أتذكر جيدًا أن أول درس قُدِم لنا في مقرر منهج البحث التاريخي كان يتمحور حول التاريخ وكونه “علم الماضي”. وعرج أستاذنا إلى التأكيد على مقولة إن المؤرخ مثل القاضي مهمته الفصل في الوقائع، من هنا لا بُد من توافر فاصل بين زمن المؤرخ والزمن التاريخي الذي يبحثه؛ من ناحية حتى يتم توافر مصادر ووثائق تاريخية كافية، ومن ناحية أخرى حتى يتوافر الفاصل الزمني الذي يجعل المؤرخ ينظر في الوقائع دون عاطفة، وبلا تأثر بالأحداث، حتى تتسم رؤية المؤرخ بالموضوعية.
أسئلة ما بعد الحداثة
لكن هذا التصور لطبيعة عمل المؤرخ ومهامه، والمادة التاريخية التي يعتمد عليها تعرض في العقود الأخيرة لسهام النقد الحاد، ولم يصمد كثيرًا أمام أسئلة ما بعد الحداثة. فلم يعد يُنظَر إلى المؤرخ بصفته “القاضي” الذي يفصل في الوقائع التاريخية ويُصدِر حكمه؛ إذ تبين أن ما يقدمه المؤرخ ليس هو القول الفصل في الأحداث التاريخية، وإنما هي محاولته في استعادة الماضي، وتقديم رؤيته في هذه الأحداث. وربما يتضح ذلك في المثال الذي أحاول دائمًا طرحه على طلابي: ماذا لو طلبنا من مؤرخ فلسطيني، ومؤرخ إسرائيلي، ومؤرخ أمريكي، ومؤرخ هندي، ومؤرخ جنوب أفريقي الكتابة عن المسألة الفلسطينية؟ وفقًا لنظرية أن المؤرخ مثل القاضي، لا بُد أن تكون الرؤية واحدة، وهذا ما لن يحدث، لأننا في حقيقة الأمر سنجد أنفسنا أمام كتابات مختلفة، تقدم رؤى متعددة.
أدت سرعة وتطور الأحداث وسخونتها إلى اهتمام المؤرخين بالحاضر، لا سيما بعد أن مرت البشرية بأحداث مهمة وخطيرة، وغير مسبوقة مثل الحربين العالميتين، هذا فضلاً عن أحداث الحرب الباردة. يُضاف إلى ذلك التطور المهم في أساليب تغطية الفضائيات للأحداث
الأمر الآخر هو الفاصل الزمني بين زمن المؤرخ وزمن الحدث محل الدراسة، من أجل توفر قدر من الموضوعية، لم يصمد أيضًا هذا الطرح، فما زلنا حتى الآن نختلف في رؤيتنا حول محمد عليّ رغم مرور عشرات السنين على وفاته، بل ونختلف -وأحيانًا نشتبك- حول تاريخ صلاح الدين الأيوبي، رغم مرور مئات السنين على انتهاء دوره التاريخي، وبالتالي أين الموضوعية؟ وما علاقتها بالفاصل الزمني؟
أما عن فكرة الفاصل الزمني من أجل توافر وثائق ومصادر تاريخية كافية، فقد سقطت بشدة للعديد من الأسباب، ربما يأتي على رأسها سرعة الكشف عن المعلومات والوثائق، لا سيما في الدول الغربية، على عكس الحال في الشرق، حيث تتعثر بشدة مسألة الإفراج عن الوثائق. كما ثبت أنه هناك وثائق مهمة وحيوية لا يتم الإفراج عنها أبدًا سواء في الشرق أو الغرب لأسباب تتعلق بالأمن القومي. الأمر الأكثر أهمية هو ظهور أنواع جديدة من الوثائق والمصادر التاريخية المتوافرة، والتي تساعد المؤرخ على كتابة تاريخ الحاضر، ويأتي في مقدمتها الوسائل السمعية والبصرية، والتي بدأ العمل عليها مبكرًا في الغرب، مثل: الملصقات والنشرات والصور وبرامج الإذاعة، والأشرطة المصورة، التي استخدمها الحلفاء ودول المحور أثناء الحرب العالمية الثانية.
وأدت سرعة وتطور الأحداث وسخونتها إلى اهتمام المؤرخين بالحاضر، لا سيما بعد أن مرت البشرية بأحداث مهمة وخطيرة، وغير مسبوقة مثل الحربين العالميتين، هذا فضلاً عن أحداث الحرب الباردة. يُضاف إلى ذلك التطور المهم في أساليب تغطية الفضائيات للأحداث، فضلاً عن الدور غير المسبوق لوسائل التواصل الاجتماعي.
المهمة الأساسية للمؤرخ
دفعت كل هذه العوامل المؤرخ للعودة من جديد إلى عمله الأصلي الذي دأب عليه منذ معرفة الإنسان للكتابة، وهو كتابة تاريخ الحاضر، وهي المهمة الأساسية للمؤرخ، والتي توقفت للأسف مع بدء الدراسات التاريخية في الأكاديميات الجامعية تحت مقولة إن التاريخ هو علم الماضي، وأن المؤرخ يكتب عن الماضي، في محاولة لعدم تورط المؤرخ في أحداث الحاضر.
من هنا بدأ ما يُعرف بتاريخ الحاضر، أو تاريخ الزمن الراهن، أو التاريخ الآني. ويشير بعض المؤرخين إلى أهمية الفضائيات في الدفع إلى ضرورة كتابة تاريخ الحاضر، بل وخلق ذائقة جديدة لدى الناس للتعرف على تاريخ الحاضر: “انتاب المشاهدين المتابعين إحساس بأنهم يشاهدون الراهن وهو يتحول أمام عيونهم إلى تاريخ، هكذا حوّل سلطان الصورة الثورة إلى فُرجة، والحرب الأهلية إلى فُرجة، والاحتجاجات السلمية إلى فُرجة، كما سبق له فعل ذلك مع سقوط جدار برلين، واحتجاجات ساحة تيان آن مان، وحوادث 11 سبتمبر 2001، وحرب العراق”.
وسيساعد تطور الصحافة على الاقتراب أكثر وأكثر إلى تناول تاريخ الحاضر، وسيصف البعض الصحفي بأنه مؤرخ اللحظة الحاضرة، وسيقترب عمل المؤرخ المحترف من هذا المجال بشدة، وسيؤدي ذلك إلى تغيرات منهجية في تناول الصحفي لتاريخ الحاضر. ويصف المؤرخ الكبير هرنشو ذلك قائلاً: “إن التاريخ وحده هو القادر على أن يضع ظواهر الحاضر في وضعها الصحيح، والتاريخ وحده القادر على أن يجلو لعين الباحث ميدان الحياة كاملاً غير منقوص”.
ويرى المؤرخ التونسي فتحي ليسير أن المناقشات حول حدود مفهوم تاريخ الزمن الراهن وتدقيق ماهيته قد بدأت بصفة جدية في نهايات سبعينات القرن الماضي.
ومهما يكن من رفض البعض لهذا الاتجاه نحو كتابة تاريخ الحاضر، ووصفه بعدم الموضوعية، فإن تاريخ الحاضر أصبح يُدَرَّس بجدية في معظم الجامعات الغربية الكبرى، من أجل تجسير الهوة بين الماضي والحاضر.