أعلن بمنتهى الصدق أني في حيرة عميقة؛ كيف أتناول هذا الموضوع المعقد في حكاية صغيرة؟ لذلك سألجأ لحيلة هروبية، يستخدمها الكتاب أحيانا من باب الاستذكاء الساذج على القارئ. سأطرح أسئلة كثيرة مدعيا أني لا أحاول الإجابة، وأنا أعرف أن بعض الأسئلة إجابة، أو إيحاء بالإجابة. ولنبدأ.
الأغنية الوطنية
ما الذي يرد إلى ذهنك حين تسمع/تسمعين تعبير: “الأغنية الوطنية”؟ هل عبد الحليم حافظ (ثوار .. ثوار.. ولآخر مدى ثوار/ أحلف بسماها وبترابها/ والله زمان يا سلاحي/ ابنك يقولك يا بطل هاتلي نهار)؟ هل ينسم روحك صوت فيروز (كانوا يا حبيبي/ خطة قدمكن ع الأرض هدارة/ لأجلك يا مدينة الصلاة أصلي)؟ هل يعلو في أذنيك هدير الشيخ إمام (يا مصر قومي وشدي الحيل/ جيفارا مات)؟
استمع إلى أغنية “أحلف بسماها” وبترابها لعبد الحليم حافظ
استمع إلى أغنية “زهرة المدائن” لفيروز
استمع إلى أغنية “يا مصر قومي وشدي الحيل” للشيخ إمام
هل تعود بك الذاكرة إلى هذه الألحان بكل ما فيها من حماس يلهب المشاعر وتكاد إيقاعاته ترتفع بالجسد معاندة قوانين الجاذبية؟ أم لعلك أيها القارئ الكريم تخلط بين أغاني النصر والثورة، فتشدو في قلبك وردة: حلوة بلادي السمرا بلادي؟ أو ربما: عبد الحليم بعد أن توارى وهج الشباب عن عينيه وأغانيه؛ فشدا بهدوء العاشق الكهل: لفي البلاد يا صبية؟
استمع إلى أغنية “وأنا على على الربابة باغني” بصوت وردة
استمع إلى أغنية “لفي البلاد يا صبية” بصوت حليم
وماذا عن الأغاني الوطنية الشبابية؟ أليست هي الأقرب لما يدور على الأرض والأكثر تعبيرا عن تغير منطق الثورة وطرائقها؟ انظر لما يقول هؤلاء الشباب:
نزلت وقلت أنا مش راجع
سمَّعنا اللي ما كانش سامع
واتكسَّرت كل الموانع
في كل شارع في بلادي
صوت الحرية بينادي
استمع إلى أغنية “صوت الحرية” لكايروكي
ثم يمزج هؤلاء الملاعين بين صوت الأبنودي الأجش، وألحانهم التي تبدو بسيطة فتدخل الروح بلا مقدمات. ما رأيك في أهزوجة سميح شقير: يا حيف؟ التي رجت قلوب كل إنسان في قلبه حياة من المحيط إلى الخليج حين يشدو:
متنا
بايد إخوتنا
باسم أمن الوطن
واحنا مين احنا؟
استمع إلى «يا حيف» لسميح شقير من هنا
يبدو أن غناء الثورة الآن لا يلتقي مع غناء الثورة في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. إنهما متوازيان دون أن يلغي أحدهما الآخر، ودون أن يغني أحدهما عن الآخر. رغما عن الوعي العربي المتحجر الذي يدمن أحادية التوجه العقلي
هل تعرف أن هؤلاء الملحنين الشباب المارقين يتجاوزون حدود البلد الواحد إلى “وطني حبيبي الوطن الأكبر” فيشدو مصطفى شوقي المصري لسوريا:
جرحك يا شام علّم ألمه في قلب النيل
موجوع.. أنا موجوع
من قلبي بابكي دموع
والدمعة مصرية
بتئن فيا الروح
على دمك المسفوح
ما انا روحي سورية
كلمات الوطنية المعاصرة هادئة خافتة، لكنها أكثر إمساكا بالتفاصيل وبنبض اللحظة التي نعيشها. الألحان أقل صخبا، لكنها جعلت الدموع تنساب برقة وألم ووعي من عيون الملايين، دون أن يغلي الدم في عروقنا للحظات، ثم يهمد للأبد كعادتنا العربية. يبدو أن غناء الثورة الآن لا يلتقي مع غناء الثورة في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. إنهما متوازيان دون أن يلغي أحدهما الآخر، ودون أن يغني أحدهما عن الآخر. رغما عن الوعي العربي المتحجر الذي يدمن أحادية التوجه العقلي، ويجد بطولة في إلغاء المختلف.
إعادة تقديم الأغاني الوطنية
هناك في هذه الفترة أيضا استعادةٌ لأغنيات وطنية قديمة، وعظيمة لا شك في ذلك. لكن من يستعيدها يضع عليها بصمة تخص لحظته. شيء من الخفوت العميق يطل من هذه الاستعادة التي تبدو ناعمة باهتة. مصطفى شوقي يعيد أغنية السمسمية البديعة “أبويا وصاني”، ومحمد محسن يعيد غناء النشيد الوطني القديم “اسلمي يامصر إنني الفدا”. لكن كثيرين هاجوا وماجوا وغضبوا، واستخدموا معارفهم الموسيقية لمهاجمة المحاولة. كان الهجوم مرتكزا على فكرة الخفوت/ الشحوب/ الهدوء الذي يرونه غير مناسب للأغنية الوطنية، الهادرة/ الصاخبة/ الحماسية بطبعها كما يظنون. لكن رغم هذه الانتقادات ستكتشف أنها المرة الأولى التي ينتبه فيها الناس لكلمات هذا النشيد العظيم الذي كتب كلماته مصطفى صادق الرافعي:
اسلمي يا مصر إنني الفدا ذي يدي لو مدَّت الدنيا يدا
أبدا لن تهوني أبــــــــــــدا إنني أرجو مع اليوم غـــدا
ما الذي يحدث بالضبط؟ لقد أدرك الشباب الذين قاموا بإنتاج هذا العمل أن عصر العنف الغنائي الصاخب، الصادر عن التهاب قومي يعمي العيون ويصم الآذان قد انتهى، حين كانت الأغاني ترغب في محاكاة هدير المكن، وانفجارات القنابل في ميدان المعركة.
لقد وُضعت أعراف الأغنية الوطنية على يد أجيال موسيقيين ومطربين ترعرعوا في كنف الحركات العسكرية الثورية في منتصف القرن العشرين. كانوا ينتفضون حماسا مع أحداث ثورية تحررية، فيحولونها إلى نغمات هادرة قوية كموجات بحر غاضب، يغرق فيه الكلام/ العقل/ التأمل إلى الأعماق، مفسحا المجال لحالة التهاب عصبي برعاية اللحن ذي الإيقاع الصاخب، محاطا بوطنية صادقة عمياء.
قلنا هنبني وادي إحنا بنينا السد العالي
يا استعمار بنيناه بإيدينا السد العالي
استمع إلى أغنية “حكاية شعب” لعبد الحليم حافظ
أتخيل قبضة يد تلوح في الفضاء بحماس ملتهب، ومكايدة تعلن الانتصار في معركة احتدمت طويلا، قبل أن تنجح الإرادة الوطنية في حسمها. إنه شعور عظيم وصادق بالفخار الوطني، والانتشاء بمشاعر امتلاك المصير، ومقاومة إرادة المحتل، شعور مباهاة ظهر في تكرار “السد العالي” تكرارا منتشيا بكل حرف من حروف الاسم. أغنيات هي اندفاع وعي سعيد ومغلق بعنف اللحظة/ اللحن، ما يجعل من المقاطع صراخا وطنيا يسد قنوات التأمل الهادئ. وهل يمكن المطالبة بتأمل هادئ في فترات المد الثوري والتحرر الوطني، الذي تقوده نخب عسكرية شابة متحمسة؟
يختلف الأمر قليلا مع لحن النشيد الوطني “اسلمي يا مصر”؛ صحيح هو ابن الحس الوطني الجارف الصاخب، حتى مع حضوره قبل المد الثوري، لكنه وازَنَ نسبيا بين كلمات صعبة تحتاج إلى تأمل، ولحن صاخب لكنه لا يسد قنوات الفهم. كانت المعادلة أكثر توازنا بين صخب اللحن الوطني، والكلمات العميقة التي ربما ردد الناس بعضها دون أن يفهموه. ولننظر لما صاغه مصطفى صادق الرافعي بقدرة شاعر رفيع الحس والقدرة وهو يقول:
أنا مصريٌّ بنـــاني من بنى هرمَ الدهر الذي أعيا الفنا
وقفة الأهـرام فيمــا بيننـــا لصروف الدهر وقفتي أنـــا
في دفاعي وجهادي للبلاد لا أميــلُ لا أَمَــلُّ لا أليـــن
استمع إلى النسخة الأصلية من نشيد “اسلمي يا مصر”
استمع إلى أغنية «إسلمي يا مصر» بصوت محمد محسن
كلمات تحتاج لفعل تأمل هادئ رغم صخب اللحن، وما فعله المطرب الشاب محمد محسن، ومن أخرج ووضع التصور الموسيقى، هو أنهم جميعا كسروا معادلة اللحن الصاخب الملتهب الذي يقود الغناء الوطني، ودفعوا بالكلمات إلى الأمام بصوت محمد العميق الجميل الهادئ، وأدائه الجسدي الرزين المنتظم، مع خطواته وهو يمشي في شوارع القاهرة الخاوية.
هل يمكن أن ندعي أن كلمات الأغنية الوطنية التي ألهبت الأمة العربية في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين كانت دعائية بأكثر من كونها وطنية حقيقية؟
من اختار أن يجعل اللحن هادئا مع رنات بيانو وحيد يمس آلة الشعور برفق، مفسحا المجال للكلمات كي تقرع آلة الفهم. هذا انقلاب للمعادلة، ومحاولة لتغيير مسار الأغنية الوطنية من صخب فاقع لم يعد له أثر، إلى تأمل هادئ خافت، لا يريد أن يدفعك دفعا نحو التهاب عصبي يضرب بستائره على العقل، ويعوق التأمل الفني للكلمات والصور. الأمر ربما يبدو دعائيا، في إطار فترة تحاول فيها الثقافة المصرية النهوض بعد تعثر دام لعقود طويلة، وهو إن صح هذا التصور دعاية ناجحة ومختلفة، ولا تعتمد أسلوب التجييش المعتاد في دفع الجماهير نحو الإيمان بما لا يفهمون. لقد استعانت الأغنية بمجموعة من الشباب المصري المبدع في مجالات مختلفة، جميعهم وقف بهدوء ناظرا للأعلى، في إشارة واضحة لفكرة النهوض.
هل يمكن أن ندعي أن كلمات الأغنية الوطنية التي ألهبت الأمة العربية في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين كانت دعائية بأكثر من كونها وطنية حقيقية؟ هذا حقل ألغام ربما أثار حفيظة الكثيرين. لكن لنتأمل الفرق بين بعض كلمات النشيد الذي كتبه الرافعي ويستدعي فيه عظمة الأهرام، دونما مشاعر اعتداء أو تجييش دعائي، وكلمات النشيد الوطني الذي يقول:
والله زمان يا سلاحي
اشتقت لك في كفاحي
انده وقول أنا صاحي
يا حرب والله زمان
تعبر الكلمات السابقة عن اللحظة ساعتها، بكل ما امتلأت به من رغبة أحادية التوجه في التجييش والشحن، وإغلاق مساحات التأمل، أو لنقل بكل ما صاحب هذه اللحظة الصادقة العظيمة من دعائية لم تكن واضحة ساعتها. إن الفخر القومي الذي يظهر في نشيد اسلمي يا مصر لهو مما يفتح القنوات باتجاه التأمل: تأمل الكلمات/ الذات/ الماضي/ المستقبل. أما كلمات نشيد “والله زمان يا سلاحي” فهي مما يغلق الأبواب السابقة جميعا.
استمع إلى نشيد “والله زمان يا سلاحي” لأم كلثوم
ما قام به محمد محسن هو استعادة اسلمي يا مصر، بمزيد من التركيز على قنوات التأمل في معنى الوطنية الهادئة الصلبة، قنوات التأمل التي تم إغلاقها لعقود، بغناء صاخب لم يحقق وعيا أو نصرا.