(1)
فوق سرير المراهقة تزيّنت الحوائط بمجموعة متباينة الأحجام والأشكال من ملصقات الشباب الخمسة، في كل صورة أزياء صاخبة وتصفيفات شعر تتجاوز الواقع في إحكامها، لا خصلة نافرة ولا شعيرات تبرز لتُفسد اكتمال الصورة البرّاقة. موسيقاهم تعلو من شرائط كاسيت تحمل علامة “ميراج” التي يدمنها كل محب للموسيقى الغربية، ومن أسطوانات ليزر منسوخة كانت الوسيلة الأحدث التي وصلت للتو إلى مدن دلتا النيل المصري.
المنطق يقول بأن تنسخ الأغنيات على الأسطوانة بصيغة mp4 التي تسمح باستغلال المساحة في تخزين المزيد من الأغنيات والأفلام، لكنك تصمم على نسخها في صورة تراكات صوتية Audio Tracks لتوهم نفسك بامتلاك النسخة الأصلية، بينما لا فارق جوهري بين جودة الصيغتين طالما الأصل أغنية مسروقة محملة من على شبكة الإنترنت. قبل أن يظهر مفهوم القرصنة ويضيّق أصحاب الحقوق الخناق حتى لا يسمع مراهق أغنية أو يشاهد فيلمًا دون أن يدفع تكاليفه، كان الإنترنت مساحة هائلة للاكتشاف لا يعوقها سوى سرعة التحميل.
اختيار المراهقة المثالي
كان “باك ستريت بويز Backstreet Boys” اختيارًا مثاليًا لمن عاش مراهقته في نهاية التسعينات ومطلع الألفية. ليسوا بشطط مايكل جاكسون الذي كان المرء في حاجة لدخول جدل لا ينتهي حول رقصه وخنوثته ولون بشرته وأساطير تصريحه بأنه لم يكن ليغني لو عرف أن العرب سيسمعونه يومًا، كان الإعلان عن محبة مايكل وتعليق صوره يحتاج قدرًا من النضال لم أتمتع أبدًا به.
في الوقت نفسه، لم يكن الأولاد مملي المظهر مثل فرق البوب الأيرلندية “بوي زون Boyzone” و”ويست لايف Westlife”. كان بإمكانك أن تسمع تلك الفرق وتبدي إعجابك بأغنياتهم، لكنك لن تجد صخب المظهر البرّاق الذي ميّز أبناء مدينة أورلاندو الخمسة. لم ينافسهم في تلك المساحة التي تضرب تحديدًا على نغمة أحلام المراهقة سوى أبناء بلدتهم “إن سينك NSYNC”، الذين ظهروا بعدهم ليقاسموهم قلوبنا الصغيرة.
الأمر ليس رصينًا بما يكفي، وربما من الأوجَه الزعم بأنني لم أتم السادسة عشر إلا بعد أن صارت أعمال باخ وتشايكوفسكي مكوّنا رئيسيًا في ثقافتي الموسيقية، لكن الحقيقة أيضًا لها وجاهتها: أنا ابن جيلٍ كان “باك ستريت بويز” هم أبطاله الخارقين موسيقيًا.
(2)
جيش باك ستريت بويز
بالصدفة وجدت الكتاب التذكاري الصادر في مطلع 2023 بمناسبة الاحتفال بثلاثين عامًا على تأسيس الفريق الذي توقفت عن متابعته منذ ما يزيد عن العقد. اقتنيت الكتاب من باب استرجاع الذكريات ومعرفة ما فاتني من أخبار الخماسي الذي كان آخر ما تابعته عنهم انفصال أحدهم (كيفِن) ودخول آخر إلى مصحة للعلاج من إدمان المخدرات والكحول (إيه جيه). أجّلت تصفح الكتاب عدة أشهر وعندما بدأته وجدتني التهم صفحاته العديدة في وقت قياسي.
ماذا لو أراد مُحب أو كاتب أو باحث أن يقوم بجهد مماثل لرصد مسيرة عمرو دياب، أو محمد منير، أو أي موسيقى ممن بدأوا مسيرتهم في فترات مقاربة وصاروا مع الوقت أيقوناتٍ فنية وثقافية؟ هل سنجد في أرشيفنا الرسمي والصحفي والشعبي أكثر من حوارات ساذجة، وتراشقات لفظية، وأحاديث عن الأغنية الشبابية “الهبابية”؟
قبل القفز لاستنتاجات حالمة كامتلاك الكتاب رؤية ثاقبة أو وجهة نظر أعادت تفسير العالم الموسيقي لي، يجب القول بأن هذا كتاب دعائي بحت، من تأليف كاتبتين من المحبين المخلصين للفريق، والذين يسمّون أنفسهم “جيش باك ستريت بويز”، تمتلئ صفحات الفواصل فيه بشهادات من محبات مماثلات، كلهن من النساء لسبب غير مفهوم، عن علاقتهن الممتدة بالخُماسي الذين ارتبطوا بكل ذكرى في حياتهن وشاركوهن لحظات الفرح والتعاسة.
الكتاب يرى “باك ستريت بويز” بعينيّ المحب، يغفر هفواتهم ويبرر عثراتهم، أو على الأقل يتفهمها، وتكاد الرؤية النقدية تغيب عنه عدا اقتباسات قليلة من بعض المراجعات السلبية عن بعض الأعمال. فلماذا إذن يُمكن قراءة كتاب كهذا بنهم؟ ولماذا يستحق أن أكتب عنه هذه السطور؟
أسباب موضوعية
هناك ثلاثة أسباب، سنبدأ بأولها وهو قيمة تأريخ الثقافة الشعبية. يرصد الكتاب بدقة بالغة كل شيء في مسيرة الفريق، منذ أن نُشر خبر صغير في صحيفة محلية في أورلاندو عام 1992 يبحث عن مراهقين موهوبين يمكنهم الغناء والرقص بهدف تكوين فريق غنائي شبابي، حتى صار هؤلاء المراهقون كهولًا فوق الأربعين.
كل حفل موّثق بالصور وأهم الأحداث وما أداه الفريق من أغنيات، كل ألبوم وأغنية هناك سُبُل لرصد جماهيريتها وما حققته من نجاح، كم اسطوانة بيعت، كم كان ترتيب الأغنية ضمن رغبات مستمعي الإذاعة، أي دول كان التوزيع فيها أعلى من الأخرى.
باختصار هناك تاريخ موثق بدقة مدهشة، لفريق ينتمي لمساحة فنية لطالما اعتبرتها الثقافة الموسيقية فنًا شعبيًا محدود القيمة. لكن الأرقام لا تعرف الأحكام القيمية، وكذا التاريخ.
السؤال الذي يُسيطر على العقل خلال قراءة الكتاب هو: ماذا لو أراد مُحب أو كاتب أو باحث أن يقوم بجهد مماثل لرصد مسيرة عمرو دياب، أو محمد منير، أو أي موسيقى ممن بدأوا مسيرتهم في فترات مقاربة وصاروا مع الوقت أيقوناتٍ فنية وثقافية؟ هل سنجد في أرشيفنا الرسمي والصحفي والشعبي أكثر من حوارات ساذجة، وتراشقات لفظية، وأحاديث عن الأغنية الشبابية “الهبابية”؟ هل لدينا وسيلة نعرف بها حقًا كم نسخة وزعها “نور العين” أو “سحراني” أو أي ألبوم آخر يعرف كل من عاش وقت صدوره كم كان حدثًا مدويًا في الثقافة الشعبية؟ الإجابة المؤسفة هي بالقطع لا.
يغني باك ستريت بويز الآن أغنيات أهدأ وأعمق، يعبرون عن مشاعر رجال صاروا آباءً، يجربون موسيقى الكانتري country ويصدرون ألبومًا لأغاني عيد الميلاد. يفعلون ذلك بانفتاح من يُقدر حياته وما فيها من تقلبات ومراحل. هذا سبب ثان للإعجاب بالكتاب
(3)
حقيقة فريدة
أول حقيقة يصدمك بها الكتاب إن كنت لا تعرف “باك ستريت بويز”، أو كنت تعرفهم ثم انقطعت عن متابعتهم مثلي، هي أن الفريق لم ينفصل أبدًا منذ تأسيسه في مطلع التسعينات. شهد لحظات نجاح أسطوري وأوقات تراجع واضح، انفصل عنه أحد الأعضاء أربع سنوات ثم قرر العودة، اختلف أعضاؤه وقاد نمط الحياة بعضهم لمصحات الإدمان، لكنهم لم يعلنوا أبدًا الانفصال ولم يتوقفوا عن العمل كمجموعة، وهو أمر نادر الحدوث في تاريخ الفرق الفنية، التي تقول القاعدة إنه كلما زاد قدر نجاحها كلما زادت فرص أعضاء الفريق في إيجاد أسباب للانفصال، وهو مالم يحدث لسبب ما مع باك ستريت بويز.
عندما تقرأ مسيرتهم التي يرصدها الكتاب باهتمام، وتلاحظ ما بين السطور والأرقام، يُمكنك أن تضع يدك على أن كلمة السر في هذا الاستمرار هو القدرة على التصالح مع أن زمنك قد ولّى، وفهم أنك لم تعد تحقق نفس النجاح الهائل وتبيع مئات الملايين من النسخ ليس لأن رفاقك قد خذولك ولم يعودوا قادرين على الاختيار السليم، وليس لأن هناك خططا خبيثة ضدك تهدف لإيقاعك، وإنما ببساطة لأن هذه هي طبيعة الحياة: أن تنجح فترة لأنك على نغمة الجمهور ثم تتغير النغمة لتتغير بوصلة النجاح الساحق والشعبية الطاغية.
تصالح
يُسفر هذا التغيير عادةً عن حالات إنكار ورفض واتهامات متبادلة، لكنه في حالتنا ولسبب ما تطور في صورة تصالح مع الوضع، انفتاح على التعاون مع فنانين شباب من أجيال أحدث، تغيير في نمط الجولات الموسيقية، فبعد ما تم الترويج لألبوهم الأشهر “ميلينيوم Millenium” عبر جولة مذهلة مدتها عشر شهور متواصلة غنى الفريق فيها 123 ليلة في 84 مدينة حول العالم بين عامي 1999 و2000، صار أعضاء باك ستريت بويز في عمر وحجم نجاح لا يسمح بمثل هذه الجولات، فاستعاضوا عنها بحفلات أصغر، وبفكرة الإقامة الفنية في لاس فيجاس، يعيشون في مكان واحد لفترة من الزمن ويزورهم المحبون لحضور الحفلات والتقاط الصور معهم.
قد يرى البعض من ذلك انتقاصًا من القيمة، بينما وجدته تصالحًا مبهرًا مع حقائق كالعمر والشعبية، وكذا اعترافهم الموّثق في الكتاب بأنهم يدركون جيدًا أن أغنياتهم الأولى كانت رومانسية ساذجة تُخاطب المراهقين الذين كانوا مثلهم، وإن من البلاهة الاعتقاد أن تقديم نفس نوع الغناء سينجح في شيء بخلاف إظهارهم بشكل سيئ. يغني باك ستريت بويز الآن أغنيات أهدأ وأعمق، يعبرون عن مشاعر رجال صاروا آباءً، يجربون موسيقى الكانتري country ويصدرون ألبومًا لأغاني عيد الميلاد. يفعلون ذلك بانفتاح من يُقدر حياته وما فيها من تقلبات ومراحل. هذا سبب ثان للإعجاب بالكتاب.
(4)
لحظات من النشوة
هل خضت خلال السنوات الأخيرة تجربة حضور حفل لعلي الحجار؟ لو كانت الإجابة نعم فستعلم بالتأكيد ما أقصده، لو كانت الإجابة لا فيُمكن مساعدتك لتصور المشهد: قاعات صغيرة نسبيًا كقاعة إيوارت أو مسرح ساقية الصاوي، جمهور بالمئات وليس بالآلاف، وجوه مألوفة تعرف بعضها البعض، جاءت كلها من أجل مشاركة لحظات من النشوة بالاستماع للمطرب المُفضل.
عندما أنظر حولي يفاجئني كوني – بسنواتي الأربعين – قد أكون أصغر الحاضرين سنًا، رجال ونساء بين الأربعينيات والستينيات من عمرهم، يظللهم الوقار المُلحق بالعمر، لو شاهدتهم في حياتهم اليومية سيكون من المستحيل تصور أن نفس الرجل ستنزل دموعه أو السيدة ستصرخ طالبة أغنية بعينها من الحجار ليغنيها لها. لكنهم يفعلونها بانفتاح، ويخلقون شحنة من المحبة يتشاركونها بينهم، أزعم أن من الصعب الشعور بها في حفل ضخم من الذي يحضره عشرات الآلاف.
في الأغلب لن يشاركني الرأي شاب في العشرين، سيجد الحفل مملًا والوصف مبالغًا فيه، وأن الطاقة الهائلة التي يشاركها أقرانه عندما يحضرون أفواجًا لسماع ويجز يستحيل مقارنتها بعدة مئات من الكهول يسمعون الموسيقى جلوسًا. رأي الشاب صحيح بالطبع لأن هذا ما يشعر به، مثلما كنا نشعر ونحن نسمع منير وعمرو دياب ونستغرب عدم إعجاب الآباء بهم وتحسرهم على زمن الفن الجميل.
هذا هو السبب الثالث والأهم للإعجاب بكتاب ثلاثينية تأسيس باك ستريت بويز، إنه يُخبرنا كم كبرنا، وكيف مر بنا العمر لنصير آباءنا، نكرر نفس المشاعر ونمتلك نفس الحنين للماضي، ونسعد بلحظات نحاول فيها أن نوهم أنفسنا بالإمساك بلحظة تشبه شعورنا قبل عقدين أو ثلاثة. تمامًا كما استمتع المراهق الذي صار في الأربعين بقراءة سيرة من كان يعلق صورهم على حائطه.