لم يفهم الشاعر الأمريكي البريطاني الشهير ويستن هيو أودن (١٩٠٧-١٩٧٣) كلمة واحدة من المخطوطة التي منح صاحبها الجائزة الأولى! فما هي المخطوطة الفائزة ومن الفائز؟
كان ويستن أودن مُحكِّمًا في جائزة ييل للشعراء الشباب -سلسلة ييل للشعراء الشباب هي حدث سنوي لمطبعة جامعة ييل تهدف إلى نشر المجموعة الأولى لشاعر أمريكي واعد وتأسست عام ١٩١٨، وهي أطول جائزة أدبية سنوية في الولايات المتحدة الأمريكية من حيث الاستمرارية- منح ويستن أودن جائزة ييل للشعراء الشباب لشاعر عن كتابه الأول بعنوان ”بعض الأشجار ” عام ١٩٥٦. واعترف أودن بعد ذلك أنه لم يفهم كلمة واحدة من المخطوطة الفائزة.
إنه الشَّاعر الأمريكي چون أشبري الذي يُعدُّ من أعظم الشعراء الأمريكيين في القرن العشرين، والذي حاز تقريبًا على جميع الجوائز الكبرى في الشعر: جائزة البوليتزر، وجائزة الكتاب الوطني، وجائزة بولينجن، وجائزة روث، وجائزة ليلي للشعر، وجائزة جريڤين الدولية.
حكاية أشبري
وُلد چون أشبري بروتشستر في ولاية نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية عام ١٩٢٧. وكان والده تشيستر إف أشبري يعمل مُزارعًا للفاكهة، وكانت والدته هيلين لورانس تعمل مُعلمةَ أحياء، أمَّا عن جدَّه لوالدته هنري لورانس، فقد تأثَّر به تأثيرًا كبيرًا حيث كان يعمل فيزيائيًّا وأستاذًا جامعيًّا بجامعة روتشستر. وقد أمضى أشبري فتراتٍ طويلةً في منزل جده الفيكتوري الكبير المظلم الذي كان يحوي مكتبةً كبيرةً مليئةً بالكتب الكلاسيكية والأساطير اليونانية، وهناك أيضًا اكتشف الشاعر الأمريكي الإنجليزي الشهير تي إس إليوت (١٨٨٨-١٩٦٥) والروائي والناقد الإنجليزي تشارلز ديكنز (١٨١٢-١٨٧٠)، والروائي الإنجليزي وليام ثاكيراي (١٨١١-١٨٦٣).
وفي أحد حواراته الصحفية، قال أشبري عن جده لصحيفة نيويورك بوست عام ١٩٧٦: ”لقد كان رجلًا فيكتوريًّا مثقفًا للغاية، كان يعرفُ اللاتينية وقرأ كل الكلاسيكيات، أنا أشبهُه وأتبعه.”
بعد عمل چون أشبري ككاتب إعلانات بولاية نيويورك من عام ١٩٥١ إلى عام ١٩٥٥، عاش في باريس حتى عام ١٩٦٥ وأسهم في النقد الفني في طبعة باريس من نيويورك هيرالد تريبيون ودورية أخبار الفن الأمريكية، كما كان مترجِمًا يحظى بتقديرٍ كبيرٍ حيث ترجم أعمالا للشاعر الفرنسي الشهير آرثر رامبو (١٨٤٥-١٨٩١)، والشاعر والروائي الفرنسي رايموند روسيل (١٨٧٧-١٩٣٣) والكثير من الكُتَّاب والشعراء الفرنسيين.
الأعمال الشعرية لچون أشبري
ومن أعمال الشاعر الأمريكي چون أشبري: بريزواي (إيكو، ٢٠١٥)، سؤال سريع (إيكو، ٢٠١٢)، بلانيسفير (هاربر كولينز، ٢٠٠٩)، بلد دنيوي (إيكو، ٢٠٠٧)، أين سأتجول (هاربر كولينز، ٢٠٠٥)، همسات صينية (فارتر، شتراوس وجيرو، ٢٠٠٢)، واليقظة (فارتر، شتراوس وجيرو، ١٩٩٨).
كما نشر أشبري ترجمات فرنسية مُجمعة، وقام بتحرير أفضل شعر أمريكي عام ١٩٨٨.
كانت أعمال أشبري المُبكِّرة معروفة وذات صيتٍ كبيرٍ في المجتمع الثقافي الأمريكي ولكن ذاع صيتها أكثر عندما حصد أشبري ثلاث جوائز كبرى: جائزة البوليتزر، وجائزة الكتاب الوطني، وجائزة دائرة نقَّاد الكتاب الوطنية عن مجموعته الشعرية ”صورة ذاتية في مرآة مُحدَّبة” عام ١٩٧٦ وكانت هذه المرَّة الأولى التي يحصد فيها شاعرٌ أمريكيٌّ ثلاث جوائز عن عملٍ واحدٍ في تاريخ الشِّعر الأمريكي.
السيريالي المشوش
وقد وصف أشبري نفسه بأنه ”سريالي محلّيّ مُشوش يتحدَّى شعره قواعد ومنطق السريالية”. كان أشبري والشاعر والكاتب المسرحي الأمريكي فرانك أوهارا (١٩٢٦- ١٩٦٦)، والشاعر والكاتب المسرحي كينيث كوش (١٩٢٥- ٢٠٠٢) جزءًا من مدرسة نيويورك للشعراء، وهي مجموعة نشطة غير رسمية في حقبة الخمسينيات والستينيات، والتي تأثرت أعمالها بشكل كبير بالسريالية والحداثة والتعبيرية التجريدية، وهو مذهبٌ في الرسم نشأ في الولايات المتحدة الأمريكية خلال الخمسينات من القرن العشرين وانتشر بعد ذلك في أوروبا، ويقوم على نظرية تقول بإن الألوان والخطوط والأشكال، إذا ما استُخدمت بحريّةٍ في تركيبٍ غير رسميٍّ، أقدرُ على التعبير وإبهاج البَصَر منها حين تُستخدمُ وفقًا للمفاهيم الرسمية أو حين تُستعملُ لتمثيل الأشياء، وفي الشِّعر هناك نطاقٌ واسعٌ لما يعرفُ بتقنيات التعبيرية من الاعتماد على التأثيرات الصوتية واللونية، وعلى تراسل الحواس حيث لا يكونُ المعنى هو الأساس. فبدلًا من كتابة قصائد تمثلُ التجارب، هدفت المجموعة إلى كتابة قصائد هي تجارب بحد ذاتها.
انتشر شعر چون أشبري على الرغم من غرابته واستغلاقه على نطاقٍ واسعٍ، والغرابة كما يبين كتاب «الغرابة.. المفهوم وتجلياته في الأدب»، لمؤلفه الدكتور شاكر عبد الحميد، تبدو في دلالاتها المباشرة ضد «الألفة»، كما تبدو حالة من القلق، وما بين الوعي وغيابه، وربما حالة بين الخوف والرهبة والتشويق والمتعة والتذكُّر والرعب والتخيُّل. ولعلها نوع من الخيال، خيال الوحشة، وليس خيال التفاؤل. والغرابة مصطلح شائع في أجناس الأدب المختلفة العربية والغربية، أما الاستغلاق فيأتي من الغلق، أي أن المعاني مُبهمة والكلمات غامضة، وقد أتى الشاعر چون أشبري في أغلب قصائده بمعانٍ صعبة الفهم والاختراق.
شاعرٌ لا يكرِّرُ نفسه!
كما عُرِف أشبري بتنوُّع إنتاجه وأصالة رؤيته وصوته الشعريّ والتأثير الواضح لأعماله على معاصريه كما أن هذا التأثير كان عميقًا وبعيد المدى في آن، حيث تجاوز الحدود الوطنية والثقافية واللغوية، فعلى سبيل المثال تُرجمت أعماله إلى أكثر من خمسٍ وعشرين لغة. كما أن عظمة أشبري تكمنُ أيضًا في تجديده الدائم في كتابته الشعرية فهو شاعرٌ لا يكرِّرُ نفسه.
وقد ذكر الناقد الأدبي والصحفي الأمريكي بروفيسور هارولد بلوم (١٩٣٠- ٢٠١٩): أن ”چون أشبري وهو في الخامسة والستين من عمره يتبع ستيفنز وييتس في سماتهما المذهلة المتمثلة في تحقيق العظمة الجديدة كشاعرٍ، بدلًا من الانحسار أو تكرار نفسه وأكثر من أي وقتٍ مضى، يبدُو أشبري في النصف الثاني من قرننا كستيفينز وييتس في النصف الأول.”
كما أن اشبري معروفٌ بذكائه المُتقد في اختياره ألفاظًا متنوعةً ومتعددةً وكثيرةً ومختلفةً خصُوصًا في القصائد الطويلة حيث نلاحظ معرفته العميقة بدقائق اللغة الإنجليزية الأمريكية، فقال الناقد والشاعر الأمريكي ديفيد يونج (١٩٣٦) في جريدة واشنطن بوست: ”عند قراءة أشبري علينا أن نكون مستعدين إلى أي شيء لأنَّ هذا الخلَّاق المتنوِّع المبهر الابتكاري مستعد إلى قول أي شيء والذهاب إلى أي مكانٍ لخدمة جماليات الشِّعْر وتحرير الشعر من اتفاقيات مُسبقة وتقاليد مهترئة.”
من الحب والموسيقى إلى الموت!
يمتاز شعر أشبري بالصور الجمالية اللافتة والإيقاعات الرائعة والشكل المُعقَّد والتحوُّلات المفاجئة في النغمة والموضوع كما امتدت أساليبه وكتاباته الشعرية من الأبيات المقفَّاة إلى الهايكو والشعر الحر وكتب عن الحب والموسيقى والفصول والمدينة والريف، ومع تقدمه في السن أصبح أكثر حساسيةً لقضايا الموت والسمعة، كما أعلن في حوارٍ له أنه تأثر بالشاعرة الأمريكية ماريان مور (١٨٨٧-١٩٧٢) وقال ظهر ذلك التأثُّر جليًّا في كتابه الأول ”بعض الأشجار” وأيضا بالشاعرة الأمريكية إليزابيث بيشوب (١٩١١-١٩٧٩) حيث اكتشف الـ”سيستينا” من خلال قراءة كتابها الأول ”شمال وجنوب”. (والسيستينا من أساليب النظم الشعري التي تتخذ شكلًا ثابتًا وتحتوي ستة مقاطع صوتية، ينقسم كل منها إلى ستة أسطر، وعادة ما تُتبَع نهاية القصيدة بمقطع صوتي يتكوَّن من ثلاثة أسطر تسمى envoi.)
قصائد شعرية غير منتظمة كما الحياة!
وقد اتفق مؤيدو أشبري على غرابة أسلوبه وكتابته الشعرية ،كما اتفقوا أيضا على أن شعره صعب القراءة، وصعب الفهم (متعمد من الشاعر)، ولكن من ناحيةٍ أخرى تعرَّض أشبري إلى هجومٍ من بعض النقاد؛ لأن غرابته سبَّبت قلقًا في شعره، كما أن نهايات قصائده مفتوحة ومتنوعة. وقال يومًا: إن هذا التنوُّع يشبه الحياة في تنوعها وتقلَّباتها وعدم سيرها على وتيرةٍ واحدةٍ طوال الوقت، فالحياة بطبعها التغيُّر وعدم الاستقرار على وضعٍ ثابتٍ.
كما أن شعره يحاكي الطريقة التي تأتي بها المعرفة أو الوعي إليه ، فهي تأتي على دفعاتٍ وبطرق ملتوية، لذا فشعره متقطِّع غير منتظم، فوتيرته تشبه وتيرة الحياة وإيقاعها غير المنتظم.
انتقال مفاجئ
ومنذ قراءتي الأولى لقصائد أشبري، لاحظتُ انتقاله المفاجىء من موضوعٍ إلى موضوعٍ ومن فكرةٍ إلى فكرةٍ من دون تنبيهٍ أو كلمةٍ انتقاليةٍ، وأثار انتباهي بشكلٍ كبيرٍ استخدامه لألفاظ متنوعة وجديدة، وينتمي بعضها إلى لهجاتٍ مختلفةٍ، كاللهجة الاسكتلندية على سبيل المثال، فاستخدم كلمة ”Naw’’ في قصيدة ”مشكلة القلق” وتعني لا أو أبدا باللهجة الاسكتلندية، والتي تساوي “Nah” أو “Na” في اللهجة الأمريكية، وتساوي “No” في اللهجة الإنجليزية الأصلية، وهذا يدل على ثقافته الواسعة الممتدة إلى خارج الولايات المتحدة الأمريكية.
كما لاحظت أن المشهدية تغلب على الكثير من قصائده، فهو بارعٌ في وصف الحديقة والحبيبة وشباك منزلها. كما أن نشأته الريفية ظهرت بوضُوح في ذكره شجرة التفاح ونبات الهندباء وأراجيح الحديقة. كما أنه بارع في وصف تلك المشاهد حتى أنك تتخيل كأنك موجودٌ داخل الحديقة متأثرًا بأجوائها.
ربما براعته اللغوية وتفوقه في تطويع تلك البراعة في خدمة جماليات القصيدة، جعلت منه شاعرًا متفردًا وغريبًا، وإن كنت أرى أنه كان يبالغ في إظهار براعته اللغوية لإظهار جماليات قصيدته على حساب سهولة الفهم وسهولة فك شفرات المعاني الباطن منها والمكشوف، ولكنها مدارس شعرية نتعرف بِها وإليها وتجعلنا نطل على العالم الشعري متعدد الأوجه.
كما أن هذه المرَّة الأولى لي أن أترجم وأشاهد هذا النوع من الاختلاف في الكتابة الشعرية سواء العربية أو الغربية، فبرغم متابعتي المستمرة للحركة الشعرية الأمريكية والإنجليزية والعربية، لم أر هذا الشكل من الاختلاف في الكتابة الشعرية وهذا ما شدَّ انتباهي نحو هذا الشاعر الغرائبي المليء بالمفاجآت.
فقط أريد أن أكتب!
وفي حوارٍ لچون أشبري مع الكاتب الصحفي بيتر إيه ستيت في مجلة “ذا باريس ريفيو”، تحدث عن سبب كونه شاعرًا وعن موعد بدء عمله مع الكتابة الشعرية؛ فقال إنه لم يختر مهنة الشاعر وبدأ كتابة الشعر بأبياتٍ قليلةٍ، ولم يفكر في نشر أي منها أو إنه سيواصل نشر كتب، وقال إنه لم يقرأ شعرًا حديثًا حتى وهو في المدرسة الثانوية، ثم في مسابقةٍ ربح جائزة يمكنه فيها اختيار كتب مختلفة، والوحيد أبدا بدا جذَّابًا له هو مجموعة شعرية لأنترماير -لويس أنتر ماير (١٨٨٥-١٩٧٧) وهو شاعر أمريكي كان شهيرًا حينذاك- وكلفت خمسة دولارات وهي ميزانية كبيرة في ذلك الوقت. وهكذا بدأ قراءة الشعر الحديث الذي لم يكن يُدرَّس في المدارس آنذاك خصوصًا في المدارس الريفية مثل المدرسة الذي كان يحضر فيها. وقال إنه لم يفهم الكثير منه في البداية ولكنه وجد الشاعرة والروائية الأمريكية إلينور وايلي (١٨٨٥-١٩٢٨) جذَّابة وشاعرة تكتب بحرفيةٍ رائعةٍ لكنه لم يستطع فهم أو استيعاب شعر ويستان أودن، وت. إس. إليوت، وستيفنز، لكنه عاد إليهم لاحقا وبدأ الحصول على كتبهم من المكتبة، وقال إن رغبته في الحكي هي تقريبا ما دفعه إلى كتابة الشعر، وعندما يُسأل عن سبب لجوئه إلى الكتابة دائما يرد بـ”لا أعرف السبب” فقط ”أريد أن أكتب.”
طقوس الكتابة
وفي حوارٍ آخر له مع الكاتب الصحفي ترافيس نيكولاس في مجلة “ذا بيليڤر” سأله ترافيس عن أنه هل يحاول الجلوس وكتابة الشعر كل يوم، وأجاب أشبري بـ”لا ليس على الإطلاق.. ولا حتى كل أسبوع”. وأنه لا يحب أن يمر وقتا طويلا من دون كتابة، ولكن من ناحية أخرى إذا حاول الكتابة أكثر مما يبدو له كافيا فلن يرضيه ذلك في كل الأحوال لذا كان يتعمد عدم البدء مرة أخرى على الفور بعد أن يكون قد كتب شيئا ما. كما قال بأن الناس دوما يطلقون عليه أنه شاعر منتج جدا.
وسأله ترافيس أيضا عن كم مرة يقوم بمراجعة قصائده التي يكتبها -أثناء عملية الكتابة- وهل يحاول الانتهاء من مراجعتها من المرة الأولى؟ فقال أشبري إنه يحاول بالفعل الانتهاء من مراجعة القصيدة من المرة الأولى، وإنه يكتب سريعا عندما يجد نفسه يكتب أخيرًا ثم في الوقت نفسه يراجعها ويقوم بإجراء التصحيحات التي تبدو مطلوبة وبعد ذلك يضعها جانبا لمدة عام أو نحو ذلك ولا ينظر إليها مرة أخرى إلا عندما يحين الوقت لإرسالها إلى المجلات أو البدء في تجميع كتاب آخر فيعيد النظر فيها مرة أخرى ويجري بعض التغييرات، ولكنه في الغالب يكون قد قام بالفعل بإجراء التغييرات الضرورية.
الكفاءة لا السن!
سأله ترافيس أيضا عن هل يحب عرض قصائده على أحد من أصدقائه قبل نشرها أم لا؟ فقال أشبري إنه عندما كان شابا وغير متأكد من قصائده كان يظهرها لجيمي شويلر أو فرانك أو كينيث، وكانوا يجتمعون لقراءة قصائدهم لبعضهم البعض، ولكن مع مرور الوقت بدأوا يشعرون بمزيد من الثقة ولم يشعروا بالحاجة إلى المرور بهذه الخطوة.
وقال إنه في الوقت الحالي لا يظهر قصائده إلى أحد إلا لمارك فورد (١٩٦٢) -شاعر بريطاني شهير- أحيانا، وكان يعجبه كثيرا، وقال إن ملاحظاته كانت مسلية ومنيرة في كثير من الأحيان. وقال إنهما لا يريان بعضهما البعض ولكنهما يتراسلان عبر البريد الإلكتروني بشكل متكرر.
وهنا يتبادر إلى ذهني سؤالا مهما لماذا كان أشبري يثق في رأي الشاعر البريطاني مارك فورد حول شعره وهو يصغره بنحو خمسة وثلاثين عاما؟ اندهشت من هذه الفكرة وفي الوقت نفسه شعرت بأنه درس مهم لكل الذين يعتقدون أن السن هو الأهم والأعمق في اختيار كل شىء يخص العمل، فبهذه الملاحظة، أشبري قد كسر قاعدة السن في الاعتراف بالخبرة والكفاءة بغض النظر عن الفارق الكبير بينهما في السن. وهذا الفعل يتكرر في الغرب دائما ويثير إعجابي كثيرا وأتمنى أن يمارسه الجميع قي كل العالم ليحل المساواة والعدل وليحكم ويفصل بين كل شخص والآخر ”الكفاءة وجودة التنفيذ والممارسة” فقط بدلا من عامل السن.
أفكار ومشاعر
تم إجراء مقابلة مع چون أشبري من قِبل ريتش كيلي من مجلة “مكتبة أمريكا”، وذلك بمناسبة نشر مجموعة قصائد قصائد چون أشبري المختارة ١٩٥٦-١٩٨٧، بالإضافة إلى خمس وستين قصيدة غير مجمعة كتبها أشبري بين عامي ١٩٤٥ و١٩٩٠ ويبلغ حجم هذا المجلد ١.٤٢ صفحة، وتتضمن أكثر من ٤٥٠ قصيدة في عام ٢٠٠٨ والتي حررها صديقه الشاعر الإنجليزي مارك فورد.
سأله كيلي عن نوع الأفكار والمشاعر التي شعر بها عند إعادة زيارة والنظر إلى قصائده مرة أخرى، فأجاب أشبري بأن “الأمر كان بمثابة محادثة مع نفسي، إلا أني لا أرى نفسي.. أنا هو الآخر”. كما قال الشاعر الفرنسي الشهير رامبو (على الرغم من إنه كان يكره هذه الصيغة فغن هذه المقولة لم تصبح شهيرة إلا عندما قالها رامبو).
وشبه أشبري الأمر كالتحدث إلى كاهن في صندوق الاعتراف -على الرغم من أنه ليس كاثوليكيا ولم يفعل ذلك من قبل ذلك كالوقوف في صندوق الاعتراف وسماع اعترافه الخاص.
وكان أشبري غير مشغول بالأفكار والمشاعر عند إعادة النظر إلى أعماله المبكرة، فتم اختيار معظم الإصدارات التي نشرت منذ زمن بعيد، وعندما قام بتجميع المجلدات الأصلية كان مهتما بما إذا كانت تبدو جيدة وفي الصورة المناسبة، كما أنه ذهب إلى القصائد غير المجمعة مسبقا والتي تركها بعيدا لأنه لم يكن واثقا منها، أو لأنها لا تتناسب مع شكل كتاب معين، أو بدت متكررة مع قصائد أخرى فيه، ونظر إليها بنظرة مختلفة ليتأكد من جودتها ووجد أن بعضها مناسب وجيد والبعض الآخر غير مناسب، ووجد أنه كان عليه أن يقرر أيها كان ذا أهمية تاريخية بما يكفي ليتم إدراجها ليستفيد منها من سيقوم بدراسة أعماله بعد ذلك.
ما هو صوتي؟
وسُئل أيضا أشبري عن كيف تغير عمله خلال هذه الفترة (١٩٥٦-١٩٨٧) وهل سمع صوتًا واحدًا أم عدة أصوات؟ وأجاب أشبري بأنه سُئل هذا السؤال من قبل، ودائما يثير اهتمامه ويجد نفسه عاجزا عن الإجابة عليه بشكل مرضٍ، فسأل نفسه ”ما هو صوتي؟”؛ يسمعه أحيانًا لكن من الصعب معرفة مصدره ومن موجه إليه، يشعر أحيانا بأنه في وسط حوار وكأنه قد قاطع حديثًا ومع كل ذلك لم يستطع تحديد صوت له. ويسأل نفسه دوما هل تغير صوته عبر السنين؟ ويرى أن هناك شيئًا ثابتًا يشعر به ولكن من الصعب أن يقول ما هو؛ فهناك بعض القصائد المبكرة تبدو وكأنه كتبها مؤخرا باستثناء العمق والخلفية التي كان يفتقر إليهما قصائدة الأولى، وأكد أن هناك بعض الأسطر القديمة التي يمكنه أن يكتبها اليوم مثل السطر الأخير من قصيدته ”أغاني شعبية” عام ١٩٥٣ ”يستعد الممثلون لأول هبوط لهم”، وقال أشبري حينها إنه يحب هذا السطر جدا وأنه ما زال يحب هذه القصيدة كثيرا.
چون أشبري حالة شعرية خاصة جدا تستحق الاحتفاء والنظر إليها بتمعن واهتمام لأنه يمثل ليس فقط صوتا شعريا أمريكيا متميزا ولكنه مدرسة شعرية مستقله لها طقوسها ونظامها وأسلوبها الذي يختلف بصورة واضحة عن أبناء جيله ومعاصريه.
توفى أشبري في هدسون بالولايات المتحدة الأمريكية عام ٢٠١٧ تاركًا وراءه إرثا أدبيًا تتحاكى به الأجيال القادمة من الشعراء والأدباء والنبهاء منهم عليهم أن يستفيدوا من خبرات شاعر عاش حياته يبتكر ويبدع ويشطح بخياله بعيدا حتى تجاوز المنطق والحدود.