أحمد شوقي يحكي: علي أبو شادي الذي لم أحزن عليه كما يستحق

بعد أيام تحل الذكرى السنوية السادسة لرحيل علي أبو شادي، الناقد والمؤرخ والمفكر والإداري الثقافي المصري الكبير. ست سنوات مرت منذ أتانا خبر الرحيل الصادم ونحن نصف أمام إحدى قاعات مهرجان برلين لمشاهدة فيلم عربي معروض في المهرجان، لتؤبنه جماعته -جماعة النقاد- في أكثر مكان أحبه وأخلص إليه طوال حياته، في قاعة السينما.

شعور خافت بالذنب!

أعترف أن الفقرة السابقة إنشائية أكثر من كونها حقيقة، تُشبه الكلمات التي اعتدنا قراءتها -وأحيانًا كتابتها- للتعبير باستعارات لغوية عن مشاعر أعقد وأعمق من حصرها في أوصاف نمطية. الحقيقة أن الحزن عمّ بين نقاد برلين العرب، لكننا حملناه وواصلنا مشاهدة الفيلم، وخرجنا منه لنُكمل الرحلة المرهقة والمليئة بالعروض والكتابات ومحاولة التقاط الأنفاس وتناول الطعام سريعًا بين كل ذلك، والنتيجة: أنني أعيش حتى يومنا هذا حاملًا شعورًا خافتًا بالذنب أنني لم أحزن على علي كما يستحق.

 

وكأن رحيله جاء ليُكمل تلك العلاقة الملتبسة بيننا وبينه، أو على الأقل بين جيلي وبينه. بين جيل شبّ ليجده رئيسًا لجهاز الرقابة، بكل ما تحمله الكلمة من دلالات سيئة تشكل وعينا مقرونًا برفضها ومعاداتها، ثم كان من حسن الحظ أن تعرفنا عليه، واقتربنا منه، نهلنا من خبرته الواسعة بالفن والحياة، ففهمنا من خلالها -ضمنيًا وبالتجربة العملية- أن الواقع يختلف كثيرًا عن أحادية النظرة المراهقة، وأن التجربة البشرية أعقد من وضعها تحت أي تصنيفات، وأن أشخاصًا مثل علي أبو شادي أكبر من القوالب والتصورات المسبقة، تحتاج فقط أن تنال فرصة للاقتراب منهم كي يتغير الكثير في رؤيتك للحياة بأكملها.

البداية.. عن فن اللوم

علاقتي بعلي أبو شادي بدأت بالفعل قبل أي لقاء فعلي، بتصرف متسرع وليد المرحلة، حين دُعيت لأول دورة تقام من مهرجان الإسماعيلية بعد حقبة طويلة من رئاسته للمهرجان، صنع الإسماعيلية خلالها سمعته الدولية كواحدٍ من أهم مهرجانات الأفلام الوثائقية والقصيرة في المنطقة. باندفاع المبتدئ المُنتشي بدعوته لأول مهرجان خارج العاصمة، والمتفاعل مع مرحلة كان الاتجاه السائد فيها هو رفض كل قديم وإلحاق الاتهامات به، كتبت مشيدًا بتخلص المهرجان من تراثه القديم، وكأن الإسماعيلية يبدأ مع تمكني من حضوره للمرة الأولى!

 

أنظر الآن لما كتبته فأجد فيه الكثير من الاجتراء على حقبة لم أعشها ولا أملك ما يكفي من الخبرات لتقييمها وإصدار الحكم عليها. تصرف لو أقدم عليه شخص الآن مع عمل قمت به -بخبرتي التي لا تتجاوز كسرًا عشريًا من خبرته- لغضبت في الأغلب من كاتبه، أو لتجاهلته على الأقل متظاهرًا بأن ما كتبه لا يهم ولم يصلني.

لكن علي لم يفعل ذلك، وعندما تقابلنا بعد قرابة الثلاثة أشهر في صف استلام مطبوعات مهرجان الإسكندرية وجدته يسألني بودٍ: “أنت أحمد شوقي؟”، وعندما رددت بالإيجاب قال لي مُرحبًا: “أنت بتكتب كويس جدًا”، ثم استطرد ضاحكًا: “بس لسانك طويل”. ضحكت وافترضت أنه يقصد تعليقًا ما على مواقع التواصل الاجتماعي، لأقضي أسبوع المهرجان في صحبته. أيام ممتعة لا تُنسى، زاخرة بالأحاديث والنقاشات والبهجة، فاجئني في نهايتها بلوم مشبع بالحب أن ما كتبته آلمه، ليس بسبب الانتقاد الذي اعتاد عليه، لكنه لأنه أتى من كاتب لم يعش الدورات التي هاجمها، وأنه كان يستحق أن أسأله عن رأيه إذا ما أردت أن أقارن دوراته بما جرى بعدها.

 

كان هذا أول درس تلقيته من علي أبو شادي بطريقته الخاصة، بفيض من المحبة والاحتضان والتفهم لاندفاع الشباب، وبفهم عميق أن نفس الموقف قد ينتهي بك وقد كسبت عدوًا أزليًا، أو تساميت على غضبك فكسبت صديقًا يدرك قدرك الإنساني للأبد.

الصداقة.. عن الأبوة والبنوة المدّعاة

جرت هذه الواقعة في خريف 2012، ومن وقتها وحتى رحيله بعد قرابة الست سنوات صار علي أبو شادي جزءًا رئيسيًا من حياتي اليومية. رسائل ونكات متبادلة، أحاديث هاتفية يتجاوز كل منها الساعة، خروج وسهر وسفر لا ينقطع، وجدل وشد وجذب لا يتوقف كذلك.

في وسط الحديث اتهمه وجيله بتسييس السينما، وبأنهم رسخوا مفاهيم خاطئة، ومنحوا القيمة ونفوها عن مخرجين فقط بسبب مواقفهم السياسية وموضوعات أفلامهم، فيرد ويتهمني بأنني أفسر الماضي بمعايير الحاضر، ولا يمكنني فهم اللحظة التاريخية التي كوّن بنو جيله خلالها فهمهم للسينما. أخبره أنه ينتمي لجيل محظوظ لم يسبقه من ماضي الفن السابع إلا القليل، فكان بإمكانهم متابعة تطور هذا الفن وبزوغ أساطيره لحظة بلحظة، فيرد بأنهم كانوا يُرهَقون لمشاهدة فيلم واحد، وينتظرون من يعرف اللغة ليقف فيترجم لهم بعض كلمات الحوار شفاهيًا، على عكس جيلنا الذي يمتلك فرص مشاهدة أي فيلم في التاريخ داخل بيته لكنه يتكاسل.

 

أتأمل تلك الصداقة الآن من بُعد فتبدو كأنها صورة لعلاقة أبوّة/ بنوّة ما، وهو ما يثير الفضول أكثر، فعلاقتي بأبي رائعة، وعلاقة علي بأبنائه أروع، وكذا علاقته بعشرات التلاميذ الذين عرفوه واقتربوا منه. لم يكن أيّ منّا يُفتش عن صورة أب أو ابن مفقودة، فلماذا وجدنا أنفسنا في هذا المكان؟

ربما وجد كلً منّا في الآخر ما كان يحتاجه آنذاك. ربما وجد فيّ ابنًا مشاكسًا “طويل اللسان” بعد أن كبر ابناه وامتلكا حياتهما الخاصة. ربما وجدت فيه أبًا يشاركني اهتمامات لا يملكها والدي الفعلي. أب يمكنني أن أتحدث معه عن تاركوفسكي وخبايا المثقفين وأختلف معه عن تقييم توفيق صالح. أبي رجل عظيم لكنه لا يعرف من هو تاركوفسكي.

احتمال آخر له وجاهته هو أن يكون كل هذا هو مجرد وهمٍ بخصوصية غير حقيقية، وأن تكون قدرته الهائلة على التواصل مع الآخرين والاقتراب منهم هي من جعلتني أعتقد أني شخص مُقرب لهذه الدرجة. لكن حتى إن صحت هذه الفرضية، ستظل قدرته على تكوين هذه الروابط استثنائية. علي أبو شادي كان أكثر من قابلتهم في عالم السينما والثقافة المصرية عبقريةً على المستوى الاجتماعي.

 

القرار.. عن قيمة الرفض

لم أعرفه في موضع المسؤولية أبدًا؛ فتعارفنا جاء بعد أن ترك كل المناصب الرسمية وتفرغ للاستمتاع بالحياة والكتابة من حين لآخر (مع تجربة قصيرة للكتابة الأسبوعية لحساب صحيفة “الوطن” الجديدة آنذاك). لكني رأيت كيف تمكن عبر ما زرعه خلال سنوات عمله الحكومي من حماية نفسه من المصير المعتاد لأصحاب السلطة عندما يتركون مناصبهم. في كل مكان ذهبنا إليه معًا كان علي أبو شادي ضيفًا فوق العادة، ينال أفضل معاملة وأرفع احتفاء، سواء من المسؤولين أو من الموظفين البسطاء. أمور كهذه يصعب شراؤها أو التمتع بها ما لم تكن حقًا حصادًا لسنوات سبقتها.

أمام عيني، وعيني “ابنه الافتراضي” الآخر المخرج شريف البنداري، شاهدنا علي أبو شادي يرفض مرتين توليّ حقيبة وزارة الثقافة. سألته مستنكرًا عن السبب، متخيلًا كونها فرصة لتغيير العالم من خلال رجل تحبه ويثق فيك، فجاء الرد الذي يلخص خبرة السنين، بأنه ترك الوزارة والكل يحبه، ويعلم جيدًا أن وزير الثقافة صار منصبًا يفتقر للميزانية والسلطة الكافيين لصنع أي فارق. روى السيناريو الذي يراه: إذا ما قبلت المنصب سيسعد الجميع ويستبشرون خيرًا بوجودي، سينتظر الموظفون أن أُحسّن ظروفهم، سأحاول وأفشل، وخلال ستة أشهر فقط سيتحول كل الحب الذي أستمتع به الآن سخطًا عليّ، وبعدها عندما أترك الوزارة وأعود لأي مكان لن يقابلني من فيه بنفس الحفاوة التي امتلكها الآن بالفعل.

 

كيف يمكن ألا تقع في غرام عقل كهذا؟ يعي حجمه في العالم ويدرك ما يمتلكه بالفعل وما يمكن أن يخسره، لا تغريه الفرصة ولا يتحمس دون تفكير وتحليل، ويمتلك قوة الرفض والترفع. درس أتمنى أن أتمكن يومًا من تطبيقه عمليًا، ككثير من الدروس الذي كلما تذكرت أحدها شعرت بالامتنان لهذا الرجل الفريد.

الكثير والكثير يمكن أن استرجعه عن علي أبو شادي، الذي تعمدت طيلة المقال أن اذكر اسمه دون ألقاب، وهو الأستاذ علي، الناقد والمؤرخ الكبير، الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة ورئيس الرقابة والمركز القومي للسينما وقطاع الإنتاج الثقافي وغيرها من المناصب والألقاب التي لا تنتهي، لكنها كلها أمور مضت إلى سبيلها وبقي علي، الصديق والأب والمعلم الذي لازلت ألوم نفسي أنني لم أحزن عليه كما ينبغي.