أحدث الحكايا

أحمد شوقي يحكي: مع سمير فريد في برلين.. ذكريات من مهرجان بارد الطقس حميم الروح

“أهلًا بك في نادي برلين.. برجاء إرسال بريدك الإلكتروني كي أرسل لك عليه دعوة.. سمير فريد”.

أذكر كل الظروف المحيطة بتلك الرسالة النصية التي تلقيتها في يناير 2014، قبل أيام من حضوري مهرجان برلين السينمائي لأول مرة. كنت في غرفتي بفندق صغير بمدينة كليرمون فيران الفرنسية خلال حضور مهرجانها الشهير للأفلام القصيرة، وأستعد للرحيل بعد أيام إلى العاصمة الألمانية. لم تكن فقط أول مرة أزور فيها برلين أو أحضر فيها “برليناله”، وإنما كان الحضور الأول لمهرجان من الكبار، وهي تجربة تختلف تمامًا عن أي شيء آخر.

في مهرجاناتنا العربية هناك شعور بالدفء وحميمية الاستقبال، سواء في الاحتفاء بالضيوف والاهتمام بدعوتهم وتسهيل سكنهم وتنقلاتهم وحتى طعامهم، أو في الشعور بالأمان الناتج من أنك تجد نفسك محاطًا بوجوه مألوفة. أما في مهرجان مثل برلين، فمن يقرر الحضور متروك تمامًا لنفسه، يدفع ثمن سفره وإقامته، يضع خطته الخاصة للتغطية ويكافح كي يجد مكانًا في القاعات ليشاهد الأفلام، ويحاول التعايش مع فروق اللغة والثقافة والعادات في كل تفاصيل اليوم.

بل لا أبالغ حين أقول إن تجربة حضور برلين للمرة الأولى أكثر قسوة من حضور المهرجان الأكبر كان، نظرًا لطبيعة المدينتين؛ فكان مدينة سياحية صغيرة تتحول في أيام المهرجان لتصير مساحة ممتدة له، لا تقابل فيها تقريبًا إلا من جاء لحضور المهرجان، وبالتالي يُمكن الشعور بالألفة والتحرك مع الجموع.

أما برلين فمدينة هائلة الحجم، لا يكاد المهرجان -على ضخامته- يظهر داخل ازدحامها بالبشر، حتى أن مركز المهرجان في ساحة بوتسدامر بلاتز يمر عليه آلاف البشر يوميًا دون أن ينتبهوا لوجود المهرجان. الأمر الذي يعني صعوبة أكثر على من يزور الحدث للمرة الأولى، لا جموع تتبعها ولا دليل يصف أين تسكن وكيف تستخدم المواصلات. عليك أن ترتجل وتتعلم بالتجربة والخطأ.

العشاء الأول

أعود إلى رسالة الأستاذ سمير فريد الذي كان نافذتي الأولى على برلين وكان تارتين، تارة عندما كان الرجل الذي يزور هذه المهرجانات فيكتب عنها ونقرأ ما يكتبه، فزرع في أذهاننا احتمالية أن نكون مثله في يوم ما، وتارة عندما كان مستعدًا لاحتضان من يتوسم فيه الموهبة، ليرشده على أهم ما يجب أن يفعله وكيف يمكن أن تكون زيارته للمهرجان مفيدة. أول جولة تعرفت فيها على قصر مهرجان كان والمساحات المختلفة فيه كانت بصحبة سمير فريد، وأول عشاء عمل رسمي أحضره في مهرجان برلين كان معه أيضًا.

لمن لا يعرف، فبراير 2014 كان الوقت الذي بلغ فيه قمة نجاحه المهني، بتوليه رئاسة مهرجان القاهرة السينمائي وقيامه بتعديلات جذرية ستغير شكل المهرجان للأبد. كانت الخطة أن أتولى إدارة برنامج الأفلام القصيرة (سينما الغد) رفقة المخرج شريف البنداري الذي يدير مسابقة أفلام الطلبة. خطة لم تكتمل للأسف لأسباب بعيدة عن موضوعنا، لكن المكسب الحقيقي كان التعرف على هذا الرجل الأنيق، شاهق القامة والقيمة، الذي استقبلنا كالكبار، وهي السمة التي تجمع كل الكبار على اختلافاتهم: ترحيبهم واحترامهم لمن يصغرونهم.

العشاء الأول في برلين

أذكر تفاصيل العشاء الأول، في مطعم صغير أنيق اسمه “شكسبير آند كو” على بعد أمتار من قصر المهرجان. أغلق هذا المطعم بعد سنوات لسوء الحظ. عشاء جمع فيه سمير فريد الألماني كلاوس إيدر السكرتير العام للاتحاد الدولي للنقاد (فيبريسي)، الفرنسي بينوا جينيستي رئيس الإتحاد الدولي للمنتجين (فياف)، وعدد من الشخصيات السينمائية المهمة الذين حضروا تقديرًا لسمير فريد ولخطوة توليه رئاسة مهرجان القاهرة. ليلة ربما نسيها كل من حضرها باعتبارها حدثًا يوميًا في صخب المهرجانات، لكن لم ينسها شاب كان يحضر برليناله للمرة الأولى.

قراران خاطئان

غير أن التجربة الأولى لم تكن كلها بحميمية سمير فريد، بل كانت حافلة بالمصاعب التي بدأت من قرارين خاطئين سببهما انعدام الخبرة، يتعلقان بتوقيت الوصول ومكان الإقامة.

قررت آنذاك الوصول في ظهر اليوم التالي للافتتاح، لأستفيد من وجودي قبلها في مهرجان كليرمون فيران، وبالقياس على المهرجانات العربية التي لا يبدأ فيها أي نشاط حقيقي إلا بعد ليلة الافتتاح، لأكتشف بالتجربة أن الأمر مختلف في المهرجانات الكبرى التي تبدأ فيها الأنشطة الصحفية مبكرًا. بعدها اعتدت أن أصل إلى برلين أو كان في اليوم السابق للافتتاح، لأرتب أموري واستعيد إيقاع المدينة وأكون مستعدًا لتنفيذ خطة عمل موضوعة مسبقًا.

لم يكن الأمر كهذا في الزيارة الأولى بطبيعة الحال، وضاع يوم ثالث في فهم جغرافيا المكان واستلام البطاقة الصحفية، وأذكر أن أول فيلم على الإطلاق شاهدته في برلين كان للمخرج الفرنسي الجزائري رشيد بوشارب بعنوان “رجلان في مدينة”. ركضنا إلى مسرح فريدرش بالاست التاريخي -ومعي شريف البنداري- واشتريت تذكرة بعشرة يوروهات لأني كنت قد وصلت بعد أن أغلق مكتب الاعتماد الصحفي يومها. كانت هذه اليوروهات هي آخر مبلغ دفعته لمشاهدة الأفلام في برلين حتى يومنا هذا، بعدها شاهدت مئات الأفلام بالبطاقة الصحفية فحسب. وإن كنت أقصد هنا دفع تذكرة مباشرة للفيلم، أما مصاريف السفر والمعيشة في مدينة كبرلين، فنعتبرها متاعب المهنة وضريبة محبة الفن السابع.

أحمد شوقي وشريف البنداري

الخطأ الثاني كان ذا طابع شعري، عندما أنظر إليه الآن أراه ينم عن انعدام خبرة وتفكير ساذج، لكني -صدق أو لا تصدق- اعتمدت على أن مركز برلين كما عرفته من أفلام راينر فاسبندر هو الساحة التي حمل مسلسله الشهير اسمها: “برلين ألسكندر بلاتز”. حجزت فندقًا في ألكسندر بلاتز باعتباره وسط المدينة ومنه يمكن التحرك لكل مكان، لاكتشف أنه وسط المدينة القديم، وأن المهرجان يقام في مركز آخر أحدث هو بوتسدامر بلاتز، يفصله قرابة النصف ساعة بالمترو أو الحافلة كان عليّ أن أقطعها كل صباح ومساء، مع انعدام إمكانية العودة في وسط اليوم لغرفة الفندق حتى لا تضيع ساعة ثمينة.

اليوم صرت واعيًا بالجغرافيا، أحجز على بعد أمتار من المهرجان، وأعود للغرفة مرة ومرتين خلال اليوم في كل وقت يصلح للراحة أو الكتابة، ولا أتصور كيف كان من الممكن في حماس التجربة الأولى أن أخوض هذه الرحلة المرهقة كل ليلة بعد مشاهدة أربعة أفلام طويلة وأحيانًا أكثر!

الذكرى الأخيرة في برلين

آخر ذكرى في هذا المقال سترتبط أيضًا بسمير فريد، بدأت بعد أن ظهر للمرة الأخيرة في جمعية نقاد السينما المصريين في مطلع عام 2017، أي بعد 45 سنة من تأسيسه للجمعية عام 1972، وقتها كانت حالته الصحية قد تدهورت بسبب سرطان الرئة، وقلّ ظهوره في الحياة العامة. فريد زار الجمعية بعد أشهر من الانقطاع ليتحدث في جلسة مفتوحة مع الأعضاء وجميعهم من تلاميذه، ثم أعلن عن خبر سعيد سيعرفه الجميع لاحقًا، وكان قد أسر لي خلال الاتفاق عن الجلسة عن طبيعة الخبر: إعلان مهرجان برلين عن تكريمه بكاميرا برليناله، الجائزة التقديرية عن مجمل إسهاماته في الثقافة السينمائية العالمية.

تسليم كاميرا برليناله 2017

وصلتني لاحقًا دعوة من المهرجان لحضور تسليم الجائزة. تعاملت مع الدعوة باعتبارها تنويهًا معتادًا يرسله المهرجان لكل الصحفيين عن الأحداث الرئيسية، وكنت أنوي الحضور بطبيعة الحال، لكن عندما ذهبت اكتشفت مرة أخرى أن الدعوة خاصة جدًا ، وأن التسليم سيقام على هامش حفل غذاء خاص يحضره عدد من النجوم والمخرجين الكبار في المهرجان، وأن المهرجان طلب من سمير فريد، النجم الذي يُقام الغذاء على شرفه، أن يختار ستة أشخاص فقط يدعوهم لحضور الحفل (بخلاف زوجته وابناءه)، ليقرر بدبلوماسيته المعتادة، وبرغبته في ضرب المثل من خلال الأفعال، أن يختار مزيجًا من الجنسيات والأجيال ليكونوا ضيوفه، كان من حظي أن أكون أحدهم، ممثلًا للجيل الذي يراه امتدادًا لإسهام جيله.

وبالرغم من الحالة الصحية السيئة التي كان عليها، والتي منعته من التجول في المهرجان كالمعتاد وحضور العروض ومقابلة الجميع في المقاهي، إلا أنه كان متألقًا خلال الحدث، واستلم الجائزة من مدير المهرجان آنذاك ديتر كوسليك، بعد كلمة ألقاها السكرتير العام للاتحاد الدولي للنقاد كلاوس إيدر، كان إيدر قد طلب مني أن أساعده في كتابتها لتعبر عن قيمة سمير فريد بالنسبة للعرب، بعد ثلاث سنوات فقط من أن قدمني فريد إليه خلال عشاء برليناله الأول.

مع سمير فريد وزوجته احتفالا بتكريمه 2017

بعد التكريم بستة أسابيع رحل سمير فريد عن عالمنا في أبريل 2017، ليبقى أثره في حياتنا، وعشق المهرجانات الذي زرعه في قلوبنا، وذكريات مهرجان برلين الذي صار مقترنًا في ذهني للأبد بالأستاذ سمير، باحتضانه من اللحظة الأولى، وصولًا للتقدير الذي منحه لي باختياري لحضور لحظة تسليمه تكريم من أرفع ما ناله أي مثقف سينمائي مصري تاريخيًا.

بعد ساعات أطير لحضور مهرجان برلين للمرة العاشرة (كان المفترض أن تكون الحادية عشر لولا جائحة كورونا التي أسقطت عامًا بشكل إجباري). صرت اليوم خبيرًا بالمهرجان وتفاصيله. أضع خطتي قبل أسبوع أو أكثر وأتمكن من تنفيذ أغلب بنودها بدقة، اللهم إلا لو تسببت وعكة طارئة أو تأجيل لاجتماع ببعض الإزاحات. ومع توالي السنوات تتراكم الذكريات والحكايات، ويصير لك في كل ركن من أركان برليناله موقفًا تود استرجاعه. لربما نفعل ذلك في الأسابيع التالية من أرض الحدث.

عن أحمد شوقي

ناقد سينمائي مصري ومبرمج ومشرف سيناريو. حاليًا هو رئيس الاتحاد الدولي للنقاد (فيبريسى)، ورئيس جمعية نقاد السينما المصريين. ينشر مقالات أسبوعية عن السينما وصناعة الترفيه. كما أصدر ثمانية كتب متخصصة حول السينما المصرية. شوقي يشغل منصب مدير منطلق الجونة، برنامج تطوير المشروعات والإنتاج المشترك الخاص بمهرجان الجونة السينمائي. كما إنه مدير التطوير لمنطقة الشرق الأوسط بمنصة "فيو" الإلكترونية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *