عاش قلقًا طريدًا وسجينًا، من فرط ما شاهد في مسيرته، صادفَ مُؤامراتٍ حينما اقترب من أصحاب السُّلطان، ولم يكُن في زمانهِ أشعرَ منه، جملةٌ تتردَّدُ كثيرًا في المصادر التاريخية. وبسبب هذه الشعرية العالية تزعَّمَ بها عصرُهُ. وهو أشعرُ من أخيه الرَّشيد الذي مات مشنوقًا.
حكاية المُهذَّب بن الزُبير
هو الحسن بن عليّ بن إبراهيم بن الزبير الغساني الأسواني، أبو محمد، الملقب بالمهذّب، من شُعراء القرن السَّادس الهجري، حيثُ وُلد في أوائله، ومات في سنة واحد وستين وخمسمائة، أي قبل أخيه بعام، واشتهر شاعرًا في أسوان مسقط رأسه قبل أن يقرِّر الرحيلَ إلى مدينة «القاهرة المعزِّيَّة» التي تأسَّست في 17 من شعبان سنة 358 هـجرية عاصمةً للفاطميين آنذاك.
ودرسَ في اليمن علم الأنساب، فصار مُتمرِّسًا فيه، ووضع مُؤلَّفًا في هذا العلم، يقعُ في أكثر من عشرين مُجلدًا، كل مجلدٍ يتضمَّنُ عشرين كراسةً، قال عنه ياقوت الحموي في معجم الأدباء:
“رأيتُ بعضه فوجدته مع تحقُّقي بهذا العلم وبحثي عن كتبه لا مزيد عليه”.
وقال أيضًا إنه: “كان كاتبًا مليحَ الخطِّ فصيحًا جيدَ العبارة،…”
تعمَّق في علوم القرآن، وألَّف تفسيرًا لكتاب الله، تقولُ المصادر إنه يقع في خمسين جزءًا. ومن هنا يأتي سبب اقتباسه من القرآن والحديث في متْنِ نصِّه الشعري، وله أيضًا كتاب هو “جنان الجنان ورياض الأفهام” ،ولُقِّب بالقاضي والمُهذَّب.
وكانت فترة إقامته في اليمن من أخصب فترات حياته العلمية، وعندما رجع إلى القاهرة لم يطل به المقام أكثر من عدة أشهر حتى تُوفي فيها”، وكانت السلاسةُ من أبرز سماته في الكتابة الشعرية حيثُ إن لغته بعيدةٌ عن الغرابة، ومعانيه واضحةٌ لا تعقيدَ فيها ولا التواءَ، فشعريته خصبة، والقارىء لشعره يلحظ أيضًا ظاهرة تضمينه نصوصه من شعر الأسلاف من الشعراء القدامى مثل امرىء القيس، والمتنبي.
شعر مفقود
وكان المهذَّبُ ذا ثقافةٍ عربيةٍ متنوعةٍ، حيث وُلد لعائلةٍ ميسورة الحال معروفة بالمال والرياسة، حرصت على تكوينه ثقافيًّا ودينيًّا، ومع ذلك فقد طواه النسيانُ، حيث لم يلتفت إليه إلا قليلٌ من الباحثين والدارسين، وعلى الرغم من أنه ينتمي في الأصل إلى أسوان ويُكنَّى بها “الأسواني” فإن جامعة أسوان أو جامعات الصعيد لم تدرس شعره وحياته في رسائل الماجستير والدكتوراه.
ما وصل إلينا من شعره قليلٌ ،وهذا ما حدث بالمثل مع شعر أخيه، وما صار مُتاحًا لا يمثِّلُ الديوانَ الشعريَّ الكامل بل هي مُنتخباتٌ أو قل إنَّها نماذجٌ مختارةٌ من شعره، كانت مبثوثة في بطون أمهات الكتب، جمعها الباحثون والمُحقِّقون من كُتب الأسلاف في التراجم والسِّيَر كانوا يتمثَّلون بها ويستشهدون. كما أنَّ الدولة الأيوبية قد طمست وأحرقت وأغرقت أغلب مكتبات الدولة الفاطمية إثر انهيارها.
وكثير من شعراء العصر الفاطمي قد “فُقِد شعرهم وضاعت أسماؤهم مع ما ضاع من الأدب الفاطمي.”
ويذكر الدكتور محمد كامل حسين -تُوفِّيَ عامَ ١٩٦١- في كتابه “دراسات في الشعر في عصر الأيوبيين” أن:
“رجال الدولة الأيوبية.. عملوا على محو كل أثر علمي أو أدبي للفاطميين لخلاف مذهب الدولتين، وثانيًا: عند المؤرخين والكتَّاب من أهل المشرق الذين كانوا يدينون بالطاعة للعباسيين، فأبوا أن يرووا شيئًا عن شعراء مصر الفاطمية، وثالثًا: عند الأتراك الذين دان لهم العالم الإسلامي مدة طويلة، فأطاحوا بحضارتين من أرقى الحضارات التي شاهدها العالم، وشاهدها تاريخ الفكر البشري، وهما: الحضارة البيزنطية والحضارة الإسلامية، ولم يستطِع الأتراك أن يقيموا حضارة أخرى تقوم مقام هاتين الحضارتين. وكان الأتراك شديدي التعصُّب للمذهب السني، فأنزلوا نقمتهم على كل ما هو شيعي، أضِفْ إلى ذلك كله المجاعات الكثيرة والاضطرابات العديدة التي سبَّبَتْ محنًا عديدة لمصر، ووصفها المقريزي في كتابه «إغاثة الأمة بكشف الغُمَّة»، فقد كانت من أشد العوامل في ضياع كتب كثيرة من كتب علماء الفاطميين ودواوين شعر شعرائهم، وهكذا تضافرت قوى عديدة لإبادة العلوم والآداب في العصر الفاطمي، حتى إن الذي بقي من هذا كله أصبح ضئيلًا تافهًا بالنسبة لما كان في عهدهم الزاهر.”
…
وقال العماد الأصبهاني عن المهذب بن الزُّبيْر إنه كان شاعرًا “محكم الشِّعر كالبناء المُشيَّد، …وأعرفَ بصناعته وإحكام معانيه،…” وقد وصفه الذهبي بـ”الكاتب البليغ”.
وقد نُشِرَ ديوانه في عام 1984 بتحقيق محمد مصطفى رضوان، وهناك كتابٌ ثانٍ للدكتور محمد عبد الحميد سالم حيثُ عكف على جمع شعر المهذَّب بن الزبير وأصدره سنة 1988 في كتاب عند دار نشر مصرية.
كما أن الدكتورة سعيدة محمد رمضان، قد نشرت كتابا بعنوان “شعر الرشيد والمهذب: من أعلام الأدب العربي في مصر، في القرن السادس الهجري”. مركز البابطين لتحقيق المخطوطات الشعرية، دار الوفاء – الإسكندرية، الطبعة الأولى – 2012.
وثمة مصادر عديدة تشير إلى أن أكثر الشعر الذي في ديوان صالح بن رُزِّيْك إنما هو شعر المهذب بن الزبير، وحصل له من الصالح مال جم.
و ابن رُزِّيْك (495 ــ 556 هـجرية / 1102 ــ 1160 ميلادية) هو “المُلقّب بالملك الصالح، أحد وزراء الدولة الفاطمية ومن أبرز فقهائها وشعرائها، قال عنه ابن خلكان: «وكان فاضلًا، سمحًا في العطاء، سهلًا في اللقاء، محبًّا لأهل الفضائل، جيّد الشعر»، قُتل في 19 رمضان سنة 556 هـ في مؤامرة شاركت فيها الأميرة ست القصور عمة الخليفة العاضد لدين الله (1151 ميلادية / 546 هـجرية – 1171 ميلادية/ 567 هـجرية).
حكاية الرشيد
شُنق شقيقُه الرشيد -قاضي قضاة اليمن وقتذاك- وقد “كان كاتبًا شاعرًا فقيهًا نحويًّا لغويًّا ناشئًا عروضيًّا مؤرخًا منطقيًّا مهندسًا عارفًا بالطب والموسيقى والنجوم متفنِّنًا”. حسبما يذكرُ ياقوت الحموي (574 هـجرية/ 1178 ميلادية – 626 هـجرية/ 1229 م) في «معجم الأدباء = إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب»، “قُتِل ظلمًا وعُدوانًا في محرم سنة اثنتين وستين وخمسمائة،… ولقِّبَ بقاضي قضاة اليمن وداعي دُعاة الزمن، ولمَّا استقرت بها دارُه سمتْ نفسه إلى رُتبة الخلافة فسعى فيها وأجابه قومٌ وسلم عليه بها وضُربت له السكَّة وكان نقش السكَّة على الوجه الواحد {قل هو الله أحد الله الصمد} وعلى الوجه الآخر الإمام الأمجد أبو الحسين أحمد، ثم قُبض عليه، وأنفذ مكبَّلًا إلى قوص فحكى من حضر دخوله إليها أنه رأى رجلا ينادي بين يديه هذا عدو السلطان أحمد بن الزبير وهو مغطى الوجه حتى وصل إلى دار الإمارة والأمير بها يومئذ”.
وأما سبب مقتله كما يذكرُ ياقوت الحموي هو “ميله إلى أسد الدين شيركوه عند دخوله إلى البلاد ومكاتبته له، واتصل ذلك بشاور بن مجير السعدي (توفي في 564 هـجرية/ 1169 ميلادية) “وزير العاضد لدين الله صاحب مصر سنة 558 هـجرية”. فطلبه فاختفى بالإسكندرية، واتفق التجاء الملك صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى الإسكندرية ومُحاصرته بها؛ فخرج ابن الزبير راكبًا متقلِّدًا سيفًا وقاتل بين يديه ولم يزل معه مدة مقامه بالإسكندرية إلى أن خرج منها فتزايد وجد شاور عليه واشتد طلبه له واتفق أن ظفر به على صفة لم تتحقق لنا فأمر بإشهاره على جمل وعلى رأسه طرطور ووراءه جلواز ينال منه. وأخبرني الشريف الإدريسي عن الفضل بن أبي الفضل أنه رآه على تلك الحال الشنيعة وهو ينشد:
“إن كان عندك يا زمانُ بقيةٌ.. مما تهين به الكرام فهاتِهَا”
ثم جعل يهمهمُ شفتيه بالقرآن وأمر به بعد إشهاره بمصر والقاهرة أن يُصلبَ شنقًا فلمَّا وصل به إلى المشنقة جعل يقول للمتولي ذلك منه عجِّل عجِّل فلا رغبةَ للكريم في الحياة بعد هذه الحال ثم صُلب. وقد دُفنَ الرشيد بن الزبير في موضع صلبه، فما مضت الأيام والليالي حتى قُتل شاور وسحب فاتفق أن حُفِر له ليُدفنَ فوجد الرشيد بن الزبير في الحُفرة مدفونًا فدفنا معًا في موضعٍ واحدٍ ثم نُقل كل واحد منهما بعد ذلك إلي تربة له بقرافة مصر القاهرة”.
وذكر عماد الدين الأصبهاني في كتابه “خريدة القصر وجريدة العصر” أنَّ “الرشيد كان من أهل الفضل والنباهة والرياسة، أوحد عصره في علم الهندسة والرياضات، والعلوم الشرعيات، والآداب الشعريات”.
ومما جاء في ذكره وأخيه: “قال الحافظ أبو محمد المنذري: سألتُ قاضي القضاة شرف الدين محمد بن عين الدولة عنه وعن أخيه الرشيد أيّهما افضل؟ فقال: المُهذَّب في الشِّعر والأدب وذاك في فنونه”.