أحدث الحكايا

مُنروفيا.. حوار الدبلوماسية والرومانسية عن الحرب الأهلية في ليبيريا

تحكي الروايات الحكايات، ولكنها تحتفظ في الوقت نفسه بحكاياتها الخاصة، حكايات عن كواليس كتابة الرواية ووقت كتابتها وتفاصيل حياة كاتبها ودوافعه لحكي هذه الحكاية بالتحديد. والحكاية المحيطة برواية “منروفيا” أولى روايات الدبلوماسي أحمد فريد لا تقل جمالا عن الحكاية التي تحكيها الرواية التي تصدر عن “بيت الحكمة” تزامنا مع معرض القاهرة الدولي للكتاب الـ55.

 

“أما أنا فأرحل وقد فقدتُ هنا أشياء كثيرة، لم أكن أملك شيئًا عندما وطئتها، جئت أبحث عن شيء لا أعرفه، لكني وجدت ذاتي التي أكرهها، الآن أرحل بعد أن سقطت ورقة التوت عن سوءتي وتركت بحُمرة تراب هذه الأرض نبضًا من قلبي الذي يئن للفراق وفررت خوفًا على حياة لا تساوي شيئا بدونها. حياة ستظل كأطلال خلفتها الحرب بمنروفيا صامتة باردة مظلمةً”.

 

حكاية الرواية

الرواية كتبها الدبلوماسي أحمد فريد المرسي أثناء عمله الدبلوماسي في مدينة هيوستن الأمريكية في فترة انتشار وباء الكورونا، واستوحى أحداثها من الفترة التي عمل فيها في السفارة المصرية بمدينة منروفيا عاصمة دولة ليبيريا الأفريقية، وفور انتهائه منها تقدم بها لجائزة خيري شلبي للعمل الروائي الأول، واستطاعت الرواية تجاوز مرحلتين مهمتين من مراحل الجائزة حيث وصلت إلى القائمة الطويلة، ثم إلى القائمة القصيرة ضمن خمس روايات فقط من بين أكثر من 80 رواية تقدمت للجائزة في دورتها الرابعة.

وعلى الرغم من أن الرواية هي العمل الأول لكاتبها الدبلوماسي أحمد فريد ولكنها وكما يقول الروائي والأديب محمد توفيق في تقديمه لها: “نجحت هذه الرواية فيما يصبو إليه كل عمل أدبي، ولا يتحقق إلا فيما ندر.. أن يخلق العمل لنفسه مساحة تخصه على خريطة الأدب العربي، فيظل محطة مهمة في مسيرتنا الروائية، تفتح أمام القارئ آفاقا لم يطئها من قبل، وتحفز الأدباء الآخرين على الانطلاق منها”.

ولذا لم يكن مستغربا أن تقوم دار نشر مهمة مثل “بيت الحكمة” بالتقاط العمل والتحمس لإصداره لما فيه من عناصر قوة وفرادة متعددة. وهو ما سيتضح أكثر في المقدمة التي ننشرها عن الرواية.

الكاتب والدبلوماسي أحمد فريد المرسي

 

تقديمة الرواية بقلم السفير والروائي محمد توفيق

السفير محمد توفيق

الأحداث مشوقة.. لكنه تشويق ملبد بالمعاني. تدور في مواقع حقيقية.. لكن خارج النطاق الجغرافي الذي اعتدنا عليه. تكشف تفاعلات جالياتنا المغتربة مع موطنها الجديد، ووطنها الأم، فضلا عن عمق تأثرها بالنظام العالمي سريع التحول عظيم الانقلاب.. لكن هذه الجاليات ليست متموضعة في دول المهجر المعتادة في الأمريكتين وأستراليا، أو مراكز الإشعاع التاريخي في أوروبا الغربية، أو حتى بلاد فرص العمل في الخليج العربي، بل في موقع يجمع – بالنسبة لنا – القرب والبعد في آن. في قلبها قصة حب.. ليست كأي قصة حب، بل عملية استكشاف لماهية الحب وجذوره، أينبع من الروح أم الجسد، من العقل أم الخيال؟ يمكن اعتبارها كذلك ضمن أدب الحرب.. لكن هذه حروب ليست كتلك البارزة في عناوين صحفنا الرئيسية، أو الماكثة في عمق وجداننا.

منروفيا.. سيتعرف عدد من قرائنا على عنوان روايتنا على الفور، لكن بالمقابل لن يتوصل البعض إلى معنى لها أصلا، والبعض الآخر ستقتصر معارفه حولها على خيوط ضبابية جمعها من هنا وهناك.. أيكون العنوان ضمن سلسلة العناوين “الروشة” التي يتحفنا بها أدباؤنا هذه الأيام.. تلك العناوين التي تجذب الانتباه دون أدنى مساهمة في بناء العمل، ولا تقدم للقارئ إضافة معرفية ذات بال؟ وهل للعنوان قصة أو قصص سيفيد القارئ التعرف عليها قبل الغوص في الرواية.. قبل أن يجرفه ذلك التدفق اللذيذ لأحداث تمزج الرومانسية بالإثارة؟

مدينة منروفيا طبعا عاصمة ليبيريا – إحدى دول غرب أفريقيا المطلة على المحيط الأطلسي – ولها بكل تأكيد حكايات تستحق أن تروى، تتناول روايتنا بعضا منها، لكنني سأوجز هنا بعض الخلفيات التاريخية التي قد تزيد من متعة قراءة العمل الذي بين أيدينا.

مدينة منروفيا

 

تأسست جمهورية ليبيريا عام 1847 على يد جماعات من العبيد المحررين من الولايات المتحدة وجزر الكاريبي، عادوا إلى موطنهم الأفريقي لينعموا بالحرية الغائبة في الأمريكتين، بيد أن اندماجهم في القبائل الأصلية لم يكن ممكنا بعد اكتسابهم مفاهيم غربية، وتعرفهم على أساليب وتقنيات حديثة، ومرورهم بتجارب عابرة للحدود مغايرة جذريا لإدراك الآخرين. كون العائدون نخبة متعالية على السكان الأصليين، محتكرة للسلطة ومزاياها، بل وصل التمييز لحد حرمان أفراد القبائل المحلية من حق المواطنة في الدولة الوليدة، وهو الحق الذي لم يحصل عليه السكان الأصليون إلا بعد أكثر من نصف القرن، أي في بدايات القرن العشرين.

ظلت ليبيريا وإثيوبيا الدولتين الأفريقيتين الوحيدتين اللتين لم تخضعا لموجات الاستعمار الأوروبي التي اجتاحت القارة في القرن التاسع عشر، غير أن هذا التمييز الطبقي الجديد بين العائدين من العالم الجديد والسكان الأصليين خلق أوضاعا مضطربة، حالت دون تحقق التقدم والتنمية. ثم تضاعف عدم الاستقرار مع الانقلاب العسكري الذي أطاح بحكم النخبة الأمريكية الليبيرية عام 1980، وتلته حربان أهليتان أسفرتا عن مقتل ما يزيد عن ربع مليون من الليبيريين، وانهيار اقتصادي مروع، وهي حقبة من الاضطراب دامت لأكثر من عشرين عاما.. وهي الخلفية التي تدور حولها أحداث روايتنا.

الإمبريالية الغربية إذن منظومة أشمل من تجارة الرقيق والاستعمار المباشر، هي نظام دولي مركب قوامه الهيمنة، ومن تداعياته خلخلة مجتمعات العالم الثالث داخليا. ولكن ظاهرة التخلف تتعدى آثار التدخلات الخارجية، بل تتأسس على فشل النخب في الارتقاء بشعوبها، وتفضيلها الاستئثار بالسلطة والثروة.. على الأقل هذه الدروس التي نتعلمها من ليبيريا.

دأبت الأنظمة الاستعمارية على استجلاب مواطنين من بلدان ثالثة ليشكلوا طبقات وسيطة بين المستعمر والشعوب المستعمرة، تتولى هذه الجاليات أنشطة الادارة والتجارة الصغيرة، ومع مرور الزمن تشكلت جاليات مؤثرة من ذوي الأصول الهندية في بلدان الشرق والجنوب الأفريقي، وجاليات لبنانية في غرب أفريقيا. ولا يفوتنا أن الهند كانت ذاتها تحت وطأة الاستعمار البريطاني، بينما لبنان وقت الهجرات الكبرى عانت من الاستعمار العثماني، ثم الفرنسي في مرحلة لاحقة. ومع انقشاع الظاهرة الاستعمارية ظلت هذه الجاليات مكونا أصيلا للمجتمعات الأفريقية غي المرحلة ما بعد الاستعمارية، تقوم بدور مهم في تطوير اقتصادياتها، وإن أثارت بعض الحساسيات أحيانا.

ليبيريا أثناء الحرب الأهلية

 

ما يميز رواية منروفيا إنها – من خلال قصة حب لا تخلو من العمق والإثارة – تضع القارئ العربي بشكل مباشر في قلب أحداث تلك الدولة الأفريقية في مرحلة معينة من تطورها، فتذكرنا بأننا لم ننتبه بالقدر الكافي إلى هموم قارتنا الشاسعة وطموحات شعوبها، فضلا عن تنوعها الشديد، وخصوصياتها المثيرة للانتباه. إذ دأبنا أن نتعرف على تلك المجتمعات من خلال أعين غربية.. ظاهرة هي أيضا من مخلفات الحقبة الاستعمارية. التواصل بين الأطراف لا يكون إلا من خلال المركز الحضاري والاقتصادي والإعلامي، تلك العلاقة المدمرة التي وصفها بالتفصيل مفكرنا الكبير سمير أمين.

وإن كشف مؤلفنا المبدع أحمد فريد المرسي عن أوجه للنقص أو القصور في متابعتنا للثقافات الأفريقية على تنوعها، فإنه يضعنا على الطريق لمزيد من الانفتاح عليها والتفاعل معها، فعمق جذورنا المشتركة ووحدة مصيرنا تحتمان ذلك.

نجح الروائي بمهارة في رسم خريطة إنسانية مجسمة لمجتمع منروفيا متداخل الأصول متعدد الثقافات، فتتبلور أمام القارئ حقيقة إن العالم بمدنه وقراه، بمراكزه وأطرافه، بمجتمعاته المتقدمة والنامية على حد سواء، أصبح امتدادا كوزموبوليتانيا واحدا، نحن جزء لا يتجزأ منه، والجاليات المغتربة بمثابة جسور بين المجتمعات والثقافات.

وفي هذا السياق سيلاحظ القارئ أن مؤلفنا حرص على إخطاره بدءا بأنه كتب هذه الرواية أثناء إقامته في مدينة هيوستن الأمريكية، وهو المكان الذي تنتهي فيه أحداثها، فيفتح أمامنا – ربما دون أن يقصد – صندوقا به كنز يستحق أن نتوقف أمامه ولو سريعا. فكم لدينا من أدباء مقيمين كليا أو جزئيا في الخارج. وهل لأدب الخارج – ولا أقول بالضرورة أدب المهجر – خصائص تميزه أو قيمة مضافة يمد بها مسيرة بلادنا الأدبية.. هل يمد بدوره جسورا تقربنا من العالم وتقربه إلينا؟ هل لتفاعل هؤلاء المبدعين عن بعد مع هموم الوطن، وتعبيرهم عن قرب عن الواقع الوطني والإنساني المشترك.. هل لتجربتهم خصوصية وأهمية تتطلب مزيدا من الدراسة والتأمل؟

رواية منروفيا تتميز بلغة خاصة جدا، تمزج بين الشاعرية والإيقاع السريع المتمشي مع تتابع الأحداث. شخصياتها نابضة بالحياة مع تنوعها، يشعر القارئ تجاهها بألفة تصل إلى التعاطف، وربما القلق مما قد يبطنه الحظ لها. هذه رواية تُقرأ على أكثر من مستوى، وتطرح السؤال تلو الآخر. نشكلها بخيالنا.. وتشكلنا بإنسانيتها.

عن شهرزاد

المحرر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *