تتسع ذاكرتي للكثير من المشاهد التي عايشتها داخل ملاعب كرة القدم. ذكريات تبدأ من ستاد طنطا الرياضي الذي حضرت فيه طفلًا أول مباراة في حياتي: مواجهة بين الأهلي و”منتخب الأندية”، فريق طنطا مدعومًا بعدد من لاعبي الأندية الأخرى، في مباراة اعتزال أحد نجوم المدينة حضرها الأهلي بفريقه الثاني مع بعض الوجوه المعروفة.
آنذاك لم تكن مباريات الاعتزال تكريمًا معنويًا للنجم المعتزل فحسب، بل كانت مساعدة مادية أيضًا، لأن دخل المباراة كان عادةً ما يذهب لصاحب الاحتفال. في زمن كان لاعبو الكرة يتقاضون فيه مبالغ متواضعة تجعلهم يكتشفون لحظة الاعتزال أن عليهم إيجاد وسيلة لبدء حياة مهنية جديدة في الثلاثينات دون أن يملكوا سوى بعض السمعة الحسنة، دون حتى أن يعرف الناس ملامح وجوههم، اللهم إلا القلة المحدودة من نجوم القطبين الذين تنشر الصحف صورهم ويعرض التلفزيون مبارياتهم.
مسافة بعيدة حقًا بين مباراة اعتزال في الأقاليم داخل ملعب يتسع بالكاد لعشرة آلاف مشجع، وبين الجلوس في الصف الأول لملعب لوسيل لأرى بعيني البرازيلي ريشارلسون على بعد أمتار يسجل مقصيّة مذهلة في مرمى صربيا، أو الخروج من الملعب نفسه وسط عشرات الآلاف من الجمهور السعودي المشحون بنشوة يستحيل تصورها بعدما أذهل فريقهم العالم وهزم الأرجنتين، فخرجوا يصيحون “ميسي وينه؟ كسرنا عينه”!
ذكريات بين الملاعب
حضرت بعدها مباريات في ملاعب مصر المختلفة: الإسكندرية والمقاولون العرب وبتروسبورت والدفاع الجوي والكلية الحربية وجهاز الرياضة العسكري والسلام وغزل المحلة. كنت في ستاد القاهرة عندما انتهى الشوط الأول بين الزمالك والإسماعيلي بتعادل مثير بهدفين لكل جانب، ثم أعلن المذيع الداخلي في الاستراحة أن مدرب الزمالك حسن شحاتة قرر عدم استكمال المباراة بسبب ما جرى قبل دقائق في بورسعيد، فخرجنا من الملعب نفكر هل ستُستكمل المباراة لاحقًا أم يعتبرون الزمالك منسحبًا؟ قبل أن نصل منازلنا فنعرف حجم ما جرى وندرك أننا عشنا لحظة وفاة الكرة المصرية.
تجولت أيضًا في ملاعب العالم. شجعت مع جمهور أولمبياكوس اليوناني في ملعب بيرايس التاريخي الذي استضاف ألعاب القوى في أول دورة ألعاب أوليمبية حديثة عام 1896، وحضرت واحدة من أولى المباريات على ملعب أليانز ستاديوم في العاصمة النمساوية فيينا في عام افتتاحه 2016. يومها اكتشف البائع في متجر نادي رابيد فيينا أنني مصري أشجع الزمالك الذي يشجعه والده فقرر منحي خصمًا إضافيًا بشرط ألا أخبر أحدًا عن الأمر.
جلست في المقصورة الرئاسية لملعب رادس في تونس قبل أن يتم تغيير اسمه لملعب حمادي العقربي لأتابع ودية تحت الأمطار بين تونس وإيران استعدادًا لمونديال 2018، وزرت ملاعب في بريطانيا وفرنسا والسعودية والإمارات، وفي كل بلد أزوره أحاول أن تتضمن الرحلة زيارة لأحد الملاعب المهمة فيه، بشرط أن أحضر مباراة لا أن أزور الملعب كالمتاحف.
اليورو أخيرًا
وفي الأمس، كان كاتب في الأربعين يقف وسط عشرات الآلاف أمام مبنى الرايخشتاج الشهير في قلب العاصمة الألمانية برلين، يشاهد مع الجمهور المحتشد بثًا حيًا لمباراة افتتاح كأس الأمم الأوروبية بين ألمانيا واسكتلندا، بينما يتذكر جلوسه وحيدًا في مدرج كامل باستاد الإسكندرية مع عمه الراحل، الضابط المكلف بتأمين مباراة صيفية في كأس مصر بين الزمالك والكروم، تمنى في بداية المباراة لو كان من الممكن أن يذهب ليجلس وسط مشجعي الزمالك الذي يملأون مدرجا آخر، لكن جلس مع رجال الأمن فاستمتع بمشاهدة خالد الغندور يسدد من أربعين ياردة قذيفة مدوية تجعلك تؤمن أن هذا الجسد المضغوط كان يحمل داخله قوة خارقة.
قابلت الغندور في مقصورة كبار الضيوف في ملعب البيت بالدوحة ليلة افتتاح كأس العالم، فحييته والتقطت صورة معه، ولم أجد الظرف ملائمًا لأخبره عن مكانه داخل ذاكرة طفولتي.
حتى لا أبالغ، لم أطل التفكير كثيرًا في خالد الغندور خلال افتتاح يورو، لكن الفكرة الرئيسية التي سيطرت عليّ وأنا أشاهد الوجوه المحتفلة حولي، والتي يعيش أصحابها لحظة نشوة صافية بغض النظر عن نتيجة المباراة، كانت المقارنة بين تجربة حضور اليورو في ألمانيا وكأس الأمم الأفريقية قبل خمس سنوات في القاهرة. سألت نفسي: هل من الممكن أن يأتي يوم وننظم فيه حقًا احتفالية كروية شعبية حقيقية؟ الإجابة المختصرة، والموجعة، هي في الأغلب لا.
بين الإنجاز والبديهيات
تعمدت ذكر كأس أمم أفريقيا 2019 باعتبارها درة التاج، الحدث الذي يردد الخبراء والمحللون سيرته باستمرار كلما أرادوا ضرب مثلٍ حول قدرتنا على تنظيم حدث رياضي كبير. الحقيقة أنه حدث كبير بالطبع إذا ما قارناه بكوميديا البطولات المحلية التي لا يعرف إنسان متى تبدأ ومتى تنتهي، لكنه إن وُضِع في مقارنة مع أي بطولة حقيقية سيكون تقييمه أقل من المتوسط، على الأكثر.
لماذا؟ لأن أصحاب القرار في بلدنا، رياضيًا وتنظيميًا وأمنيًا، ما زالوا واقعين تحت وهم أن نجاح البطولة يتلخص في أن تظهر بصورة جيدة على شاشة التلفزيون: أن تبدو أرضية الملعب أنيقة، وأن يستخدم المخرج الإسباني عشرين كاميرا منهم واحدة طائرة لا يتوقف مدحت شلبي عن إخبارنا أنها الأحدث في العالم.
حسنًا، ربما كان لديهم بعض الحق قياسًا على خبراتهم اليومية، فإذا كان المعتاد أن تُلعب المباريات على ملاعب شكلها وحده يُفقدك الرغبة في المتابعة، وتنقلها تلفزيونيًا كاميرات قليلة، عتيقة، يديرها طواقم آخر ما تعلموه في مهنتهم يعود لعقود ماضية. إن كان هذا هو الوضع المعتاد فمن الطبيعي أن يشعر المرء بالإنجاز عندما تصل الأمور للمستوى المقبول، غير أن جودة أرضية الملعب وشكل البث هي أمور يفترض أن تكون بديهية، غير مطروحة للنقاش من الأساس في بطولات تُنفق الملايين على عقودها.
الأمر يشبه في عالم مهرجانات السينما أن يخرج مهرجان ليفخر بأن جميع الأفلام قد بدأت في موعدها ودون شكوى من جودة العرض. في العالم هذه مسلمات لا توضع من الأساس محل التقييم، حيث يفكر الناس في جودة الاختيارات والعلاقة بالجمهور ووجود فلسفة وراء صياغة برنامج المهرجان، أما عندنا ولأننا نحمل وراءنا تراثًا من العروض الملغاة وظروف العرض الكارثية، لا زلنا نعتبر تحقيق الحد الأدنى المنطقي إنجازًا.
الجمهور كلمة السر
أكتب هذه السطور بعد ساعات من مغادرة الملعب الأوليمبي بالعاصمة الألمانية برلين، حيث حضرت مباراة افتتاح المجموعة الثانية في البطولة الأوروبية بين إسبانيا وكرواتيا، وشاهدت مجددًا كيف يمكن أن تكون المباراة مجرد جزء من كل، وكيف يمكن أن يصير الحدث الرياضي مهرجانًا مذهلًا يمكنك الاستمتاع بتفاصيله، حتى لو لم تحضر المباريات من الأساس.
في كل تفصيلة من تفاصيل البطولة، والتي حضرتها بشكل طبيعي كمشجع دون أن دعوات خاصة أو امتيازات للتغطية الإعلامية، يمكنك أن تلمس قناعة راسخة ينطلق منها كل شيء: أن ما يحدث داخل الملعب لا قيمة له على الإطلاق إن لم يقض الجمهور تجربة ممتعة. الجمهور يذهب إلى المباريات كي يستمتع، لا كي يؤدي مهمة وطنية. صحيح أن المتعة تأتي من مساندة المنتخب الوطني، لكن المشجع عميل اشترى تذكرة يحق له أن يجد ما يقابلها.
البداية من أمور بديهية مثل كيفية الذهاب للملعب. ألمانيا قررت ألا تسمح بالذهاب إلى الملاعب بالسيارات، حفاظًا على حركة المرور وحماية للبيئة من التلوث، لكنها في المقابل وفرت مسارات عديدة للذهاب عبر المواصلات العامة ومنحت للمشجعين حق استخدامها مجانًا طوال اليوم طالما حملوا تذكرة للمباريات. رسمت مسارًا واضحًا يسيرًا استلمه كل المشجعين في وقت مبكر يوضح لهم كيف ومتى يمكنهم الذهاب للملعب ببساطة ودون تعقيدات.
مترو الأنفاق يأخذك من وإلى المباراة بسهولة وسلاسة، يتتابع وصوله بتقاطر يراعي توجه عشرات الآلاف لنفس المكان في وقت واحد، والأمن دوره فقط أن يتابع سير العملية بانتظام ودون مشكلات. خرجت من الملعب فور انتهاء المباراة، وبعد عشرين دقيقة بالضبط كنت في غرفة الفندق. رحلة قصيرة مريحة تذكرت خلالها المصاعب المتتالية التي يجب أن يمر بها كل من يريد حضور مباراة في مصر. تذكرت محطة مترو الأنفاق الموجودة داخل ستاد القاهرة، والتي لم يتم استخدامها ولو ليوم واحد منذ إنشائها. صُممت المحطة لأن وجودها منطقي، ولم يتم تشغيلها لأكثر من ربع قرن لأننا نرفض المنطق!
تعليمات صارمة ولكن
أما المساحة المحيطة بالملعب فحدث ولا حرج، سواء قبل تجاوز بوابات الأمن أو بعدها، عشرات المتاجر التي تبيع كل أشكال الطعام والشراب والهدايا التذكارية، والتي تسهل من مهمة تنفيذ التعليمات الأمنية الصارمة التي تمنع دخول أي مأكولات أو مشروبات أو حقائب يزيد حجمها عن حجم ورقة الطباعة A4. الجمهور ينفذ التعليمات دون أزمة لأنه من جهة يعلم أن الالتزام هو الوسيلة الوحيدة، فلا استثناءات لتمرير أي شيء ممنوع، ومن جهة أخرى يعلم أنه بمجرد تجاوز بوابة الأمن سيجد بإمكانه شراء كل ما يحتاجه دون مشكلة، وبأسعار منطقية.
تذكرت مجددًا ملاعبنا، التي تنعدم فيها الخدمات كليًا تقريبًا، أما في حالة كأس أمم أفريقيا فكانت هناك اختيارات محدودة، بائسة الجودة، باهظة السعر، تصل إليها بعدما تكون قد أضعت كل طاقتك في بلوغ الملعب والسير لكيلومترات حتى يُسمح لك بالدخول. فكرت قليلًا في أن إيرادات هذه المتاجر التي تبيع كل شيء لعشرات الآلاف تتجاوز بالتأكيد إيرادات بيع التذاكر نفسها، وفهمت لماذا يُشكل يوم المباراة مصدرًا دائمًا لدخل الأندية الأوروبية بينما تخسر أنديتنا أموالًا في كل يوم تلعب فيه مباراة، وهي مفارقة مثيرة للعجب.
التعصب كنتيجة منطقية
فكر في كل ما سبق بمنطق المشجع الذي اشترى تذكرة نال نظيرها خدمة، تحت مظلة نظام واضح يسري على الجميع، ويتفهم طبيعة التشجيع كممارسة ترفيهية يُسمح فيها ببعض التجاوز. الجمهور يشرب الكحول في الملعب إن أراد ويهتف على راحته دون مراقبة لما يقوله، لكنه في المقابل يفهم أن التجاوز معناه الإبعاد الفوري من الملعب والعقاب الممتد بالمنع من دخول الملاعب. حضور المباريات يصير فعلًا اعتياديًا يشبه الذهاب إلى السينما، تستمتع به دون أن يحتاج تضحيات خاصة.
قارن هذا بالمشجع المصري الذي يذهب للملعب كجندي يلبي نداء الواجب، لدعم الوطن أو النادي، يتعرض لمصاعب في كل خطوة حتى يصل لملعب لا يجد فيه الحد الأدنى من الخدمات. هذا المشجع الذي جُرّد من كل جوانب تجربة التشجيع بخلاف دعم الفريق سيكون من الطبيعي أن يتحول قنبلة موقوتة إن لم يجد فريقه يحقق الهدف المرجو، فإذا كنا كلنا جنودا في معركة نعاني فيها كي نحقق حلم الفوز، فعليك أن تتوقع ردود فعل الجنود المهزومين إذا لم يفز الفريق في الحرب المزعومة.
الكثير والكثير يمكن أن يقال عن الفروق بين حضور مباراة وحضور معركة، عن العودة إلى المنزل بسهولة وبجسد سليم وذكريات جميلة، في مقابل العودة بإرهاق يحتاج يومين للتعافي وذكريات الاحتمالية الوحيدة للجودة فيها أن يكون فريقك قد فاز، أما إن لم يتحقق هذا الفوز فستكون التجربة مؤلمة في كافة تفاصيلها. وحتى يمكن النظر بجدية لهذه الفروق ومحاولة تذليلها، فسنظل نسمع الكابتن مدحت شلبي وهو يؤكد لنا أن ملعب برج العرب أفضل من كامب نو، بينما يعلم من رأى أن الكابتن لم يحضر على الأغلب مباراة في مدرجات أي ملعب من الاثنين.