تأتي ليلة القدر للمحظوظين فتحقق كل أحلامهم بالثروة والنجاح. تخيلتها دائمًا امراة أربعينية، بدرية الوجه، زرقاء العينين، معتدلة القوام، طيبة الابتسامة، ملائكية الملامح، باختصار؛ تخيلتها كأجمل امرأة رأيتها في طفولتي، ستي صابحة، جدتي لأمي التي كانت مثل ليلة القدر، أمًا لكل أهل القرية، تساعد الجميع، وتعطي للجميع من مالها، وطعام بيتها، ووقتها، وخبرتها، وحنانها المتدفق بلا نهاية.
“اغتنموها في الليالي الوترية من العشر الأواخر”، يقول شيخ المسجد. ننتهي من صلاة التراويح، نلعب عشرات الألعاب، أجلس أمام بيت ستي صابحة مستندًا بظهري إلى النخلتين المتعانقتين اللتين زرعهما جدي يوم زفافه، رافعًا عيني إلى السماء، أتأمل السحب ربما تكون ليلة القدر مختبئة خلفها، ربما ستنزل ممسكة بحبال نور القمر الفضية، لأجدها أمامي فجأة، لأنطق بسرعة ما أريد قبل أن تختفي، فالليلة ليست طويلة، ومن ينتظرونها لتحقيق أحلامهم كثيرون، وعليها أن تسرع لتلبي أحلام أكبر عدد منهم.
عامًا بعد عام، ولا تأتيني ليلة القدر، ربما جاءت ولكني غفوت لحظة وصولها، أو أخذني اللعب فذهبت إلى النخلتين بعد أن جاءت ولم تجدني بانتظارها، أو ربما انتظرتها في الليالي الخطأ، فلم أفلح يومًا في تحديد المقصود بالليالي الوترية هل هي المسبوقة بيوم وتري أم سيكون اليوم التالي لها هو الوتري!”
أخبرني؛ لا أذكر من، أن ليلة القدر ليست امراة جميلة، ولا حصانًا مجنحًا، ولا يدًا ملائكية تملأ حجرك بالذهب، إنها نور يقذفه الله في قلبك، فتشعر أن دعواتك أجيبت، وروحك اطمأنت.
لم أفهم ما قيل بالضبط، لكن خالي الأصغر “رجب” كان يناديني باسم “نور”، فأحسست أنه رسول ليلة القدر إلي ليعرفني أن الله قذفها في قلبي. حتى وجدت خيري شلبي يقدمها بما لم يخطر ببالي، إنها “بغلة العرش”.
أول كتاب قرأته لخيري شلبي وفتنني بالكاتب وكتابته كان “رحلات الطرشجي الحلوجي”، بعده قرأت الكثير لخيري شلبي مستمتعًا بأنني لا أقرأ كتابًا، بل أجلس على المصطبة، في المندرة، أستمع إلى حكاء شعبي، يقدم الحكايات القديمة كأنها خلقت توًا، والأفكار الجديدة كأنها معتقة في “بلاص مش” التراث. توقفت مع روايته “بغلة العرش” مرة بعد مرة. كيف استطاع الكاتب أن يستعيد خرافة كانت تسليه بها أمه لتصبره على ما يعيشون فيه من فقر مقابل الأثرياء في القرية، ليجعل منها هذا العالم الأسطوري الذاخر بمتعة الحكي، يخبئ خلف التسلية الأكيدة نقدًا لاذعًا مرًا للمجتمع وأفكاره وعقائده المرذولة وسياساته ومثقفيه وبلادته، حتى ليجبرك على التفكير الذي تفر منه فرار الجبان من الأسد!
يؤسس شلبي لفكرة عمله بتأسيسه للمكان قرية بني سالم، المنسوبة لسيدي سالم أحد أتباع سيدي إبراهيم الدسوقي، لذلك يكون من الطبيعي إيمان أهلها بالكرامات والمعجزات. ويختار زمن الرواية، بداية السبعينيات من القرن الماضي والأعوام التالية لها، وهو عصر المعجزات الحقيقية في مصر، عصر الثراء الفاحش لبعض الناس في زمن قصير، وبلا مبررات حقيقية، في زمن الانفتاح الذي وصفه أحمد بهاء الدين بأنه “سداح مداح”.
المكان الموغل في الخرافة القديمة، والزمان الموبوء بالخرافة المعاصرة، يتيحان لخيري شلبي فرصة اختراع كرسي اعتراف مناسب هو القنطرة التي يمر عليها العابرون من وإلى القرية، يجلس كل منهم مع الراوي، ليحكي قصته مع بغلة العرش.
البغلة أسطورة تحمل الذهب على ظهرها، ومعه رأس قتيل هو حارس الذهب، والمحظوظ بظهور بغلة العرش له عليه أن يتقبل الذهب ورأس القتيل معًا. إنها الثروة المفاجئة لمعدومي الأصل والموهبة والقدرات في زمن الانفتاح، لم يهتم النظام بأن يسألهم من أين لك هذا؟ لكنهم يبررون ثروتهم بأنها هبة السماء لهم. ولا يكتفي خيري شلبي بإدانة هؤلاء الأثرياء بلا مبرر بلسانهم، بل يشتد في انتقاد من أعطوهم الفرصة ليثروا على حسابهم، ذلك الثراء المرتبط بالجريمة بالتأكيد، جريمة اجتماعية وسياسية واقتصادية، “ما أنتم جميعا سوى رأس القتيل الذي قيل أنه يحرس الثروة حتى تصل سالمة إلى مغتصبها. ما أكثر عدد المغتصبين في حياتكم وما أكثر ما تساعدونهم على التضخم والتوالد والتكاثر كأنما يلذكم ألا تعيشوا بغير مصاص دم ينتشي بدمائكم فتنتشون لنشوته”.. “إن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة و بغلة العرش لن تجيء وإنما عليكم أن تفتشوا عن رءوس قتلاكم وراء كل عربة مرسيدس تنهب الطريق ووراء كل حياة مرفهة براقة”.. “بغلة العرش هي أنتم، ورأس القتيل هو أنتم.. وأنتم أيضاً خرج الذهب”، وكأنه يذكرنا بالكلمة المنسوبة إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أن “وراء ثراء كل ثري افتقار عدد من الناس”.
يقتحم خيري شلبي عقل قارئه بالمواجهة الصريحة حول بغلة العرش، فالأثرياء يتمسكون بها كمبرر لثرائهم غير المبرر منطقيًا، لكن لماذا يتمسك بها الفقراء المعدمون؟ القتلى الذين أثرى الآخرون على حسابهم؟ إنهم ربما يكونون أكثر تمسكًا بالخرافة من قاتليهم، ونجد الإجابة في تفاصيل الرواية، فهذا الإيمان بالخرافة يريح الضعفاء إذ يوكل كل شيء إلى السماء، فلا يفكرون، ولا يعملون على تغيير واقعهم، وهو ما يريده منهم الأثرياء، وتأمرهم السماء بعكسه.
أظنك ستقف أمام خاتمة الرواية مثل وقفتي، فقد جاءت بغلة العرش بذهبها ورأس القتيل الذي يحرسه وقدمت نفسها لفرّاش المدرسة عبد الرؤوف، لكنه لم يصبح من الأثرياء، بل اتهم بجريمة قتل، في إشارة مهمة إلى أن الثروة الملطخة بدماء الغلابة لن يحصل عليها إلا القادر على تحمل أعبائها، وأهمها فقدان الروح والقلب والضمير.
لا أزال أنتظر النور الذي يقذفه الله في قلبي كلما جاء رمضان، ولا تزال لليلة القدر المنتظرة وجه جدتي صابحة، لكني لا أهرب من رؤية بغلة العرش وذهبها في كل مكان في عالمنا، وأضع يدي على رأسي لأتأكد من وجودها، ألمسها ولا أثق من لمستي، أرى الشوارع مليئة ببشر بلا رؤوس، أتمنى أن أصرخ فيهم: هيا نبحث عن رؤوس قتلانا لنعيدها فوق أكتافهم، وليذهب الآخرون ببغلاتهم إلى الجحيم.
مقال رائع أستاذ منير فليلة القدر لها ذكريات كثيرة معنا منذ الطفولة والحقيقة استمتعت كثيرا بذكر اعمال الحكاء الرائع خيري شلبي وما بها من معان ورسائل .. شكرا لك أستاذنا
🌷🌷🌷🌷
ألف شكر أستاذة فاطمة
ابدعت استاذ منير كالعادة مقال رائع.
اتفق معكم فيما ذكرت أن “ما أكثر عدد المغتصبين في حياتكم وما أكثر ما تساعدونهم على التضخم والتوالد والتكاثر كأنما يلذكم ألا تعيشوا بغير مصاص دم ينتشي بدمائكم فتنتشون لنشوته”
لكن ليس “وراء ثراء كل ثري افتقار عدد من الناس”. فالجد والمثابرة والاصرار والمغامرة ايضا من اسباب النجاح وقد يكون الثراء سببا لاتاحة فرص عمل للفقراء تكفيهم السؤال. وما حدث لفراش المدرسة عبد الرؤوف أبلغ مثال أن الثروة وان هبطت على أحدهم فجأة فقد يقوده حظه العسر وأفقه المحدود وعدم شعوره باستحقاقها إلى أن تنقلب من منحة إلى نقمة فلكل شيء جانبه السلبي والايجابي ونحن من نختار.
حفظكم الله أستاذ منير ودام ابداعكم
سلم قلمك أستلذة غادة
أبدعت استاذ منير دام نبض قلمك مقاربة بين حالتين تكادان تكونان متضادتان ولكنك استطعت إيجاد خط شعوري رقيق لبناء الفكرة .
الشكر لحضرتك أستاذة زينب
مبدع يحكي عن رؤية مبدع لأزمة الإنسان المعاصر _ الفقير_ في معظم الأحوال
ألف شكر د.رشا
جميل .. اسلوب مشوق ومتعة … تحياتى
تسلم صديقي الفنان إبراهيم فرحات
تلك المقارنة بين ليلة القدر وبغلة العرش ذكرتني بأسطورة سانتا كلوز، حيث ينتظر كل أطفال العالم من يأتيهم بأمنياتهم المادية على هيئة هدايا، وهذة الفكرة أجدها غريبة للغاية بسبب انتشارها في كل الثقافات بأشكال مختلفة وارتباطها بالدين في كل مرة، مما يجعلني اشك بأن حلم الثراء السريع حلم فطري في جينات كل البشر، بسبب تطلعنا إلى الجنة التي لا تعب فيها ولا نصب، جعلنا الله وإياكم من أهلها.
رأيك مهم أستاذ خالد
شكرا لك
كل التوفيق والنجاح
حفظك الله د حنان
سرد شيق فعلا
كم تعلقت عيوننا بالسماء كي تفتح لنا ليلة القدر
براءة الطفولة شيء رائع لا ننساه
دمت متألقا ودام عطاؤك الراقي أستاذ منير عتيبة
سلمك الله أستاذ سمير
مقال ادبي رائع..واحتكاك عقلية مبدعة بنصوص إبداعية سابقة..
وهي بغلة العرش للأديب خيري شلبي…وكل من الحياة والنصوص
وهي خلاصة وسيرم الحياة .قادرتان علي استثارة مناطق الابداع لدي
المبدع وهو هنا الاديب منير عتيبة..
ونثر ادبي رشيق..بلغة أدبية معتقة.. نوستالجيا جميله .. تحياتي
ألف شكر المبدع الصديق محمد رجب عباس
سرد رائع مثير وجاذب كعادتك في الإبداع أستاذ منير عتيبة المبدع الكبير المتألق. قدرة رائعة على التضفير وتفعيل شعرية السرد بعبقرية المبدع المغرم بإبداعه حد إغراق المتلقي في الغرام بالنص المبدع
شكرا لقلمك الكريم د.محمد
مقال أكثر من رائع.. رحلة جميلة وممتعة على بساط الريح إلى عطر الحبايب ودفء الحكايات والذكريات وإضاءة بديعة على العالم الساحر لعمنا الجميل المبدع الكبير الراحل(الحلواني)خيري شلبي رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.. سلمت يدك ودام إبداعك الراقي وكل عام وحضرتك بخير وصحة وسعادة يا أستاذنا الفاضل
.
حفظك الله أستاذ محمد
بغلة العرش فى الدنيا وبراق الجتان فى الاخرة وليلة القدر لمن يطلب الدنيا ولمن يطلب الاخرة وشتان بين الفريقين ، فمن طريقه الدنيا يؤت منها حظه اليسير اما من يرد الاخرة فيزد الله له في حرثه بوركت مقالاتك المبدعة ذات المغازي الفريدة،
حفظك الله يا دكتور
ذكرتني ستك صابحة بجدتي لأمي ولذلك أحببتها. مقال جديد ومختلف به تضفيرة تجمع بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي مثلا في الإسقاط على رواية ( بغلة العرش ) للأديب القدير خيري شلبي. شكرا جزيلا صديقي العزيز على هذا الضوء
رحم الله الجدات
وحفظك يا صديقي
أعدت لنا الحكاء العظيم خيري شلبي من خلال روايته الفاتنة ( بغلة العرش ) والاسقاط الجميل على ليلة القدر باعتبارها المعادل الموضوعي لها، ومحاكمة حقبة السبعينات وما بعدها، وما أصاب المجتمع عقب قرار الانفتاح المتعجل وغير المدروس، والتحول المباغت بمقدار مائة وثمانون درجة من نظام اشتراكي إلى نظام رأسمالي وظهور رجال نهب المال لا رجال الأعمال، وطبقة طفيلية جديدة أفسدت الحياة الثقافية والساسية والاقتصادية والاجتماعية، واحسرت الطبقة المتوسطة والتي هي عصب أي مجتمع، والخصخصة وبيع القطاع العام بتراب الفلوس، والعلاقة المريبة بين السلطة / النظام ورجال نهب المال وهي علاقة اقتربت من الزواج الكاثولوكي لا ينفصم عراها، وعلاقتهم بالأغلبية الكاسحة من أبناء الشعب الذين يعانون العوز والفقر ةالحاجة، محاكة رائعة لحقبة زمنية مر بها المجتمع ولم يزل يعاني من آثارها وتداعياتها، وأحلام الفقراء في ليلة القدر التي لا تجئ، توطيف رائع لتراث ديني مع واقع سياسي وثقافي محبط، وأجمل ما في هذا المقال هو إيقاظ الوعي لدي الجميع، وإعادة التفكير في الموروث الديني والواقع الساسي والثقافي والاجتماعي، وحيل الأنظمة من خلال أبواقه في استثمار ليلة القدر وانتظار الفقراء لها عاما بعد عام وكأنهم في انتظار مالايجئ أبدا وكأنهم في انتظار جودو، وهي دائما تخطئ الفقراء وتذهب إلى أصحاب الفهلوة والانتعازيين، دمت كاتبا جميلا وتبيلا منير بك، ولك خالص تحيتي ومحبتي وتقديري.
دام مداد قلمك أستاذ مجدي
شكرا جزيلا