أحدث الحكايا

د. محمد عفيفي يحكي: الأغنية الوطنية والتاريخ.. هل نُغني لحكامنا أم نُغنّي لبلادنا؟

ترتبط الأغنية الوطنية ارتباطًا وثيقًا بظهور مفهوم الوطن والقومية. وهو بهذا الشكل تطور حديث يرتبط بتكوين الدولة الوطنية وضرورة صنع مخيلات قومية يلعب التعليم والأغنية والموسيقى والأدب أهم عوامل ترسيخها في الوجدان الشعبي.

من هنا نرى أن ظاهرة الأغنية الوطنية بالمعنى المعروف الآن لا يمكن تتبعها إلا من خلال نشأة القومية والتوسع في وسائل الاتصال التي تسمح بالضرورة بانتشار الأغنية في ربوع البلاد حتى تكتسب صفة العمومية والوطنية. ومن هنا ترتبط الأغنية الوطنية إلى حدٍ كبير بظاهرة نمو الوعي القومي.

صورة نعبيرية

 

ولكن هناك عدة تساؤلات أساسية تواجه من يتطرق إلى هذا الموضوع لعل أهمها ماذا نقصد بالأغنية الوطنية؟ هل المقصود بها تمجيد الحكام؟ أم التغني بالوطن ونمو الوعي القومي لدى الشعوب؟ بمعنى أخر هل نُغني لحكامنا أم نُغني لبلادنا؟!

هل نعتبر الأغنيات التي تغنى بها كبار الفنانين المصريين في مدح الملك فاروق أغاني وطنية؟ كيف ننظر إلى الأغنية الشهيرة لموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب “أنشودة الفن” عندما بالغ في مدح فاروق قائلاً:

الفن مين يعرفه إلا اللي عاش في حماه

والفن مين يوصفه إلا اللي هام في سماه

والفن مين أنصفه غير كلمة من مولاه

والفن مين شرّفه غير الفاروق ورعاه

إنت اللي أكرمت الفنان ورعيت فنه

رديت له عزه بعد ما كان محروم منه

ورويت فؤاده بالألحان برضاك عنه

للاستماع إلى الأغنية خلال ذلك الرابط

الموسيقار محمد عبد الوهاب

 

وماذا نقول عن الأوبريت الشهير للفنانة الراحلة أسمهان “موكب العز”، الذي كتبه الشاعر أحمد رامي، وقام بتلحينه الموسيقار رياض السنباطي، وتغنت به أسمهان في فيلمها الشهير “غرام وانتقام” الذي عُرض في عام 1944. هذا الأوبريت تم حذفه من الفيلم بعد قيام ثورة 1952؛ إذ اعتُبِر هذا الأوبريت مدحًا مبالغا فيه في تاريخ الأسرة العلوية منذ محمد عليّ وحتى الملك فاروق. هذا مع الأخذ في الاعتبار أن خروج الأوبريت في هذا العام كان محاولةً لاستعادة الشعبية المفقودة للملك فاروق بعد تزايد المعارضة الشعبية ضد حكمه بل ضد الأسرة الملكية نفسها.

الاستماع إلى الأوبريت خلال هذا الرابط

الفنانة أسمهان

 

وهل ينطبق المعيار نفسه على الفترة الناصرية؟ ونقصد بذلك الأغاني التي تغنت بالزعيم عبد الناصر، ماذا نقول على سبيل المثال عن أغنيات مثل:

قربوا من فكره وأحلامه ياللي عليكم كل كلامه

ناصر ناصر ناصر

فى الصورة طالقكم قدامه قلتم إيه

ناصر ناصر

قيادات شعبيه قلتم إيه؟

قلنا يا زعيمنا قلوبنا أهي.. أيامنا أهي.. ليالينا أهي

الاستماع إلى الأغنية كاملة في هذا الرابط 

وكانت هذه الأغنية “صورة” التي تغنى بها عبد الحليم حافظ هي محاولة من عبد الناصر لجذب قيادات اليسار المصري التي كانت في البداية على خلاف كبير معه. لكن عبد الناصر حاول أن يجذب قوى اليسار إليه من خلال الدعوة إلى الاشتراكية وانضمام الشيوعيين المصريين إلى الاتحاد الاشتراكي والمساهمة فيه كقيادات شعبية، وهو ما وافقت عليه بالفعل الكثير من التجمعات اليسارية.

عبد الحليم حافظ

 

وعلى نفس النحو هل نعتبر الأغاني التي تغنت باسم السادات في عصره أغاني وطنية؟ وربما يصبح من الصعب الإجابة على مثل هذا السؤال خاصةً إذا وضعنا موضع الدراسة أغنية شهيرة تغنى بها أيضًا عبد الحليم حافظ باسم السادات بعد حرب 73 وهي أغنية “عاش اللي قال” التي كتبها محمد حمزة ولحنها بليغ حمدي:

عاش اللي قال.. الكلمة بحكمة وفي الوقت المناسب
عاش اللي قال.. لازم نرجع أرضنا من كل غاصب

عبور خط بارليف

 

إنه من الجدير بالملاحظة أن العقل الجمعي المصري لم يتذكّر الأغاني التي تغنّت بأسماء حكامه وزعمائه بينما يستمر في وجدانه الأغاني التي تغنت بمصر حتى في عهد هؤلاء الزعماء. إننا مازلنا نتذكر من عصر عبد الناصر أغاني مثل الله أكبر ووالله زمان يا سلاحي وهي التي ارتبطت بمناسبة وطنية مهمة مثل حرب 56، أو أغاني مثل عدى النهار، وأحلف بسماها وبترابها، هذه الأغنية التي استمر عبد الحليم حافظ يبدأ بها حفلاته منذ أيام النكسة وحتى حرب 73. وحتى في عصر السادات من منا لا يتذكر أغاني العبور مثل:

بسم الله.. الله أكبر بسم الله بسم الله

بسم الله.. أذن وكبر بسم الله بسم الله

نصرة لبلدنا بسم الله بسم الله

بإدين ولدنا بسم الله بسم الله

وأدان على المدنه بسم الله بسم الله

بيحى جهدنا بسم الله بسم الله

الله أكبر أذن وكبر

وقول يارب النصرة تكبر

*** 

بسم الله.. الله أكبر بسم الله بسم الله

بسم الله.. أذن وكبر بسم الله بسم الله

بكفاحنا يا مصر بسم الله بسم الله

تاريخ النصر بسم الله بسم الله

جنود الشعب بسم الله بسم الله

بتخطى الصعب بسم الله بسم الله

الله أكبر أذن وكبر

وقول يارب النصرة تكبر

بسم الله.. الله أكبر بسم الله بسم الله

بسم الله.. أذن وكبر بسم الله بسم الله

 ***

سينا يا سينا بسم الله بسم الله

أدينا عدينا بسم الله بسم الله

ماقدروا علينا بسم الله بسم الله

جنود أعدينا بسم الله بسم الله

الله أكبر أذن وكبر

الله أكبر أذن وكبر

وقول يارب النصرة تكبر

للاستماع إلى الأغنية في هذا الرابط

أو أغنية “حلوة بلادي” التي كتبها عبد الرحيم منصور ولحنها بليغ حمدي:

حلوة بلادى السمرة بلادي الحرة بلادي

وأنا على الربابة بغني

ماملكش غير إني أغني وأقول

تعيشي يا مصر

وأنا على الربابة بغني

ماملكش غير غنوة أمل

للجنود أمل للنصر

ليكي يا مصر

وأنا على الربابة بغني

اغني وأبارك كل خطوة

تعدّي ع الطريق الصعب

تحيا مصر

وأنا على الربابة بغني

وبغنّي غنوة الحرّية

قول معايا يا شعب

تحيا مصر

حلوة بلادي السمرة بلادي الحرة بلادي

وأنا على الربابة بغني

عاشق ومغني

وإيه هكون جنب عشاقك

يا مصر

وانتي اللي مبتنسيش ضناكي

دمّة ع التراب الحُر

فداكي يا مصر

للاستماع إلى الأغنية خلال هذا الرابط

 

وهكذا يثبت العقل الجمعي المصري أن ما يبقى في وجدانه من أغان وطنية هو ما ارتبط بالفعل بمفهوم الوطن وليس تمجيد الحكام. وربما يُستثنى من هذه القاعدة لحظة الشجن الحقيقية التي عاشها الشعب المصري مع الوفاة المفاجئة لجمال عبد الناصر وهنا غنى الشعب المصري كله:

الوداع يا جمال يا حبيب الملايين

ثورتك ثورة كفاح عشتها طول السنين

وهنا نلاحظ أن الشعب المصري عندما كان يودع عبد الناصر لم يكن يُمَجِّد حاكمه وإنما يغنى لحلم قومي ولفترة ثورية كان يشعر بحسه أنها قد تُختطف منه بعد ذلك.

