أحدث الحكايا

د. أيمن بكر يحكي عن العودة إلى الغابة: ما بعد الرأسمالية المتوحشة

اتصل بي صاحبي وهو منزعج:

هل رأيت ما حدث؟! الهجوم سيعرض الفلسطينيين لرد فعل انتقامي رهيب من الكيان الصهيوني.

– نعم لكن في الوقت نفسه سيجعل القضية تتصدر الأخبار والوعي العالميين، وسيعيد على طاولة التفاوض حل الدولتين الذي مات سريريا.

سألني وقد هدأ انزعاجه وحلت بدلا منه نبرة تساؤل:

هل توافق إذن على ما فعلته حماس؟

– ليس هذا هو السؤال الأهم الآن، فمهمتي ليس المباركة أو الإدانة، وإنما الفهم؛ لقد دانت الأرض للكيان كثمرة من ثمرات الضعف العربي، والنفعية الرأسمالية المتوحشة التي جعلت اللوبي الصهيوني يمسك بتلابيب القرار الاقتصادي/السياسي في العالم الغربي المتخلف إنسانيا. لقد تبددت أوهام قوة غير حقيقية، بعد أن تعرت أساطير الكيان عن نفسه، يا صاحبي نحن نعيش بدايات تحول كبير ليس فقط في الشرق الأوسط، ولكن على مستوى العالم.

ما سبق كان جزءا من حوار دار بيني وبين الصديق الشاعر محمد توفيق بعد ساعات قليلة من عملية حماس في السابع من أكتوبر ٢٠٢٣.

نهاية العالم في غزة".. عناوين تصدرت الصفحات الأولى لأشهر الصحف العالمية (صور) - RT Arabic
الوضع الكارثي في غزة نتيجة القصف الإسرائيلي – RT

 

-١-

إعلان مذبحة على الهواء مباشرة

الحدث معروف، ورد الفعل المتوقع كان الانتقام بصورة عنيفة حد الجنون، لكن هذه المرة جاء الانتقام الدموي مصحوبا بإعلان مدهش وصارم لا غموض فيه: سوف نقطع المياه والكهرباء والغذاء والدواء عما يزيد عن مليونين من سكان غزة. إنه إعلان مذبحة على الهواء مباشرة وقبل أن يقوم بها المجرم المتمتع بشرعية قوية مصدرها العميق -كما أدعي- قوانين الرأسمالية المتوحشة، وليس شعور الذنب/التعاطف الغربي تجاه محارق هتلر لليهود.

قصف المستشفيات في غزة

 

التفت العالم نحو الحدث بعين ناعسة ملؤها الاعتياد والملل والاهتمام المُدَّعى. أدان الغربيون هجمات حماس بقوة تساوي حجم مصالحهم مع الكيان الصهيوني والشركات المؤيدة له، وصمتوا ما أمكنهم الصمت عن إبادة جماعية تدور على الشاشات يوميا أمام أعينهم وضمائرهم النحيلة.

فصل دموي جديد من فصول التوحش الإنساني باسم الدفاع/الانتقام المشروع، قصة حزينة معادة تنبئ عن دوامة عنف لا نهائي، لكن هناك ملمحا مهما غاب في خضم الصدمة العالمية من مستوى العنف ودرجة الاستهانة بكل القيم والقوانين. يمكن أن يظهر هذا الملمح في السؤال التالي:

إلى أين أوصلتنا الرأسمالية المتوحشة وما أنتجته من عولمة شائهة تسعى لمحو الخصوصيات الثقافية؟ كيف تم تحويل العالم كله إلى سوق تنافسي خال من قيم النزاهة والتعاون والتكامل وشرف الخصومة؟ وهل نشهد الآن بسبب هذا الحدث المفاجئ تحولا في مجرى النهر نحو نظام عالمي جديد، أم ترانا سننتقل إلى فصل جديد أكثر بربرية من فصول الرأسمالية المتوحشة، يطل علينا عاريا من ادعاءات الإنسانية التي يمارسها الغرب على باقي حضارات العالم، تلك التي تفوقه إنسانية وتحضرا؟

 

سيحدث تحول في الأجنحة التي تمارس الحكم إما بتغييرها إلى أجنحة أقل انتهازية، أو بحدوث تغير داخل تلك الأجنحة التقليدية نفسها نحو مزيد من تبني القيم الإنسانية المعلنة بصورة عملية

 

-٢-

مساران لا ثالث لهما

الأسئلة السابقة يمكن التفكير فيها ضمن مسارين؛ ينطلق المسار الأول من الانتباه الجماهيري الواسع لمأساة فلسطين، وإعادة النظر الجمعية في مواقف متكلسة كانت هذه الجماهير قد اتخذتها استنادا إلى الآلة الإعلامية الغربية، دونما كبير انتباه للحقائق التاريخية، تلك الحقائق التي بدأت تصدم العوام في كل مكان في العالم، لدرجة جعلت من كل إنسان حكما في منفردا في محكمة يمكنها العودة في الزمن، تماما كما يحدث مع حكام الڤار VAR في مباريات كرة القدم.

اقرأ أيضا: 

أيمن بكر يحكي: متى يستخدم «الحكام» الـ«VAR» في الصراعات الدولية؟

 

قد يحمل هذا المسار بعض التفاؤل لمصير الجنس البشري؛ حيث يمكن معه أن نتوقع صحوة شعبية عميقة لا تقف حدودها عند الصراع الفلسطيني الصهيوني، بل تتعداه نحو تفكر الشعوب الغربية نفسها فيما تعانيه من استغلال حكوماتها التي تعمل لدى الشركات العملاقة، وتسيطر عليها رؤوس الأموال الضخمة، التي تحولت إلى آلهة صنمية كتلك التي عبدها الإنسان في فترات مبكرة من التاريخ بسذاجة واضطرار تفرضه الحاجة والطمع والخوف والاعتياد جميعا.

إنه مسار ينبئ عن تحول في الطريقة التي يتم عبرها صناعة السياسيين الغربيين؛ بمعنى أن التكتلات الانتخابية ستشهد تحولا في تقييمها لمواقف السياسيين، ونتيجة لذلك سيحدث تحول في الأجنحة التي تمارس الحكم إما بتغييرها إلى أجنحة أقل انتهازية، أو بحدوث تغير داخل تلك الأجنحة التقليدية نفسها نحو مزيد من تبني القيم الإنسانية المعلنة بصورة عملية، وهو ما يمكنه أن يحشر قدرا أكبر من تلك القيم الإنسانية ضمن سلوك الرأسمالية، التي وصلت كما أشرنا إلى مرحلة التوحش.

 

إلى أين أوصلتنا الرأسمالية المتوحشة وما أنتجته من عولمة شائهة تسعى لمحو الخصوصيات الثقافية؟ كيف تم تحويل العالم كله إلى سوق تنافسي خال من قيم النزاهة والتعاون والتكامل وشرف الخصومة؟ وهل نشهد الآن بسبب هذا الحدث المفاجئ تحولا في مجرى النهر نحو نظام عالمي جديد، أم ترانا سننتقل إلى فصل جديد أكثر بربرية من فصول الرأسمالية المتوحشة؟

 

ظروف مأساوية يعيشها النازحون في غزة | الحرة

 

المسار الثاني مظلم ومخيف؛ ويمكن تلخيصه في الإعلان عن انتصار نهائي لقيم الافتراس الرأسمالي الذي مثل الأرضية التي قام عليها العدوان الصهيوني على غزة، وهو العدوان الذي أُفضل رؤيته بوصفه نتيجة مباشرة لقوانين الرأسمالية في الفترة ما بعد الصناعية.

بعبارة أخرى يتلخص المسار الثاني في إعلان أكثر سفورا عن منطق “الحكم لمن غلب” الذي يسيطر على العلاقات الدولية، ونزع القناع عن آليات الصراع البربرية التي تحكم تنافسية رأس المال دونما أي اعتبار لقيمة إنسانية، بل ربما بالسخرية ممن يدعو إلى تلك القيم ووسمه بالمثالي الساذج.

ربما يؤدي الإعلان السابق عن منطق القوة السافر إلى انفجار سريع للصراعات حول بؤر النزاع عالميا: الصين/ تايوان، الكوريتين، الهند/باكستان حول إقليم كشمير وغيرها، وستحل مكان الهدوء السائد بين العرقيات المختلفة، حالة صراع دموي غرضه إفناء الخصم.

اجتماع مجلس الأمن الدولي حول القضية الفلسطينية يعقد يوم الجمعة - RT Arabic
اجتماع مجلس الأمن حول الأوضاع في غزة

 

المسار الفكري الثاني يقودنا إلى استنتاج مخيف: بسبب تعرية قوانين الرأسمالية من أقنعتها التجميلية يمكن أن تنفجر حالة من اللهاث نحو إنقاذ الذات بإفناء الخصم، سواء أكان خصما حقيقيا أو متوهما. سيندلع صراع هيمنة بربري أسوأ كثيرا من حالة تمدد حلف الناتو التي فجرت حرب روسيا/أوكرانيا، وربما يعود العالم حرفيا إلي الغابة. لكن لم يزل لدينا الوقت للاختيار وتوجيه دفة قطار الرأسمالية المندفع الذي تركه السائق منذ فترة طويلة.

عن د. أيمن بكر

حاصل على الدكتوراة في جامعة القاهرة، أستاذ الأدب والنقد والدراسات الثقافية في جامعة الخليج للعلوم والتكنولوجيا بالكويت. ورئيس قسم العلوم الإنسانية والاجتماعية. له عدة كتب في النقد الأدبي والثقافي منها السرد في مقامات الهمذاني (1998)، وتشكلات الوعي وجماليات القصة (2002)، وقصيدة النثر العربية (2009)، انفتاح النص النقدي، بالإضافة إلى مؤلفاته الشعرية مثل ديوان «رباعيات» بالعامية المصرية، والروائية مثل «الغابة». فاز بكر ٢٠٢١ بجائزة الشارقة لنقد الشعر العربي في دورتها الأولى عن كتاب بعنوان: الطقوسية، السردية، المبالغة، نحو نظرية للشعر العربي الحديث.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *