في أحد أيام الصيف دعاني زملاء على أكلة سمك في مصيف جمصة. أكلنا وشربنا الشاي. ضحكنا وتسامرنا أمام موج البحر. آنذاك انضمت إلينا زميلة لديها قدرات خاصة، إذ كانت تعرف ما يدور خلف ظهرها وتصفه لنا بدقة. ورأيت بنفسي كيف نجلس أكثر من عشرة أشخاص وهي على بعد أمتار منا، ثم يصدر أحدنا حركة ما، فتأتي وتخبرنا بالشخص دون تردد.
نحن جميعًا لدينا فضول لحيازة المعرفة التامة كلها، كي نطلع على ما يدور في عقول وقلوب الآخرين، ونعلم القدر الآتي، الأخطار، الأمراض، مواعيد الموت، وما الذي سيحدث لنا في حياتنا الأخرى؟ إن كان ثمة حياة أخرى.
كما روت لأحدنا تفاصيل قصة غرامه رغم أنه متزوج، وأسرت له في أذنه باسم صديقته السرية. وعندما طلبتُ منها أن تخبرني بشيءٍ ما عني، نظرتْ إليّ مليًا ثم سألتني: هل تعرضتَ للموت من قبل؟ أخبرتها: بالتأكيد.. منها مرة دفعتني صبية أكبر مني سنًا في النيل وكدتُ أغرق لولا أن أنقذني عمي في آخر لحظة. فقالتْ الزميلة: “عليك حماية، لا أستطيع الوصول إليك”. كانت عبارتها غامضة ومخيفة لي، وحينما ذكرتُ ما حدث معها لصديقة مقربة أخبرتني أن تلك الزميلة في الغالب “مخاوية جني”.
ما ذكرني بالآية القرآنية “إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ” (الصافات/10)، فحسب بعض المفسرين يشير المعنى إلى حجب خبر السماء عن الجن والشياطين، وحرق من يحاول الوصول إلى هناك.
فنحن جميعًا لدينا فضول لحيازة المعرفة التامة كلها، كي نطلع على ما يدور في عقول وقلوب الآخرين، ونعلم القدر الآتي، الأخطار، الأمراض، مواعيد الموت، وما الذي سيحدث لنا في حياتنا الأخرى؟ إن كان ثمة حياة أخرى.
اسم الله الأعظم
ذلك المجهول الهائل الذي نسميه “الغيب” مخيف وموحش، ولربما إذا علمنا قدرًا منه، سوف نحس بالأمان والرضا والطمأنينة. فمن مخاوفنا العميقة جاء الإيمان بإله قادر على كل شيء، رب رحيم بنا، يلطف بأقدارنا، ويشملنا برعايته وكمال عنايته. فنحن دائمو الاستدعاء والدعاء للرب بشتى الصور، والأسماء، والصلوات، والأدعية، والتعاويذ. “قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ ۖ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ” (الإسراء، 110). وفي ثقافتنا الدارجة عند اللقاء والافتراق، عند البيع والشراء، الزواج والطلاق، في الصحة والمرض، لابد أن نعقد ونحل كل شيء باسم الله، ونردد عبارات مثل: في أمان الله، الرب يرعاك، وفي حفظ الله.
وثمة اعتقاد بأن كل أسماء الله لا تكفي للدعاء، وضمان الحماية، ولابد أن له اسمًا أعظم مجهول لنا، من عرفه ودعا به، أجيبت دعوته. وإن اختلف المفسرون بشأنه فقالوا إنه لفظ الجلالة “الله” وقيل “الحي القيوم”.
يصبح الاسم الأعظم، أو ما ينوب عنه، تعويذة حماية يرددها اللسان في كل أحواله، ويستحضرها القلب في جميع خفقاته. على عكس الأسماء المخيفة وذات الطاقة السلبية التي يستقبح ذكرها، مثلما يتجنب العامة ذكر السرطان فيكتفون بالقول “المرض الخبيث”، أو يكنون عما يكرهون بقولهم “اللي ما يتسمى”. فعدم تسمية الشيء البغيض، تعني أنه ليس معترفًا به، أو محاولة لمحوه من الوجود. من لا اسم له، لا وجود له.
فهل تتحقق الحماية والرعاية حقًا لبعض البشر، بذكر الأسماء الحسنى على اللسان أم لابد من إيمان القلب بها؟ ولماذا يلهج بها بعضنا عند الاحتياج والضرورة والضرر، أي في لحظات الخوف والطمع، بينما يرابط البعض الآخر كي يبقى في معية الله، متجاوزًا ذلك الإيمان النفعي المرتبط بالمخاوف والرغبات؟
حماية وألم
هل تعني الحماية عدم حدوث الألم والمرض والجوع والموت؟ أم تعني اللطف في كل ابتلاء، والمكافأة ما بعد الموت؟ هل كل تجليات الإيمان مجرد “خيالات وهمية” اختلقها الإنسان لنفسه كي يهدهد بها مخاوفه إزاء وجود غامض، وغيب مجهول؟ على اعتبار أن كل ما يجري ليس سوى اندفاع للصدف وصراعات طبيعة حية؟ صحيح أنني نجوتُ مرة من الغرق، ومرة من حادث سيارة، لكن الأمر قد لا يتعلق بحماية ما، قدر ما يتعلق بنسبة احتمالات معينة تنتهي بعدد من الناس غرقى، ونجاة عدد أكبر.
ربما قلة من البشر تنكر الرعاية الإلهية، ولا تقر أن للسماء خبرًا أو “برمجة كونية” يحاول الجن والشياطين (والعلماء) فك أسرارها، مقابل أغلبية ـ بغض النظر عن أديانها ـ تؤمن بالحماية السماوية إيمانًا جزئيًا، بحكم العادة وحسب الاحتياج، مثلما يكثر الطالب من الصلاة قبيل الامتحان، أو يرجو المريض مباركة القس له.
ما بين قلة منكرة، وأكثرية مؤمنة إيمانًا نفعيًا متذبذبًا، ثمة من يسعى للبقاء الأبدي تحت مظلة الحماية، وفي معية الرعاية؛ فيروى عن عروة بن الزبير أنه أصيب بـ”غرغرينا” تطلبت بتر رجله، فعرضوا عليه شرب الخمر كي لا يشعر بالألم، فرد عليهم: “ما كنت لأستعين على بلاء الله بمعصيته، فقط أدخل في صلاتي واقطعوها حين أصلي”. ومن شدة خشوعه لم يشعر بقطع ساقه، وحينما انتهوا التفت إليهم: “أفرغتم من قطع ساقي؟” كما قيل إن عبادة بن بشر رُمي بثلاثة أسهم، فلم يقطع صلاته.
في السياق ذاته تتواتر قصص كثيرة للأنبياء والقديسين دالة على مطلق الحماية، التي قد تعطل قوانين الكون الاعتيادية، مثل رعاية يونس في بطن الحوت، وما جرى في قصة النبي دانيال حيث قيل إن ملكًا ظالمًا ألقى به وهو طفل في أجمة مليئة بالأسود، وعندما ذهبت أمه للبحث عنه، وجدت الأسد واللبؤة يحرسانه. ومهما اختلفت روايات القصة لكنها جميعًا تؤكد مطلق العناية الإلهية، وتعطيل غريزة الافتراس عند الأسود.
عن نفسي لا أعلم هل نجاتي من الغرق كانت بفضل تعويذة باسم الله أطلقها أبي أو أمي، أم بركة سماوية مُنحت لي، أم اجتهاد بلغه قلبي.. في كل الأحوال، سأظل مثل أغلب البشر، نصلي ونصوم، ونمارس اليوجا، ونتطهر في الأنهار المقدسة، ونجح إلى الأماكن المباركة، ونلهج بالأدعية وذكر الله، نحدق في النجوم ليلًا، ونسير حفاة فوق الجمر والثلج.. بحثًا عن خوذة إلهية ـ لا مرئية ـ نستظل بحمايتها، ونعيش إلى الأبد في معيتها وكمال عنايتها.
فهل تعبر تلك الحماية عن وقائع قابلة للإثبات، أم تعزية يلجأ إليها البشر؟ ألا نرى بأعيننا أشخاصًا كتبت لهم النجاة من كوارث محققة؟ وقد يحكي لنا أشخاص عاديون كيف شفاهم الله من أمراض مستعصية أثناء الحج المقدس، وكيف أجريت لهم عمليات جراحية صعبة وهم نائمون، وقد مروا بتلك الخبرة كأنها حلم.
فهل تلك الرعاية بركة سماوية يمنحها الله فضلًا وكرمًا لبعض عباده، أم ثمرة تعبد وتدريب وذكر دائم لأسماء الله، حتى تستقيم الروح في محبة المعية؟
تجربة على المخ
عالم الأعصاب مايكل بيرسنجر طور في مختبره تجربة للاتصال بالله، ورؤيته؛ على أمل أن ما حدث لبعض الأنبياء والقديسين من رؤية الله والتكلم معه، تصبح ممكنة لجميع البشر.
اخترع بيرسنجر “خوذة الرب” حيث يرتديها الشخص فتضمن له اتصالًا اصطناعيًا بالله، من خلال تحفيز كهرومغناطيسي للدماغ. يدخل التقنيون الشخص إلى غرفة معقمة، معتمة، عازلة للصوت، ويجلسونه على كرسي مريح، ليبدأ عملية استرخاء عميقة، وقد وضعوا على رأسه خوذة دراجة نارية مزودة بملفات لولبية كهرومغناطيسية، كي تبدأ في تدليك وتحفيز الدماغ من جوانب مختلفة، مع تسجيل ومراقبة موجاته. وقد قال كثيرون إنهم شعروا بوجود الله شعورًا محسوسًا، أو أحسوا بالانسجام الكوني، والسلام الداخلي، والسكينة.
وفق هذا المنطق التجريبي، كل ما يحتاج إليه المرء كي يعيش تجربة الرعاية والمعية، هو شراء خوذة بمائة وخمسة وأربعين دولارًا، بدلًا من الصلوات التقليدية ودفع الزكوات والتراتيل والأدعية وجلد الجسد بالسياط، والصوم، وتقديم القرابين. بتبعير بيرسنجر “بدلًا من أن يخلق الله أدمغتنا، فإن أدمغتنا هي التي تخلق الله”.
اقرأ تفاصيل أكثر عن خوذة الرب عبر هذا الرابط
يعيب التجربة أنها بدلًا من الإيمان بالله كخالق أزلي متعال شامل القدرة، يتحول إلى تجربة يتم التلاعب فيها بكيمياء المخ ووصلاته العصبية. كأنها تنفي اللاهوت، وتحول “العبادة” إلى تجربة ألعاب إلكترونية رباعية الأبعاد.
عن نفسي لا أعلم هل نجاتي من الغرق كانت بفضل تعويذة باسم الله أطلقها أبي أو أمي، أم بركة سماوية مُنحت لي، أم اجتهاد بلغه قلبي.. في كل الأحوال، سأظل مثل أغلب البشر، نصلي ونصوم، ونمارس اليوجا، ونتطهر في الأنهار المقدسة، ونجح إلى الأماكن المباركة، ونلهج بالأدعية وذكر الله، نحدق في النجوم ليلًا، ونسير حفاة فوق الجمر والثلج.. بحثًا عن خوذة إلهية ـ لا مرئية ـ نستظل بحمايتها، ونعيش إلى الأبد في معيتها وكمال عنايتها.