أغنية وطن

ولتأصيل هذه الفكرة، أن الشعب يغني لمصر فقط وأنه عندما تبقى في ذاكرته أغنية لزعيم أو حاكم فإن هذا الموقف الاستثنائي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بلحظاتٍ مهمة ونادرة في تاريخه عندما يصبح الزعيم رمزًا للوطن وهنا يصبح الأصل في الأشياء الوطن، وهذا يذكرنا بما حدث مع سعد زغلول أثناء ثورة 19 عندما قامت السلطات البريطانية باعتقال سعد ورفاقه ونفيهم إلى الخارج، هنا سيرفع الشعب المصري سعد إلى مصاف الزعماء ويصبح سعد رمزًا للوطن، وعودة سعد من المنفى هي بمثابة عودة الروح إلى الوطن.

حيث منعت السلطات البريطانية الهتاف باسم سعد في المظاهرات والغناء له، وهنا ابتكر الشعب المصري وسيلة المقاومة بالحيلة، حيث خرجت الأغنية الشهيرة “يا بلح زغلول” التي كتبها بديع خيري ولحنها سيد درويش:

يا بلح زغلول يا حليوة يا بلح

يا بلح زغلول يا زرع بلدي

عليك يا وعدي يا بخت سعدي

زغلول يا بلح يا بلح زغلول

يا حليوة يا بلح يا بلح زغلول

عليك أنادى في كل وادي

قصدي ومرادي

زغلول يا بلح يا بلح زغلول

يا حليوة يا بلح يا بلح زغلول

الله أكبر عليك يا سكر

يا جابر اجبر

زغلول يا بلح يا بلح زغلول

يا حليوة يا بلح يا بلح زغلول

ماعيتشي أبكي وفيه مدبر مين بس ينكر زغلول يا بلح

يا روح بلادك ليه طال بعادك

تعا صون بلادك

زغلول يا بلح يا بلح زغلول

يا حليوة يا بلح يا بلح زغلول

سعد وقال لي ربي نصرني

وراجع لوطني

زغلول يا بلح يا بلح زغلول

يا حليوة يا بلح يا بلح زغلول

للاستماع إلى الغنية خلال هذا الرابط

وسيرًا على نفس الدرب اعتبر الشعب المصري إجبار بريطانيا على عودة سعد زغلول من المنفى انتصارًا للثورة المصرية وعودة الروح إلى مصر، حيث خرجت الأغنية الشهيرة لبديع خيري وسيد درويش:

مصرنا وطننا سعدها أملنا.. كلنا جميعا للوطن ضحية

أجمعت قلوبنا هلالنا وصليبنا.. أن تعيش مصر عيشة هنية

عزك حياتنا.. ذلك مماتنا

يا مصر بعدك.. مالناش سعادة

لولا اعتقادنا.. بوجود إلهنا.. كنا عبدنا.. النيل عبادة

مصرنا سعدنا.. أملنا.. كلنا جميعا للوطن ضحية

أجمعت قلوبنا.. هلالنا وصليبنا.. أن تعيش مصر عيشة هنية

حبك كفاية.. مالوش نهاية.. كله مزايا من فضل ربي

مهما قاسينا.. مفروض علينا.. موت المجاهد.. من غير ذنب

مصرنا وطننا سعدها أملنا.. كلنا جميعا للوطن ضحية

أجمعت قلوبنا هلالنا وصليبنا.. أن تعيش مصر عيشة هنية

روحنا فداكي… مالناش سواكي… ربك معاكي في كل ساعة

وباتحادنا.. نبلغ مرادنا.. ويد الله مع الجماعة

مصرنا وطننا.. سعدها أملنا.. كلنا جميعا.. للوطن ضحية

أجمعت قلوبنا هلالنا وصليبنا.. أن تعيش مصر عيشة هنية

احنا غايتنا نرفع رايتنا.. أحرار خلقنا نأبى المذلة

ياعيشنا سعدا.. يا مُتنا شهدا

لتحيا مصر أمة مستقلة

للاستماع إلى الأغنية في هذا الرابط

عن د. محمد عفيفي

أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة القاهرة، حصل على الماجستير عن رسالته التي تناولت الأوقاف في العصر العثماني، ومن بعدها درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة عن دراسة حول الأقباط في العصر العثماني، وقد تولى رئاسة قسم التاريخ بآداب القاهرة مرتين. كما عمل باحثًا في المعهد الفرنسي للآثار، وفي المعهد الفرنسي للدراسات الاجتماعية والاقتصادية. ثم شغل منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة في الفترة من 2014 إلى 2015. حاصل على جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الاجتماعية لعام 2004، والتفوق في العلوم الاجتماعية لعام 2009، والتقديرية في العلوم الاجتماعية لعام 2020-2021.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *