قبل أيام كنت في زيارة إلى معرض أبوظبي للكتاب للاحتفاء بمولانا نجيب محفوظ. وانتابتني تلك المشاعر التي أعيها جيدًا ليلة كل سفر؛ يلح علي الموت بشدة. أليس الموت كالسفر انتقال من حال إلى حال، فمن يضمن لي أن تعود إليّ حياتي السابقة وأعرفها وتعرفني؟
ابتسامة بوذا
تذكرتُ روايتي “ابتسامة بوذا” وهي رواية عن الحياة لا الموت. بطلها “مار” سافر أيضًا إلى أبوظبي، ثم انتبه أنه يخوض رحلة غرائبية سقطت فيها كل المفاهيم التي عاش على أساسها، سقطت حياته التي عاشها بكيفيات معينة، انتقل إلى حياة أخرى لا يعيها جيدًا ولا يفهم شروطها. ألا يحدث ذلك في أحلامنا وكوابيسنا وأوهامنا؟
حدّق “مار” في الموت وزار قبور موتى “الفندق”. حدق في السفر. إلا أنه لم يع جيدًا فكرة “الانتقال”. ربما كانت لنا كينونة لا نعرفها قبل أن نتشكل أجنة في أرحام أمهاتنا؟ ربما سوف ننتقل إلى حياة سهلة ومدهشة، كما انتقل مار ببساطة من حياة بائسة في القاهرة إلى حياة لذيذة وغرائبية في أحد فنادق أبوظبي؟ ربما لدى كل منا أشباه ونسخ في أكوان موازية. وكل ما نسميه “الموت” ليس سوى سفر الأرواح بين الأكوان.
اتصلتُ بابنتي وابني كي نقضي وقتًا طيبًا معًا نأكل ونشرب ونضحك. عشتُ معهما لحظة حب. وقلتُ في سري بهدوء: “أنا جاهز يارب للانتقال. إذا كانت لحظة انتقالي قد حانت”. زاد ارتباكي حين حذرني ابني من قيادة سيارتي فجرًا إلى المطار. لا بأس.. يكفيني أن آخر ما عشتُه لحظات طيبة مع أولادي.
لم تسقط الطائرة فوق البحر ولا غاصت في رمال الصحراء. ذهبنا وعدنا في أمان الله. لكن اللافت في الرحلة ضبط رجل آسيوي يحاول سرقة رجل إفريقي. ألم يفكر للحظة أنه يمكن ضبطه؟ ألم يشعر أنه قريب من الله وهو معلق بين أرض وسماء؟
لص في الطائرة
جاء الأمن واقتادوا السارق والمسروق منه، وتذكرت مسلسلًا كوريًا شهيرًا اسمه “لعبة الحبار” احتل الأكثر مشاهدة في تسعين دولة. القصة باختزال مخل عن مجموعة رجال ونساء يعانون ضائقة مالية ويوافقون على المشاركة في “لعبة الحبار”، مقابل جائزة مغرية تقدر بملايين الدولارات. المشكلة أن اللعبة لا تكتفي بالخسارة وخروج المغلوب، بل لابد من موت المهزومين. فالجائزة من نصيب فائز واحد.. آخر حي.
من منا لا يعاني “ضائقة مالية” مثل لص الطائرة؟ أو يشعر بأن حذاءه ضيق عما يجب.. دنياه أقل من أحلامه؟ من منا لا يرغب في كسب ملايين الدولارات وشراء يخت والزواج من مونيكا بيولوتشي أو جورج كلوني؟
هل السعادة حقًا في ربح ملايين الدولارات؟ هل لو انتصرت على كل منافسيك وأصبحت “الرابح الوحيد الأخير” هل ستكون حقًا سعيدًا وراضيًا ومطمئنًا؟
ألا يقيم المسلسل معادلة مراوغة ومضللة، وهي أن الإنسان مستعد لأن يموت في سبيل “الحصول على ثروة”! برغم أنه لا قيمة لثروة لشخص “ميت”!
نجح المسلسل لأنه استند على أقوى غريزتين تحركان النفس البشرية؛ غريزة التدمير والتخلص من المنافسين. فنحن نستحق أن نتنفس الحياة أكثر منهم، وهي نفسها غريزة الطمع. نريد الدولارات لأنفسنا والحسناوت والسيارات واليخوت. الحياة كلها لنا، والموت من نصيب الآخر.
أما الغريزة الأخرى فهي غريزة الحياة أو البقاء. ربما خوفي من الطائرة والسفر مرده إلى تلك الغريزة، شعور الاطمئنان بأن قدميك تسيران على الأرض التي تألفها. فنحن نتشبث تشبثًا مرعبًا وبأي ثمن بالبقاء، نحتال كي يسبقنا الجميع إلى الموت ولو بخطوة كما فعل أبطال المسلسل، حتى الغريق لا يمتن لمن ينقذه بل يُغرقه معه كي ينجو فوق رأسه.
الحياة ضربة حظ
ربما ليست ميزة أنني سافرتُ وعدتً سالمًا، ربما هي ضربة حظ أنني “حي بين أموات”، لطف الله، أو مكر القدر، لأن ساعتي لم تحن بعد.
حياتي معجزة لا شك. تفضل عليّ من قدر لا يرحم ولا يمنح صك الخلود لأحد. وقد ورد في الأثر أن رجلًا فزع من ملاك الموت، فدخل على سليمان الحكيم وقال له: “يا نبي الله.. أسألك بالله أن تسخر لي الريح كي تحملني إلى أبعد مكان في الهند”.. ففعل.
وعندما زار ملاك الموت النبي سأله باسمًا: لماذا أفزعت صاحبي بالأمس وكنت تحد النظر إليه؟ فقال ملاك الموت: يا نبي الله إنني دخلت عليه في الضحى، وقد أمرني الله أن أقبض روحه بعد الظهر في الهند فتعجبت أنه عندك.. فقال سليمان: وماذا فعلت؟ أجاب ملاك الموت: ذهبت إلى المكان الذي أُمرت بقبض روحه فيه.. فوجدته ينتظرني فقبضت روحه”.
يشبه ذلك قصة المرأة التي ذهبت إلى بوذا تستعطفه كي يعيد إليها طفلها الذي خطفه الموت منها. إيمانًا منها بأن المعجزات قد تحدث.. فطيب بوذا خاطرها وقال إنه مستعد أن يعيد ابنها الموت شريطة أن تأتي إليه بحبة خردل من بيت ليس به ميت!
جري الوحوش
ألا يردعنا التفكر في الموت عن السرقة والطمع؟ ألا تخبرنا به الأمثال الشعبية “اجري يا ابن آدم جري الوحوش غير رزقك لم تحوش”؟ فحتى هذا الرزق الذي تحوزه سوف يتركك وحدك في ظلمة القبر. وفي لحظاتك الأخيرة ستدرك معنى أن الدنيا مثل حلم قصير. فما جدوى الثراء والمناصب والأولاد إذا كان كل شيء إلى زوال؟
ألا تخبرنا الآية بتلك الحقيقة “أينما تكونوا يدرككم الموت”؟ والإدراك يعني أن الموت لا يجري خلفنا وإنما يحيط بنا من كل جانب. يدركنا من الخلف ومن الأمام. و من أعلى وأسفل، بل نحن نسعى إليه على أقدامنا.
لا أحب كلمة “الموت” ليس جزعًا منها وإنما لأنها لا تكفي لتفسير كل هذا الصمت المرعب للأبدية. وبرغم كرهي لها أرغب في التحديق داخل كل احتمال لها.
وأحب هذا التصور أن “اليوم” الذي أحياه هدية. ليس فقط هدية وإنما ميلاد جديد. لقد وهبتُ يوما آخر، فرصة للسعادة والحب. فالحياة هبة متجددة، وفي كل لحظة تولد وتموت فينا أشياء. يموت بشر بالموت، والنسيان، والبعد والجفاء. تموت مشاعر وأفكار، وجينات. نحن في صيرورة تشكلها ضفيرة موت وحياة في كل لحظة.
نتدافع نحن البشر بقوة الغريزتين: غريزة الموت والتدمير والطمع، وغريزة الحياة والبقاء. نردد النشيدين معنا. مثلما يرددهما معنا المغنون الحزانى والعصافير والذئاب والفئران البيضاء ووزهور البساتين وأمواج النهر.
الخلاص بالحب
كنت أتحدث مع صديقة عن “الأديان” فقلتُ لها إنها جميعًا تتلخص في “الحب”؛ حب اللحظة التي نعيشها، حب الوجود كله من حولنا، حب الآخرين مثلما نحب أنفسنا. عبر الحب نخرج من الطمع والتدمير الذي حول كل أبطال المسلسل إلى ضحايا بائسين.. وإن لم نبلغ السعادة فعلى الأقل نكف الناس عن شرورنا وآذانا.
وإذا لم تصل بنا الأديان إلى “الحب” فلا قيمة لصلوات وأدعية ومناسك، لأن الحب يحررنا من عماء الغريزتين معًا. لستُ متأكدًا من الحياة، ولا الانتقال إلى ما بعدها. لذلك أنشغل بيومي باعتباره “هدية” أخيرة بلا أي امتداد زمني.. قد تكون حقًا هذه آخر أربعة وعشرين ساعة في حياتي. ثم سوف أنتقل، إلى قبر أو فندق مثل مار -لا يهم- المهم أنه سيكون الانتقال لطيفًا طالما كنا أمس لطفاء.
لا أفكر في نفسي كمستحق للحياة أكثر من غيري، ولا مستحق للموت بالضرورة، بل أفكر في نفسي كإنسان “ممتن” لأنني عشت وعايشت ورأيت وعاينت وصنعت “الحب” خلال رحلتي. فشلت وحاولت، واعتزلت كل “ألعاب الحبار” أملًا أن يأتي الانتقال لطيفًا وعلى الوجه ابتسامة حب وسعادة بحجم “ابتسامة بوذا”.