أحدث الحكايا
على اليسار الشاعر بيتر بالاكيان، وعلى اليمين عائلة جدته التي أبيدت كلها في يوم واحد

د. سارة حواس تحكي: حكاية بيتر بالاكيان.. ثاني شاعر أمريكي أرميني يحصد “البوليتزر”

شاعرٌ أمريكيٌّ أرمينيٌّ من طرازٍ فريدٍ، وأيضا مختلف، ينتمي إلى جدَّةٍ أرمينيةٍ ناجيةٍ من الإبادة الجماعية الأرمينية، فقد نجت من مسيرة موتٍ من منزلها في ديار بكر التي تقع اليوم في تركيا، وكانت تُعرف بأنها مُتعددة الثقافات للأكراد والعرب والأتراك، وقد قُتل كل أفراد عائلتها تقريبًا صغارًا وكبارًا، حتى والديها، على يد الدرك التركي في عام ١٩١٥.

إنها خلفيةٌ اجتماعية وسياسية مُرَّة تجعلنا نتوقع الهُويَّة الشِّعرية للشاعر الأمريكي الأرميني بيتر بالاكيان.

844022.jpg (670×450)
الشاعر الأمريكي الأرميني بيتر بالاكيان

 

ولد بالاكيان في تينيك في ولاية نيو چيرسي بالولايات المتحدة الأمريكية عام، ١٩٥١ وحصل على الماچستير من جامعة نيويورك عام ١٩٧٥، والدكتوراه من جامهة براون عام ١٩٨٠، وهو مؤلفٌ لسبع مجموعات شعرية منها “مجلة الأوزون” التي حصد عنها جائزة البوليتزر عام ٢٠١٦، والمصادفة النادرة أنه في عام ٢٠١٦ احتفلت جامعة كولومبيا بمرور مائة عام على “جائزة البوليتزر”، والمجموعة الشعرية “زقورة” عام، ٢٠١٠ و”شجرة يونيو: قصائد جديدة ومختارة،  ١٩٧٤-٢٠٠٠” عام ٢٠٠١.

مجموعة مجلة الأوزون لبيتر بالاكيان

معاناة الجدة

تأثرت كتابات بالاكيان الشعرية والنثرية بما عانت منه جدته في الإبادة الأرمينية، فتناول في كتاباته الحديث عن العدالة الاجتماعية والطبيعة والموت والحب، وقالت عنه شيري سبيندلاڤ مؤسسة جائزة أليس وكليفورد سبيندلاف في العدالة الاجتماعية والدبلوماسية والتسامح: “إنه الضمير الأمريكي للإبادة الجماعية الأرمينية”.

لغة بالاكيان الشعرية حسيَّة ومتقلبة الإيقاع وحادة في كثير من الأحيان ويأتي ذلك نتيجة للموضوعات التي يتناولها في شعره بخاصةا لمتعلقة بالحروب والإبادة الجماعية الأرمينية، كما أنه شاعرٌ له قدرة خاصة في الانخراط في الحقائق المتناقضة للحياة المعاصرة بكل صرامتها وصعوبتها وكذلك في لحظات وأوج جمالها ومرونتها.

شعرتُ بهذا التناقض عندما ترجمت قصيدتة “كم أُحبُّكِ” فوجدتني أمام شاعرٍ يفيض بالحبُ والرومانسية، لغته تفيض بالسلاسة والبلاغة العذبة البعيدة عن التعقيد، كما وجدته متأثرًا أيضا بالطبيعة، حيث يحتفي بالماء والنبات والمروج والنهاروالعشب كما انعكس حبه للفن في تلك القصيدة أيضا فتكلم عن فرشاة الرسم واللون الأزرق، كما أنه يكتب مقالات أيضا عن الفن.

web-peter-balakian-2.jpeg (800×700)
الشاعر الأمريكي الأرميني بيتر بالاكيان

 

بالاكيان والشهاوي.. شعراء بفرشاة فنان

اهتمام بالاكيان بالألوان والفن والطبيعة تجلَّى في قصيدة “لون الرُّمان” حيث تحدث عن الهضاب والأنهار وأوراق الشجر والرمان والعنب والماعز وذكر العديد من الألوان: البنيّ والأزرق والورديّ والبنيّ والأحمر، يبدو كأنه كان يرسم قصيدته بفرشاة شاعرٍ فنَّانٍ لتبدو لنا كأنها لوحة فنية طبيعية. ويذكرني ذلك بالشاعر أحمد الشهاوي في قصائده من ديوانه “أسوق الغمام”: “شُرفةٌ تُطلُّ عليَّ” و”طائرٌ يسعى نحو صدرها” و”نبوَّةُ حرفٍ.”.

s1220093011518.png (380×200)

ذكر الشاعر أحمد الشهاوي في تلك القصائد والكثير غيرها مزيجًا من ألوان فنان فذكر اللونين الأزرق والأبيض في قصيدة “شُرفةٌ تطل عليَّ” وذكر اللون الورديّ والأحمر والأبيض والأسود وهو السائد في الكثير من قصائده، كما أنه ذكر اللونين الأحمر والأسود في قصيدة “نُبوَّة حرفٍ”، وربما يرجع تأثره وولعه بالألوان إلى كونه فنانًا ورسَّامًا تشكيليًّا له العديد من اللوحات الفنيَّة البديعة التي تمتاز بألوانها وظلالها المختلفة، لذا فالشاعر الفنان له ذائقة مختلفة في كتابة ورسم الكلمة والحرف في قصيدته، فتشعر في النهاية أنك أمام قصيدة مشهدية تُصور لك المكان والزمان بالألوان والصور الوصفية الجمالية التي تضيف الكثير من الإبداع إلى العمل الشعريّ.

تأثر الشاعر بيتر بالاكيان بالشاعر الأمريكي والت ويتمان (١٨١٩-١٨٩٢)، والشاعرة الأمريكية إميلي ديكنسون (١٨٣٠-١٨٨٦)، والشاعر التشيلي بابلو نيرودا (١٩٠٤-١٩٧٣)، وبشاعر القرن العاشر الأرميني جريجوري أوف نارج.

الشاعر بيتر بالاكيان

مؤشرات الوعي

يستخدم بالاكيان الشِّعر لاستكشاف مؤشرات ودرجة الوعي في وقتنا المُحدد، كما أنه يؤمن بأن الشعر ليس وظيفته أن يكون تقريرا عن واقع يعيشه الشاعر بصورة حرفية لكنه لابد أن يكون خاليا من أي جدلٍ، وأن الشعر لا بد أن يكون غنيًّا بلغته والشكل الشعريّ وعمق التجربة، أما عن البُعد السياسي أو الخلفية السياسية للشاعر فلا بد أن تُعمِّق من تجربته الشعرية، وقد ذكر بالاكيان ذلك في بيانٍ له عن الشعر من قبل.

“إن التاريخ كان بمثابة محفز قوي أشعل فتيل الخيال لدي، سواء كان التاريخ عن الثورة الأمريكية أو الحرب العالمية الثانية أو حرب ڤيتنام أو الإبادة الجماعية الأرمينية”. بيتر بالاكيان.

من يقرأ شعر بيتر بالاكيان، يدرك ويعرف مدى صلته الوثيقة باللغة، فلغته تمتاز بالقوة والحزم وأيضا بالسلاسة والعذوبة وهذا التناقض ربما يرجع إلى اختلاف وتنوُّع موضوعاته في كتاباته فهو يكتب عن الحروب والموت تارة، وعن الحب والطبيعة والفن تارة أخرى، وربما ساعده على ذلك كونه مُترجمًا أيضًا فقد شارك في ترجمة أعمال الشاعر الأرميني سيامانتو (١٨٧٨-١٩١٥) “الأخبار الدامية من صديقي جريجوريس بالاكيان “حُطام آني”.

الكتابة الأفقية

في حوارٍ للشاعر الأمريكي الأرميني بيتر بالاكيان مع الشاعرة والكاتبة الأمريكية آن ڤان بيورين التي استضافته عن طريق سلسة شعر كاتونا وهي برنامج تابع لمكتبة قرية كاتونا وتستضيف هذه السلسلة أربع قراءات كل عام للشعراء الحائزين على جائزة البوليتزر. كما أدار الشاعر الأمريكي بيلي كولينز (١٩٤١) هذا البرنامج مدة سبعة عشر عاما. سألته آن عن تطور أسلوبه الشعري خلال سنوات كتابته للشعر، فقال إنه يتبع أسلوب وشكل “الكتابة الأفقية”، فهو توجّه نحو ترك مساحة أكبر في القصيدة للغة والتصوّر، كما أن أسلوب الكتابة الأفقية يسمح أيضًا لمزيد من الشعور والإدراك الدقيق الذي ينزلق على طول الأسلاك العقلية والبصرية.

مذاكرات الشاعر بالاكيان “قدر الكلب الأسود”

 

وسألته عن كتابته عن صمت المكبوتين وصدمتهم إثر تعرضهم للإبادة الجماعية الأرمينية في مذاكرات بالاكيان “قدر الكلب الأسود”، فقال بالاكيان: “إن الكتابة عن تلك الصدمة أمر صعب لأنه يجبر الكاتب على التحقق فيما حدث والتدقيق فيما لم يقال أيضا، كما أن الذي لم يُقل هو تعبير أيضا يُعبَّر عنه بطرق مختلفة ملأى بالرمزية”. والتحدي الذي قابل بالاكيان يكمن في فك شفرات ورمزية تلك الأحاديث المكبوتة والتي لم تُقل إلا بكلام رمزي مليء بالألم والأسى.

1556040328875257000.jpg (1500×838)
رفات بعض ضحايا الإبادة الجماعية الأرمينية

 

وفي الحوار نفسه سألته الشاعرة والكاتبة آن ڤان بيورين عن مدى تأثر كتاباته بالتاريخ فقال لها: “إن التاريخ كان بمثابة محفز قوي أشعل فتيل الخيال لدي سواء كان التاريخ عن الثورة الأمريكية أو الحرب العالمية الثانية أو حرب ڤيتنام أو الإبادة الجماعية الأرمينية”. كما أنه تناول في قصائده العديد من الأزمات الأخرى كهجمات الإرهاب في حادث الحادي عشر من سبتمبر بالولايات المتحدة الأمريكية، ووباء الإيدز في فترة الثمانينيات، وغيرها من الموضوعات السياسية والاجتماعية الأخرى.

إحدى مجموعات بيتر بالاكيان الشعرية

 

رحلة الشعر

وفي حوارٍ آخر مع محررة “المجلة الأرمينية الأسبوعية” نانور بارسوميان، تحدث بالاكيان عن رحلته في الشعر وقال إنه بدأ كتابة الشعر وهو طالبٌ بالكلية خصوصا بعد اعتزاله لعب كرة القدم، حتى أنه اعتزل العالم وانخرط في الحياة الأكاديمية وبدأ كتابة الشعر في وسط سنواته الدراسية بكليته، وقال إن بدايته الحقيقية في الشعر كانت في تلك الأثناء، ومن المصادفات النادرة أن بالاكيان هو ثاني كاتب أمريكي من أصول أرمينية يحصد جائزة البوليتزر في الآداب عام ٢٠١٦، بعد الروائي والكاتب المسرحي الأمريكي الأرميني ويليام سارويان (١٩٠٨-١٩٨١).

بالاكيان

 

وهذه ترجمة لقصيدته ” كم أحبُّكِ”.

 

 

كم أحبك!

 

عِندَما يَسِيرُ ظِلُّكِ عبْرَ الحَائِطِ.

عِندَمَا يَنبُضُ قَلبي نَبضًا زَائِفًا

عِندَما يَدُورُ الخَفقَانُ في الغُرفَةِ

كدَوَرانِ العَواماتِ في العَينِ.

عِندَما يَكُونُ العُشبُ النَدِّيُّ ذا لوْنٍ أخضَرَ شَاحِبٍ.

عِندما تُحَارُ الأورَاقُ الجَدِيدةُ.

عِندَما تَكُونُ ضَرَباتُ الفُرْشَاةِ بالَّلونِ الأزرَقِ.

عِندَما تَنتَشِرُ بَراعِمُ الأزَليا عبر المُرُوج

عِنَدما يَكونُ ضَوْءُ النَّهَارِ ماءً.

لا تُوجَدُ علاَمَةٌ واضِحَةٌ تَمامًا

ابْقِي هُناكَ سأجِدُكِ.

على اليسار الشاعر بيتر بالاكيان، وعلى اليمين عائلة جدته التي أبيدت كلها في يوم واحد

عن د. سارة حامد حواس

مترجمة، مدرس اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة المنصورة، تخرجت في الكلية نفسها بتقدير جيد جدا مع مرتبة الشرف، وحصلت منها على درجتي الماجستير والدكتوراه في اللغويات التطبيقية. حصلت على عديد من الدورات التدريبية، وشاركت في كثير من المؤتمرات العلمية الجامعية. ولها أبحاث في التخصص منشورة في عدد من المجلات المصرية والأجنبية. وهي منسقة البرنامج التخصصي للغة الإنجليزية والترجمة بكلية الآداب جامعة المنصورة، ومنسقة الكلية لدى نادي أعضاء هيئة التدريس بجامعة المنصورة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *