لو كان النقاد الذين انبروا وقت عرض فيلم حسن الإمام الأيقوني “خللي بالك من زوزو” عام 1972، علموا أن أكثر من نصف قرن سيمر، ثم تأتي قاعة السينما الوحيدة في مصر المخصصة للأفلام المغايرة والفنية، لتختار أن تحتفل بالذكرى السنوية العاشرة لتأسيسها عبر عرض الفيلم نفسه في نسخة تم ترميمها حديثًا، ربما كانوا سيراجعون مواقفهم قليلًا، ويكونوا أقل عنفًا وتعسفًا تجاه صناع الفيلم.
“زوزو” تعرض وقت عرضه لهجوم هائل يمكن أن يرصده بوضوح كل من يعود لكتابات عصره، هجوم دفع فيه صناع الفيلم أكثر من فاتورة: فاتورة النقد اليساري الذي انحاز للسينما النضالية التي تدافع عن القضايا الاجتماعية بغض النظر عن مستواها، وفاتورة اللحظة التاريخية التي خرج فيها الفيلم في أقصى لحظات السخط على حالة اللا سلم-لا حرب قبل عام من حرب أكتوبر، مما جعل قطاعًا كبيرًا يراه فيلمًا يشوش وعي المصريين ويحاول أن ينسيهم وقع الهزيمة.
يقول المحللون إنه لولا وقوع انتصار أكتوبر 1973 وتحول دفة الذوق العام وشكل إقبال الجمهور على السينما تماشيًا مع الوضع السياسي، لكان نجاح الفيلم قد طال أكثر.
وبالطبع دفع الفيلم فاتورة النجاح، فاستفزاز الأفلام هائلة النجاح للأقلام الساخطة ظاهرة تاريخية راسخة في أدبيات السينما المصرية. ويُذكر أن الفيلم عُرض في سينما أوبرا بتاريخ 6 نوفمبر 1972 واستمر حتى 25 نوفمبر 1973، أي خمسة وخمسين أسبوعًا كاملًا استمر فيها الفيلم في نفس القاعة يحقق من الإيرادات ما يكفل له الاستمرار، ويقول المحللون إنه لولا وقوع انتصار أكتوبر 1973 وتحول دفة الذوق العام وشكل إقبال الجمهور على السينما تماشيًا مع الوضع السياسي، لكان نجاح الفيلم قد طال أكثر.
مراجعات متأخرة
تجدر الإشارة هنا إلى أن كثيرا من نقاد السبعينيات عادوا وراجعوا مواقفهم من “زوزو”، ومن صانعه حسن الإمام، ليشهد عقد التسعينيات وما تلاه اعترافًا متأخرًا بموهبة الإمام وقدرته الواضحة على خلق عالم سينمائي خاص، له ملامحه التي يسهل تمييزها، ومذاقه الذي قد يُعجبك أو لا يُعجبك، لكن لا يمكنك إلا الاعتراف بوجوده، كما لا يمكن لمن ينظر إلى ماضي السينما المصرية إلا أن يعترف بأن مخرجين آخرين حاولوا تقليد أسلوب الإمام معتقدين في سهولته، لتكشف النتائج عن كونه عصيًا على التقليد، فهو “السهل الممتنع” كما يقول المصطلح الذي استُهلك كثيرًا حتى فقد معناه.
أذكر هنا ما رواه الناقد الكبير كمال رمزي أكثر من مرة، عن النقاد السوفيتيين الذين أدهشهم “خللي بالك من زوزو”، وفاجأوا أقرانهم المصريين الذين كانوا يعتقدون أن آراءهم فيه ستكون سلبية، فوجدوه فيلمًا مهمًا عن الحراك الطبقي، وقدرة شابة من جذور متواضعة أن تنجح رغم مصاعب الأحكام الطبقية عليها.
دهشة كمال رمزي لا تختلف عمّا رواه المخرج الكبير يسري نصر الله لنا قبل عرض زاوية، بأنه شاهد الفيلم مع زملائه في جامعة القاهرة، فكانوا ساخطين عليه باعتباره عملًا يسيء لجامعتهم ويقدمها بشكل سيئ، قبل أن يعيد اكتشاف الفيلم ويعترف بأن النسخة الكاريكاتورية التي قدمها الفيلم للجامعة تحمل من المتعة أكثر بكثير مما تحمله من إساءة.
فيلم في الجينات
تعيدنا ذكريات نصر الله إلى عرض الخميس الماضي في سينما زاوية، والذي اجتمع فيه مزيج غريب بعض الشيء من المدعوين: جمهور زاوية من شباب يحب السينما وأغلبهم أصحاب ذوق غربي في المجمل، يصعب تصور إعجابهم بسينما حسن الإمام بشكل مجرد، مع عائلة “أفلام مصر العالمية” الواسعة من حملة لواء الفرنكوفونية في السينما المصرية، وعدد من السينمائيين العاملين في الصناعة السائدة، بالإضافة إلى شخصيات عامة من خلفيات مختلفة.
قبل العرض نظرت حولي لهذا المزيج البشري وسألت يسري نصر الله: حسب رأيك كم نسبة من شاهدوا “خللي بالك من زوزو” من قبل بين الحضور. ليرد بشكل قاطع: جميعهم، لا يوجد من لم يشاهد زوزو!
يصعب بالطبع القطع بأن الجميع شاهد الفيلم، وبعض التعليقات التي تناثرت بخصوص مشاهد الفيلم خلال عرضه قد تؤكد ذلك، لكن الأكيد هو أننا لو وضعنا قائمة بخمسة أفلام شاهدها في الأغلب القطاع الأعرض من المصريين، فسيكون “زوزو” بالتأكيد من بينها. يشير ذلك إلى القدرة النادرة على التسلسل إلى الوجدان العام، على أن تتحول كافة تفاصيل الفيلم إلى مكوّنات في الوعي المصري -والعربي ربما- أي تصير ميمات memes في الجينوم الثقافي لنا، حسب تعريف ريتشارد دوكنز للميم كنظير ثقافي للجين gene، وليس حسب المعنى المعاصر كنكتة مرئية واسعة التداول.
قد يكون بين الحضور من لم يشاهدوا الفيلم من قبل، أو من شاهدوه منذ سنوات ونسوا أغلب تفاصيله، لكن وعيهم يدرك بالتأكيد أثر الفيلم في الثقافة العامة، في صورة سعاد حسني وأسطورتها الأبدية، وغيرها من الروافد التي تشعبت من الفيلم وحوله بمرور العقود، بما يفوق كثيرًا قيمته المجردة كفيلم رومانسي غنائي، جيد الصنع وممتع، ميلودرامي ومبالغ في بعض تفاصيله، لكنه آسر وقادر على التأثير في صورته العامة. فاز الفيلم في تحدي الزمن، وبعدما راهن بعض النقاد على كون نجاحه لحظيًا سريعًا ما سيخفت، ظلت “زوزو” تمتع من يشاهدها حتى يومنا هذا.
عن التمرد وتمكين المرأة
إلا أن الحديث عن القيمة التاريخية لا يجب أن يجعلنا نقع في نفس الخطأ ونتجاهل تحليل الشريط نفسه، هو ذلك العمل الذي لم تتمكن الأعين الغاضبة وقت عرضه من مشاهدة ما يحمله من تمرد مجتمعي وثقافي ونسوي يتمثل في تلك الفتاة الجامعية زينب عبد الكريم، المرأة القوية القادرة المتصالحة مع جمالها وجسدها ورغباتها، والتي تؤمن بأن المطالب لا تؤتى بالتمني، ولكن تؤخذ الدنيا “كدهو”، فلا تخجل من أن تطارد الشاب الذي يعجبها، تهاجمه في البداية بعنف، ثم تعجب به فتتعقبه في دأب حتى يقع في حبها. قد تكون زوزو هي أحد أكثر نماذج تاريخ السينما المصرية تعبيرًا عن المرأة الممكنة، التي تستمد قوتها من داخلها، بل وتستند إلى هذا الداخل في تحدي العالم الخارجي الذي يمزقها بين كتلتين ترفض كلتيهما.
هنا يكمن الخطأ الأكبر الذي وقعت فيه الأقلام النقدية آنذاك، باعتبار الفيلم يقوم كأفلام مخرجه بالدفاع عن عالم العوالم في شارع محمد علي، رغم أن هذا ليس فقط افتراضًا خاطئًا في “خللي بالك من زوزو”، بل هو خاطئ في أغلب أفلام حسن الإمام، الرجل الذي عشق هذا العالم لكنه لم يتخلص أبدًا من رؤيته الأخلاقية له، فظل عالم الليل حاضرًا دائمًا، جاذبًا للجماهير، لكنه مرتبط بالانحدار والتفسخ الأخلاقي والانزلاق للرذيلة، ولنراجع مسار أفلام للإمام، “بنت بديعة” أو “ملكة الليل” مثلًا. بينما كلمة السر في جاذبية زوزو هو قدرتها الفريدة على السير فوق الخط الرفيع الفاصل بين تردي العوالم وتردي الأثرياء، بل وتردي المحافظين أيضًا متمثلين في شخصية عمران (محيي إسماعيل) التي كانت نبوءة مبكرة لما سيحدث في الجامعات المصرية خلال السبعينيات وما تلاها.
زوزو لا تحب جذورها وعالم أمها، لكنها تملك من الوعي ما يكفيها للتعايش مع الوضع الراهن كمرحلة ستنتهي بعد تخرجها وحصولها على وظيفة، فلا هي منقطعة الصلة بماضيها تخجل منه ولا هي منفتحة عليه كليًا، تحافظ على علاقة بالغة الكياسة مع تراثها كانت لتؤهلها لأن تنهي المرحلة وتبدأ ما يليها بسلاسة لولا وقوعها في الحب. وفي المقابل تحب سعيد (حسين فهمي) وتعجب بثقته في نفسه ووسامته، لكنها تبدأ علاقتها به بمشاجرة، وتواصل على علاقة الندية والشد والجذب معه، مطالبة إياه دائمًا أن يضعها على قدم المساواة، أن “يسمع بحماس ما تقوله بحماس”، بل أن صدمتها وهروبها في الفصل الأخير من الفيلم بعد انكشاف حقيقتها أمام عائلة سعيد لا ترجع بالأساس لخجلها من أصلها، وإنما لأن كشف المستور أجبرها تلقائيًا على أخذ خطوة لأسفل والتعامل معه من موضع ضعف لم تعتده.
صحيح أن الحل يأتي من فعل ذكوري هو قيام سعيد بصفعها لمنعها من العمل كراقصة في شارع الهرم (رفعت إحدى الحاضرات صوتها خلال العرض بتعليق يسخر من الفعل)، لكن لو حللنا ما فعلته الصفعة -التي أشبعت رغبات أمها ومعها جمهور مطلع السبعينيات- فسنجد أنها لم تؤد أبدًا لانكسار زوزو أمام العالم، بل على العكس كانت أشبه بصفع من يعاني من بدايات صدمة عصبية لحمايته منها، والدليل أن زوزو خرجت من الموقف أقوى وأكثر ثقة وتصالحًا مع ماضيها وحاضرها ومستقبلها، عادت لمسارها الذي تتعلم فيه وتغني وترقص، وتحب فتُقبّل حبيبها بحرية بينما لا يملك العالم إلا أن يوصيه بأن “يخللي باله منها”. وهو انتصار كامل حققته الفتاة على العوالم والأثرياء والمتزمتين والأحكام المجتمعية، جمعاء.
مفارقات القدر
الكثير يُمكن أن يقال عن هذا الفيلم الفريد، ذي القيمة الفنية والثقافية والتاريخية، لكن المهم هنا هو تلك اللحظة التي ربما لم تكن لتتم لولا أن قررت مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي أن تموّل عملية ترميم الفيلم، ولولا النجاحات الحديثة لفكرة إعادة عرض أفلام جماهيرية مصرية في زاوية (كان آخرها عرض “حب البنات” لخالد الحجر). ربما لو لم يتزامن ذلك لكنا قد شاهدنا أحد أفلام يوسف شاهين المرممة في احتفالية “زاوية”.
كنا سنستمتع أيضًا بالتأكيد، لكن العرض لم يكن ليأتي مُشبّعًا بالمفارقة التي يحملها عرض “خللي بالك من زوزو”، أسطورة السينما التجارية المصرية، في احتفالية مركز السينما المعاصرة في القاهرة. وكأن القدر قد رتب الأحداث لتقودنا إلى قضاء ليلة تمتزج فيها المتعة بإعادة النظر إلى تاريخنا السينمائي المتشابك. ليلة في رحاب زوزو ألمظية، أشهر نساء السينما المصرية.