجوارحِ، أو بين علم الظاهر والباطن.

حكاية ابن الكيزاني

كان شيخًا للمصريين في زمانِه في الميدانين الشرعي والصوفي، انشغل بشِعْر الحُب والغزل الإلهي، نشرَ التعاليمَ الصُّوفيةَ في مصر في تحدٍّ كبيرٍ لسلطان الفاطميين وقتذاك حيث كانت مصرُ فاطميةً، كأنه كان يُمهِّد لعودة دولة بني العبَّاس إلى مصر من خلال صلاح الدين الأيوبي الذي تواطأ مع الكيزاني للقضاء على الدولة الفاطمية عبر السلطان نور الدين زنكي (511 – 569 هـجرية / 1118 – 1174 ميلادية).

وقد ضايقهُ كثيرًا بعضُ مُعاصريه من الفُقهاء والأئمة وحسدُوه على مكانتِه، إذْ كان شاعرًا شهيرًا في زمانه؛ فآثرَ الانعزالَ، ولم يجد سِوى الجبل مأوىً له، فأكثر من خلواته، ولمَّا جاءهُ الموتُ ودُفِنَ، نُبشَ قبرُهُ، وأخْرِجَتْ جُثتُه؛ لتُدفنَ في قبرٍ آخر؛ لأنه لا يجُوزُ من وجهة نظر نابشِ القبر دَفنُ الصدِّيق إلى جوار الزِّندِيق، لقد كان خِلافًا أيديولوجيًّا، حيث اعتبره النبَّاشُ من الكُفَّار والمُشركين، مع أنَّ الحُرية مكفُولة للجميع في ذلك الزمان وفي كل زمان.

إنَّهُ ” الزِّنديق الصُّوفي” الذي قال في شِعْرِه – والذي ضاعَ أغلبُهُ:

“تلذُّ لي في هوى ليلى مُعاتبتِي
لأنَّ في ذكرِها برْدًا على كبدِي
ولو تمادتْ على الهِجرانِ راضيةً
بالهجرِ لم أشكُ ما ألقي إلى أحدِ”

“والله لولا أنَّ ذكرَكَ مُؤنسِى
ما كان عيشِـي بالحياةِ يطيبُ
ولئن بكَتْ عينِي عليكَ صبَابةً
فلكُلِّ جارحةٍ عليكَ نحيبُ
أتظنُّ أنَّ البُعدَ حلَّ مودَّتي
إن بانَ شخصُكَ فالخيال قريبُ”

“يا من يَرَى عَذَلي به وتحرُّقي
ونُحُولَ جسمي في الهوى وتَشَوُّقي
لم ألقَ مثلكَ مفرطًا في صدِّهِ
عمدًا ولا في الحُبِّ مثلي قد شقِي
فبفرطِ صدِّكَ بل بفرطِ مَحبَّتي
إلا نظرتَ إليَّ نظرةَ مُشفقِ
إنِّي لأجزعُ منكَ ما لو ذُقتُهُ
لعلمتَ ماذا في الهوى قلبِي لقِي
جُرْ كيفَ شِئتَ فلستُ أولَ عاشقٍ
كأسُ المحبَّةِ في محبَّتِهِ سُقي”

هذه الأبيات من شِعر ابن الكيزاني ” محمد بن إبراهيم بن ثابت بن فرج أبو عبد الله بن الكيزاني “،وقد لُقِّبَ بالكيزاني نسبةً إلى صناعة الكُوز، والكِيزان الأكواب التي تُصْنَع للشُّرب، المُفردُ منها كُوزٌ ،وسُمِّي بالمصري تارةً وبالكِيساني تارةً أخرى، كان مُفرطًا في زُهدِهِ وتقشُّفِهِ وورَعِهِ،لا يعرفُ أحدٌ مكانًا ولا زمانًا لولادته، ومن يتأمَّل نصوصَهُ الشِّعريةَ سيلحظُ كثرة ورُود مفردة “الحبيب” ،مما يشيرُ إلى تجاربه الكثيرة في العِشق.

رائد شعر التصوف

ويُعدُّ رائدَ شِعْر التصوُّف في العصر الفاطمي بمصر، وقد استقدم في النصف الثَّاني من القرن السادس الهجري مُتصوفةً من المشرق والمغرب إلى مصر من أبرزهم عبد الرحيم القناوي (المغربي ابن سَبْتة الذي قضى واحدًا وأربعين عامًا من عمره في صعيد مصر) وأبو الحجَّاج الأقصري (ولد ببغداد أوائل القرن السادس الهجري وتوفي بالأقصر سنة 642 هـجرية)، ولابن الكيزاني كتابان في الوعظ والإرشاد هما “الرقائق” و”مليك الخطب”، والذي لم يهتم بحياته وشعره – على ما أعرفُ – سوى الدكتور على صافي حسين من مصر.

كتاب «ابن الكيزاني» للدكتور علي صافي حسين

 

وكان الكيزاني عارفًا عالمًا زاهدًا، ارتحل إلى بلاد الشام والموصل وبغداد ومكَّة والمدينة سعيًا في طلب العلم، واشتغل بعد ذلك بالتدريس، وهو من فُضلاء المائة السادسة، وقد وصفَ العماد الأصبهانيُّ (1125 – 1201ميلادية/ 519 -597 هـجرية) شِعرَه بالقول:

(فيه من المعنى الدَّقيق، واللَّفظِ الرَّشيق، والوزنِ الموافق، والوعظِ اللائق، والتَّذكير الرَّائع الرَّائق، والقافيةِ القافيةِ آثار الحِكَمِ … خال ٍمنَ التَّصنُّعِ)

وهو   “عالمٌ بالأصُول والفُرُوع- الفقه وأصوله، عالمٌ بالمعقُول والمشرُوع- المعارف الفلسفية والعُلوم العقلية -، مشهُودٌ له بألسنة القبول، مشهُورٌ بالتحقيق في علم الأصول- التوحيد أو علم الكلام -. وكان ذا روايةٍ ودرايةٍ بعلم الحديث، ومعرفة بالقديم مكون الحديث، … وله ديوانُ شعرٍ يتهافتُ الناسُ على تحصيله وتعظيمه وتبجيله لما أودَعَ فيه من المعنى الدقيق، واللفظ الرشيق، والوزن المُوافق، والوعظ اللائق، والتذكير الرَّائع الرَّائق، والقافية القافية آثار الحكم، والكلمة الكاشفة أسرار الكرم … وهو شيخٌ ذو قبول، وكلام معسُول، وشِعْر خالٍ من التصنُّع مغسُول،…”

اتسم بالعطف والتواضُعِ وكان من عُبَّاد “الفسطاط”- كانت عاصمة مصر لما يقرب من خمسمائة عام، وتُعدُّ أوَّلَ وأقدمَ العواصم الإسلامية إذْ بُنيتْ بعد الفتح العربي الإسلامي لمصر في عام (21هـجرية/ 641ميلادية)-، ملازمًا مُعتزلًا في جبل المقطَّم الذي دُفِنَ فيه بعد ذلك، مثلما دُفن فيه الأقطابُ الصُّوفيون عُمر بن الفارض، وابن عطاء الله السكندري، وذُو النُّون المصري، وسواهم، وجبل المُقطَّم بشكلٍ عام كان مكانًا يرتادُهُ المُتصوفة ويعيشون فيه،بل رأوه قِبلتَهُم،وكان سفحُهُ مرقدًا لهم.

جانب من أضرحة المتصوفة في جبل المقطم

صديّق أم زنديق؟!

ولمَّا ماتَ “في ربيع الأول سنة اثنتين وستين وخمسمائة من الهجرة” دُفِنَ بالقرب من الإمام الشافعي، فأُخْرِجَ، ونُبش قبرُهُ، على الرغم من أنه كان شافعيَّ المذهب، ثم أعيدَ، ثم أخرجَ الشيخ الخبوشاني- توفي فِي القاهرة في شهر ذِي القعدة سنة 587 هـجرية الموافق 1191 ميلادية، عظامَهُ، وَكان قد دُفِنَ فِي قُبَّةٍ تَحت رجْليْ الإمام الشَّافِعِي وَبَينهمَا شباك -، وقال لا يُدفنُ صدِّيقٌ وزنديقٌ، واستقر بمكانه المعرُوف بالقَرَافة، “وقد كان لهذه الحادثة يدٌ في إشعال فتنةٍ مذهبيَّةٍ بعد وفاة ابن الكيزاني”. وقال ابن تغري بردي (813-874 هـجرية/1410-1470ميلادية) صاحب “النُّجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة”: (لا يُلْتَفَتُ لقول الخبوشاني فيه؛ لأنَّهما أهلُ عصرٍ واحدٍ، وتهوُّرُ الخبوشاني معروفٌ).

ابن تغري بردي

 

ونبّاش القبور عندي هو “من يفتِّش القُبورَ ليسرقَ ما فيها من أكفانٍ وحُليٍّ وجُثثٍ، ونَبَشَ القَبْرَ: أي حَفَرَهُ حَفْرًا لِيَكْشِفَ مَا بِدَاخِلِهِ أَوْ تَنْكِيلًا بِالْمَيِّتِ، اِسْتَخْرَجَهُ بَعْدَ الدَّفْنِ”، ولا أحدَ ينسَى ما فعل العبَّاسيون عندما نبشُوا قبُورَ الخُلفاء الأمويين في دمشق وأخرجوا عظامَهُم ونكَّلوا بها بالسَّحْق والحَرْق و صلبُوا رُفاتهم؛ “فنُبِشَ قبرُ مُعاوية بن أبى سفيان، فلم يجدُوا فيه إلا خيطًا مثل الهباء، ونُبِشَ قبرُ يزيد بن معاوية بن أبى سفيان فوجدُوا فيه حُطامًا كأنهُ الرَّماد، ونُبش قبرُ عبدالملك بن مروان فوُجِدَ صحيحًا لم يتلف منه إلَّا أرنبة أنفه، فضُربَ بالسِّياط وصُلبَ وحُرِق وذُرِّي فى الرِّيح”.

وما يلفت الانتباه ويدعُو للدَّهشةِ أنَّ شِعْرَ ابن الكيزاني الذي وصل إلينا ليسَ فيه إشارةٌ واحدةٌ ظاهرةٌ أو باطنةٌ ،واضحةٌ أو خَفِيَّةٌ مُستترةٌ تشيرُ إلى الزَّندقة التي ألصقها الكارهون بابن الكيزاني ،وجرى شعرُهُ الصُّوفيُّ مجرى أصحاب مذهب الحُبِّ الإلهي، وقد ذكرَهُ أهلُ الظَّاهر والباطنِ معًا في كُتبهم؛ لمكانتِهِ الفقهية والصوفية.

والخبوشاني هو نَجْمُ الدِّيْنِ أَبُو البَرَكَاتِ مُحَمَّدُ بنُ مُوَفَّقِ بنِ سَعِيْدٍ الخبُوْشَانِيُّ الشَّافِعِيُّ الصُّوْفِيُّ، أحد علماء أهل السُّنَّة والجماعة ومن أعلام التصوُّف السُّني في القرن السَّادس الهجري، قال عنه الذهبيُّ: «الفَقِيْهُ الكَبِيْرُ الزَّاهِدُ»، وأصله من «خبوشان» من قرى نَيْسَابُور الفارسية وتُعدُّ من أشهر مراكز الثقافة والتجارة والعُمران في العصر العبَّاسي، قبل أن يدمِّرها زلزالٌ ضربها عام 540 هـجرية، ثم أكمل خرابها غزو المغول لها سنة 618 هـجرية، وولد قربها سنة 510 هـجرية الموافق 1116ميلادية، كان فقيهًا شافعيًا.

نجم الدين الخبوشاني

 

قدم مصر فأقام بمسجدٍ مُدَّةً، ثم بتُربة الإمام الشافعي، وتبتّل لإنشائها ودرس بها وأفتى وصنّف الكتبَ، قال السَّخاوي: «رَدَّ الخبوشانيُّ على أهل البِدَع واستتابهم وأظهر مُعتقد الأشعرية بالديار المصرية». وقال ابن خلكان: «كَانَ السُّلْطَان صَلاَح الدِّيْنِ الأيوبي يُقرِّبه، وَيَعتقد فِيْهِ”ولمَّا أراد السُّلطان صلاح الدين الأيوبي إزالة الدولة الفاطمية استفتى الفقهاء في ذلك، فأفتاه جماعةٌ من الفقهاء، وكان نجم الدين الخبوشاني من جُملتِهم، فبالغ في الفُتيا وصرَّح بتعديد مساوئهم، وسلب عنهم الإيمان وأطالَ الكلامَ فوق ذلك.

أولى الطرق الصوفية في مصر

وكان المصريون الذين تحلَّقُوا حول ابن الكيزاني “المعروف بابن الكيزاني المصري “يُردِّدُون أشعارَه؛ لأنه يتسمُ بالسَّلاسةِ والسُّهولةِ والعُذُوبةِ التي عُرفَ به شِعرُ المصريين عُمومًا مثل عُمر بن الفارض وبهاء الدين زُهير وابن نُباتة المصري وابن سناء المُلك وابن النبيه وابن قلاقس.و

له بمصر وسواحل الشَّام فرقٌ تنتمي إليه في المُعتقد، وكان من كبار المُتصوِّفة في زمنه، أسَّس طريقةً عُرِفتْ بالطريقة الكيزانية، نسبةً إليه، وهي أولى الطرق الصوفية في مصر، وكان لها أتباع ومريدون كُثُرٌ خُصوصًا في نواحي مدينة بلبيس بمحافظة الشرقية بمصر ،واتسع انتشارها حتى وصل إلى سواحل الشام.

إن الفرقة أو الطَّريقة الكيزانية استمرت مُدَّةً طويلةً بعد العصر الفاطمي، وكانت أوَّلَ فرقة صوفية بمصر أيام انقراض الدولة الفاطمية، وكان لها أثرٌ قويٌّ في المتصوفة الذين ظهروا بعد ذلك، وكذلك كان الناس يتداولون شِعْرَ ابن الكيزاني، فكان له تأثيرٌ قويٌّ في شُعراء الصوفية الذين كانوا في عصر الأيوبيين، فنجد في شعر عمر بن الفارض مثلًا بعضَ المعاني التي في شعر ابن الكيزاني.

ومما يُحْكَى عن زُهدِهِ وتصوُّفِهِ ما ذكره علي بن أحمد السَّخاوي في كتابه “تحفة الأحباب وبغية الطلاب”:

” ويأتيه الطالبُ يقرأ عليه فيجده جائعًا فيطعمه وعريانا فيكسوه ويعطيه العَمامة حتى إنه إذا وجد في نعله شيئًا مقطُوعًا يخرزه بيده، وجاء إليه ملك مصر، ومعه رسول الخليفة يوما ليزوره؛ فدخلا عليه وهو يدور على الدولاب بيده ففرش لهما فرشًا من خوصٍ فقعدا عليه وسألاه الدعاء فدعا لهما، فأخرج له الملك ألف دينار فلم يقبلها، فقال له الملك: إنْ لم تأخذها لنفسك؛فتصدَّقْ بها على أصحابكَ وجيرانكَ، فقال ما هم محتاجون إلى ذلك فإنِّى فى كلِّ يوم أعملُ بثلاثة دراهم ونصف الدرهم فآكل بنصف درهم وأنفِقُ على جيراني وأصحابي الفاضل فخُذْها وانصرفْ فأخذها وانصرف”. – أي أنه لم يُقِم وزنًا للأمير الفاطمي، ولا لذلك السُّلطان أو الملك.

إنَّ ابن الكيزاني شاعرٌ صُوفيٌّ يتسمُ شعرُهُ بالسُّهولة والعُمق في التجربة، والألفة والوضُوح، غزيرُ المعنى، يبتعدُ عن الغُموض والإبهام.

عن أحمد الشهاوي

أحمد الشهاوي، شاعر وكاتب مصري من مواليد 1960. له دواوين شعرية عديدة، وإصدارات نثرية في أدب العشق والتصوف وفلسفة الدين، ورواية أخيرة هي "حجاب الساحر". تُرجمت أعماله إلى لغات عديدة منها الإنجليزية، والهولندية، والفرنسية، والإسبانية، والتركية، وغيرها، عضو في الموسوعة العالمية للشعر Who's who منذ عام 1992. أجريت دراسات عديدة وأطروحات ماجستير ودكتوراه حول كتاباته وأساليبه والظاهرة الصوفية في أشعاره، ودراسات حول أساليب وتقنيات ترجمة أعماله الشعرية إلى لغات مختلفة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *