أحدث الحكايا

د. هيثم الحاج علي يحكي: عثمان نور الدين باشا أمير البحار ومهندس البعثات الذي مات متهما بالخيانة

في عام 1794 وفي جزيرة ميدلي اليونانية ولد الطفل عثمان، الذي لم يقض في مسقط رأسه عامين حتى هاجرت الأسرة إلى مصر، واستوطنت فيها، وبعد أن انفرد محمد علي بحكم مصر اختار في بلاط حكمه أبا عثمان ليكون في حاشيته، باش سقه، أي إنه كان المسئول الأول في قصر الحكم عن السقاية، وهو الأمر الذي فتح للطفل عثمان سبيلا للتعلم داخل القصر وقد نبغ في التعليم لدرجة أن توسط قنصل السويد له لدى محمد علي لكي يسافر إلى أوروبا، إيطاليا ثم فرنسا ليستكمل تعليمه هناك، وربما هي المرة الأولى التي يفكر فيها محمد علي في سفر أحد رعاياه للتعلم، لكن ذلك قد وافق هواه الذي مال إلى إنشاء الجيش المصري المنظم المعتمد على المصريين.

محمد علي باشا

 

تتضارب كتب التاريخ في ذكر السنة التي سافر فيها عثمان وعاد، لكن الأهم أنه قد رجع من بعثته بين عام 1818 وعام 1819، وأنه قد عاد محملا بعدد كبير من الكتب تم تكليفه بجمعها، وأن أولى مهامه بعد العودة كانت تنظيم أول مكتبة في مصر، وقد قام بإنشائها داخل قصر إبراهيم باشا بباب اللوق (مكان مول البستان حاليا) وأنه حين نجح في تلك المهمة عهد إليه بإنشاء مدرسة قصر العيني الحربية، ثم بعض المدارس الأخرى فيما بعد في المجال نفسه.

أشرف عثمان نور الدين على ترجمة عدد كبير من الكتب التي تهتم بقواعد إنشاء الأساطيل الحربية وقوانينها ولذلك كان واحدا ممن أشرفوا على إنشاء الأسطول المصري الحديث وترقى في المناصب حتى وصل لقيادة هذا الأسطول والوصول به إلى أن يكون من أقوى ثلاثة أساطيل في العالم في ذلك الوقت بعد الأسطولين الإنجليزي والفرنسي.

معركة نافارين البحرية – صورة تعبيرية

 

غير أن إنجازه الأهم في تاريخ النهضة المصرية الحديثة يتمثل في أنه صاحب اقتراح إيفاد بعثات علمية إلى أوروبا، ذلك الاقتراح الذي ألح فيه على محمد علي ولم يدخر طريقة ليقنعه بها، بل إنه رتب مع مسيو جومار (أحد علماء الحملة الفرنسية وقد تعرف عليه في أثناء بعثته إلى فرنسا) خطط إدارة تلك البعثات، وأشرف بنفسه على الترتيبات الخاصة بالطلاب ودراستهم، ليكون هو المهندس الأول للبعثات العلمية المصرية في ذلك الوقت وهي البعثات التي كان لها الأثر الأكبر في الإسراع بوتيرة النهضة المصرية الحديثة.

مسيو جومار أحد علماء الحملة الفرنسية

 

أرسل باستقالته إلى محمد علي (ليكون أول مسئول يستقيل في عهد محمد علي) وتوجه إلى تركيا ليتم تعيينه في منصب الإشراف على الأسطول العثماني، وهو ما اعتبره محمد علي خيانة كبرى، وهو ما يفسر عدم ذكر عثمان نور الدين كثيرا في الكتب التي تؤرخ لتلك الفترة.

 

في أثناء توليه قيادة الأسطول المصري تم تكليفه من قبل محمد علي الذي كان ينفذ أوامر الباب العالي بإخماد ثورة كريت التي لم يقدر السلطان العثماني على مواجهتها، وبالفعل استطاع عثمان نور الدين القيام بالمهمة، لكن بعد العملية العسكرية قام رجال محمد علي بإعدام عدد كبير من السكان دون محاكمة، وهو الأمر الذي أزعج عثمان نور الدين بشدة فأرسل باستقالته إلى محمد علي (ليكون أول مسئول يستقيل في عهد محمد علي) وتوجه إلى تركيا ليتم تعيينه في منصب الإشراف على الأسطول العثماني، وهو ما اعتبره محمد علي خيانة كبرى، وهو ما يفسر عدم ذكر عثمان نور الدين كثيرا في الكتب التي تؤرخ لتلك الفترة.

 

عثمان نور الدين له أثره الكبير على مسيرة التعليم والترجمة المصرية، ولولا تحمسه للبعثات العلمية التي أراد بها استنساخ تجربته الشخصية في أكبر عدد ممكن من المصريين لاختلفت مسيرة هذا الوطن

 

محمد علي باشا بجانب الأسطول المصري في ميناء الإسكندرية

 

سافر عثمان إلى تركيا عام 1832، وبعد عامين اجتاحها الطاعون وكان هو واحدا من ضحاياه فمات في عام 1834، بعد أن ارتبط اسمه بالأسطول المصري ومدارس الحربية والبحرية ومدرسة أركان الحرب المصرية والبعثات التعليمية وغيرها من الإنجازات التي ثبتت اسمه واحدا ممن أسهموا في تاريخ مصر.

أيا كان الأمر فإن عثمان نور الدين له أثره الكبير على مسيرة التعليم والترجمة المصرية، ولولا تحمسه للبعثات العلمية التي أراد بها استنساخ تجربته الشخصية في أكبر عدد ممكن من المصريين لاختلفت مسيرة هذا الوطن.

عن د. هيثم الحاج علي

شاعر وناقد، أستاذ مساعد الأدب العربي الحديث والنقد بكلية الآداب جامعة حلوان. شغل سابقا العديد من المناصب في وزارة الثقافة المصرية مثل: رئيس مجلس إدارة الهيئة المصرية العامة للكتاب، أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، رئيس مجلس إدارة جريدة القاهرة الصادرة عن وزارة الثقافة المصرية، له العديد من الكتب النقدية والإبداعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *