أحدث الحكايا

أحمد شوقي يحكي: عندما يتكلم المخرجون.. تساؤلات حول حوارات صناع الأفلام

“تكلم حتى أراك”. تُمثل عبارة سقراط الشهيرة أمرًا مسلمًا به في أغلب فنون الجدل والنقاش وحتى العلوم الإنسانية، فالوسيلة الوحيدة التي يمكن أن نرى بها الشخص، أن نعرف حقيقته، هي قيامه بالحديث والكشف عما يدور داخله. 

لكن الأمر لا يبدو بهذه البساطة عندما يتعلق بالإبداع، لا سيما الإبداع الذي يرتبط باللغة ارتباطًا جزئيًا، فإذا كانت اللغة أداة الأديب الوحيدة تقريبًا، فهي مجرد واحدة من أدوات عديدة يمتلكها فنان السينما، حتى أن بعض صناع السينما يقررون الاستغناء تمامًا عن اللغة المنطوقة، محاولين الاستعاضة عنها بمفردات من اللغة البصرية، وبتوظيف الأدوات الحديثة نسبيًا التي خلقها الوسيط السينمائي نفسه كلغة المونتاج وحركة الكاميرا.

الحوارات مع صناع الأفلام دائمًا مادة ثرية للقراءة والاستمتاع والاستفادة، لكنها تطرح أسئلة حول مدى تعبيرها الصادق عن المنجز السينمائي ذاته. شخصيًا، قمت بنشر كتابين من المحاورات، أحدهما حوار ممتد مع المخرج الكبير داود عبد السيد عن كل أفلامه، والثاني مع المخرج الكبير يسري نصر الله انطلاقًا من نفس الفكرة، وفي المرتين لمست ما يمكن أن يضيفه أو يغيره الحديث مع الفنان حول عمله، فكلا المبدعين -داود ويسري- متحدث لبق، قادر على توصيل أفكاره والاستطراد في التعبير اللفظي عن أفلامه.

لكن ما هو الموقف في حالة المخرجين المبدعين الذين لا يمتلكون نفس القدرات اللغوية؟ الفنلندي آكي كواريسماكي مثلًا أحد أهم صناع السينما المعاصرين لكنه مصاب برهاب اجتماعي يواجهه بإفراط في شرب الكحول يجعل أغلب حواراته بلا قيمة تقريبًا بالمقارنة بأفلامه. وعلي النقيض لدينا قائمة ضخمة من المخرجين المالكين لناصية الكلام، والذي يمكن أن تقرأ حوارًا معهم فتظن أن صاحبه هو صانع الأفلام الأكثر دراية بتفاصيل فنّه، ثم تشاهد أفلامه فيصدمك جودتها المتواضعة مقارنة بحديثه.

بعض الاقتباسات تبدو عبقرية تلخص رؤية عميقة للسينما، لكنها آتية من مخرجين لا أكن محبة كبيرة لأعمالهم، بينما تأتي بعض حوارات كبار المبدعين فاترة، خالية من أي اقتباس حكيم أو نظرة تحمل استنارة حقيقية.

البحث عن صوت المخرج المتكلم

سر التفكير في هذا الأمر هو عودتي خلال الأيام الأخيرة لمجموعة من كتاب الحوارات مع المخرجين، بغرض البحث عن تفاصيل لدراسة أقوم بكتابتها، وفيها وجدت نفسي مجددًا أمام نفس الإشكالية بوضوح: بعض الاقتباسات تبدو عبقرية تلخص رؤية عميقة للسينما، لكنها آتية من مخرجين لا أكن محبة كبيرة لأعمالهم، بينما تأتي بعض حوارات كبار المبدعين فاترة، خالية من أي اقتباس حكيم أو نظرة تحمل استنارة حقيقية.

ناهيك بالطبع عن سؤال الصياغة، ففي حالة الحوارات المكتوبة لا نقرأ ما قاله المتحدث بالضبط، وإنما ما قام المحاور بصياغته، أي أننا نقرأ ما فهمه وصاغه المحاور من الحديث وليس الحديث نفسه. من هنا تنبع قيمة المحاور القادر على استخراج الأفكار من عقل محدّثه أولًا، ثم صياغتها بشكل وافٍ ومشبع ثانيًا. أضف لذلك قدرات المترجم في حالة قراءتها بالعربية ثالثًا.

يقودني هذا للحديث عن الكتاب الذي يظل أحد أفضل كتب الحوارات المترجمة في المكتبة السينمائية العربية. “محاضرات في الإخراج السينمائي”، وهو العنوان الذي اختاره الناقد والمترجم الراحل محسن ويفي لسلسلة المحاورات التي أجراها الناقد لوران تيرار مع كبار مخرجي العالم لصالح مجلة “ستوديو” ثم أعاد نشرها في كتاب بعنوان “Moviemakers’ Masterclass”. الحوارات التي نقلها ويفي بإخلاص شديد، وبلغة رصينة جزلة، جعلتها مادة يمكن الرجوع لها باستمرار.

كتاب «محاضرات في الإخراج السينمائي»

من الكتاب اخترت بعض الاقتباسات التي يُمكن أن تعبر عن شكل مثالي للاستفادة من خبرة صانع الأفلام في استخراج ما ينطلق من سينماه الخاصة أولًا، لكنه صالح لأن يكون مفيدًا بشكلٍ عام لكل من يريد أن يتعلم صناعة الأفلام ثانيًا. وتذكّر أن الكاتب اختار اعتبار حواراته دروسًا في السينما.

كتاب لوران تيرار

هذا الفهم العميق، العملي، والمتأخر في مسيرة صانعه، هو تأكيد صريح لما تقوله العديد من الدراسات النقدية، بأن المخرجين المبدعين، أو المؤلفين حسب المصطلح الشائع auteurs لا يمكنهم في أغلب الحالات التخلص من هوس ما، فكرة واحدة ملحة تتكرر في أعمالهم بشكل مقصود أو غير مقصود

المبدع يصنع فيلمًا واحدًا

لنقرأ مثلًا ما قاله الفرنسي كلود سوتيه عن أفلامه:

“عند مشاهدة أفلامك مرة أخرى، ستكتشف كل الأشياء المرتبطة معًا، كل الأشياء التي تضعها داخلها بانتظام على غير وعيّ منك. شخصيًا، مع هذا الفهم بأثر رجعي، أستطيع أن أتفهم حماسي الزائد تجاه معالجة الشخصيات الرجالية بحدة أكثر من الشخصيات النسائية، ربما يعود ذلك إلى طفولتي، وحقيقة أنني قد تربيت في بيت بأب غائب. تتكرر أنواع من كل هذا داخل كل فيلم، سواء عن رغبة مني أو عن غير رغبة. تتغير الأماكن، والشخصيات أيضًا، ولكن التيمات البارزة تتكرر. في الواقع، برغم كل الطاقة التي أودعها في كل مشروع جديد لجعله مختلفًا، في النهاية فإنني قد صنعت نفس الفيلم طول حياتي”.

هذا الفهم العميق، العملي، والمتأخر في مسيرة صانعه، هو تأكيد صريح لما تقوله العديد من الدراسات النقدية، بأن المخرجين المبدعين، أو المؤلفين حسب المصطلح الشائع auteurs لا يمكنهم في أغلب الحالات التخلص من هوس ما، فكرة واحدة ملحة تتكرر في أعمالهم بشكل مقصود أو غير مقصود، فحتى لو أراد صانع الفيلم أن يجعل فيلمه الجديد مختلفًا، يكتشف أن موهبته ودوافعه غير الواعية تقوده في النهاية نحو المساحات نفسها، وهو ما يمنح المخرج المؤلف فرادته ويجعلنا قادرين على تمييز سينما مخرج ما بمجرد مشاهدة دقائق منها، بينما يعجز مخرجون آخرون طيلة مسيرتهم على تحقيق تلك البصمة الشخصية.

Claude Sautet on the set of Nelly and Monsieur Arnaud.jpg – Claude Sautet on the set of NELLY AND MONSIEUR ARNAUD (1995). Courtesy Rialto Pictures / Studiocanal. Photo by David Koskas

قيمة الدهشة والتحدي

يمكن أيضًا أن نقتبس من الكتاب ما قاله المخرج الأمريكي الكبير وودي آلان، وهو صاحب المسيرة هائلة الحجم الذي استمر أكثر من أربعة عقود يصنع فيلمًا واحدًا على الأقل كل عام. رغم ذلك يقول آلان عن استقبال الجمهور لأفلامه:

“الخطر الجسيم الذي أحذر أي مخرج في المستقبل منه هو أن تعتقد أنك تعي كل شيء عن السينما. أصنع أفلاما الآن ومازلت أصاب بالدهشة وحتى بالصدمة أحيانا على ردود أفعال المتفرجين. أظن أنهم سيعجبون بهذه الشخصية، فتنقلب الحال وتجدهم غير مكترثين إطلاقا بها، وإنما يحبون شخصية أخرى. أظن أنهم سيضحكون عند موضع محدد، فتنتهي بهم الحال إلى الضحك عن شيء ما لم أعتقد إطلاقا أنه مثير للضحك. إنه أمر محبط قليلا. ولكن هذا ما يجعل هذه المهنة ساحرة للغاية، شديدة الجاذبية، وممتعة. لو أنني أعتقد معرفتي بكل شيء فيها، لكنت قد توقفت عن ممارستي لها منذ زمن بعيد”.

المخرج وودي الان

يذكرني هذا فورًا بما قاله يسري نصر الله ضمن كتاب المحاورات معه، وهو أن أهم ما تعلمه من فترة عمله مساعدًا ليوسف شاهين، لم يكن التكنيك الإخراجي الذي يمكن اكتسابه بسهولة وفي فترة وجيزة، وإنما الإدراك العام بأن الفيلم دائمًا أكبر منك، أنك وإن صرت بحجم يوسف شاهين -أو وودي آلان في حالتنا- فإن الضمان الوحيد لاستمرار تأثيرك هو شعورك في كل مرة تصنع فيها فيلمًا أنك تُقدم على مهمة عسيرة يستحيل توقع نتائجها. أما من يعتقدون بعد عدة سنوات من الخبرة أن صناعة الأفلام أمر سهل، وأن الفيلم المقبل مجرد وظيفة جديدة سينهونها دون أي تحدٍ، فهم يسيرون بحماس في طريق الفشل، والأمثلة على ذلك كثيرة.

فن احترام الممثلين

اقتباس ثالث من المخرج الكندي دافيد كروننبيرج، والذي يمنحنا روشتة مدهشة في كيفية التعامل مع الممثلين حين قال:

“في البداية كنت أرى الممثلين كخصوم لأنّي أشعر أنهم لا يتفهمون الضغط الذي يُمارس علىّ. كنت قلقًا بشأن محاولتي صنع الفيلم في وقته المحدد وداخل الميزانية، وبدا أن كل ما يقلقهم هو شعرهم وماكياجهم وملابسهم. وبدت كل هذه الأشياء تافهةً بالنسبة لي بالطبع. لكن بمرور الوقت أدركت أنني مخطئ. هذه الأشياء هي كل أدواتهم، هي بنفس أهمية الكاميرا والإضاءة لي. بالنسبة لمخرج، الأدوات هي كل شيء في الفيلم. ولكن بالنسبة لممثل، فكل شيء يدور حول الشخصية، وبالتالي فهم ليسوا تمامًا على نفس الموجة، إنهم ليسوا تمامًا في نفس الواقع، لكن إذا تواصل الممثلون والمخرج فأنهم يستطيعون التحرك في نفس الاتجاه معًا. سيحاول أغلب المخرجين الشبان تجاوز تلك المشكلة عن طريق الكذب على الممثلين. أعرف أن ذلك يحدث، ولكنني لم أفعل ذلك. وبمرور الوقت، تدرك أنك لو كنت أمينًا، فإن الممثلين لن يكونوا فقط سعداءً لمساعدتك في حل مشاكلك، بل إنهم يصنعون وصلة لتحقيق ذلك”.

يمكن لكلمات كروننبيرج أم تحل قدر هائل من المشكلات التي تنشأ بين صناع السينما الشباب -بل والمخضرمين أحيانًا- بسبب عدم تفهمهم لأمر بديهي هو اختلاف المنظور والأدوات بينهم وبين ممثلي أفلاهمهم.

المخرج الكندي دافيد كروننبيرج

يمكننا أن نستمر طويلًا في هذه اللعبة الممتعة، باقتباس عبارات ذكية من الكتاب المذكور أو من أي كتاب آخر ثم التعليق عليها وربطها بواقعنا السينمائي المصري والعربي، لكن أعتقد أن الفكرة قد وصلت: لا ترتبط القدرة على صناعة الأفلام حتمًا بالقدرة عن الحديث عنها. البعض يجب أن يكتفي بصناعة أفلامه فقط، والبعض قد يكون متحدثًا يُعمّق محبة الجمهور بالسينما أفضل من أن يكون مخرجًا، أما القلة من الموهوبين المفوهين، الممتلكين ناصية صناعة الأفلام ومهارة الحديث عنها، فهم من نستمتع مرة بمشاهدة أفلامهم، ومرة أخرى بسماعهم ومعرفة كيف يفكرون في تلك الأفلام.

عن أحمد شوقي

ناقد سينمائي مصري ومبرمج ومشرف سيناريو. حاليًا هو رئيس الاتحاد الدولي للنقاد (فيبريسى)، ورئيس جمعية نقاد السينما المصريين. ينشر مقالات أسبوعية عن السينما وصناعة الترفيه. كما أصدر ثمانية كتب متخصصة حول السينما المصرية. شوقي يشغل منصب مدير منطلق الجونة، برنامج تطوير المشروعات والإنتاج المشترك الخاص بمهرجان الجونة السينمائي. كما إنه مدير التطوير لمنطقة الشرق الأوسط بمنصة "فيو" الإلكترونية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *