أحدث الحكايا

د.محمد عفيفي يحكي: حكاية الأدب والتاريخ.. ثلاثية نجيب محفوظ (1-2)

لا نطمح هنا إلى معالجة الأحداث التاريخية في ثلاثية نجيب محفوظ، والتأكد من صحة الوقائع التاريخية بها واستفادة المؤلف من التاريخ، فليس الهدف محصورًا في إجراء “مراجعة تاريخية” للثلاثية كما دأبت بعض المسلسلات التليفزيونية أو بعض الأفلام السينمائية التي تتعرض لحوادث التاريخ على الاستعانة “بمُراجِع” مؤرخ لمراجعة الأحداث التاريخية، كما أننا هنا لا نُشكِّل “محكمة تاريخ” للنظر فيما فعله محفوظ بالتاريخ في ثلاثيته.

إن هدفنا مختلف كليةً عن ذلك؛ إننا نسعى إلى التعامل مع “النص الأدبي” الذي كتبه محفوظ متمثلًا في الثلاثية، كمصدر “تاريخي” على المؤرخ أن يتعامل معه بشكلٍ حتمي، إذا إراد التأريخ للفترة التاريخية التي تغطيها الثلاثية، وهي تقريبًا من ثورة 1919 حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.

وطرح الفكرة السابقة يتطلب التطرق إلى بعض النقاط الحساسة لدى المؤرخين وبصفةٍ خاصة الإجابة على السؤال القديم/الجديد الذي طالما حيَّر المؤرخين وهو: ما هو المصدر التاريخى؟

في الحقيقة ليست هناك إجابة قاطعة جامعة مانعة لهذا السؤال فقد درج المؤرخون على اعتبار معرفة الإنسان بالكتابة هي “بداية التاريخ” وبالتالي فالفترة السابقة على ذلك هي فترة “ما قبل التاريخ”. لكن هذه الفترة لا تُعدَم من “مصادر تاريخية” غير مكتوبة من أدوات حجرية أو معدنية، أو بقايا عظمية، أو نقوش أو غيرها مما خلفه الإنسان على الأرض. لكن بداية التاريخ في نظر أغلب المؤرخين تبدأ مع بداية “المكتوب”.

مصادر التاريخ

من هنا جاءت القداسة التي منحها المؤرخين إلى “المكتوب”، ومع نشأة الدولة نشأ معها جهاز كتابي لتقديم الخدمات المختلفة التي تربط بين الحاكم والمحكومين، ونشأ عن هذه العلاقة ركام هائل من “المكاتيب”، تلك التي عُرِفَت بعد ذلك لدى المؤرخين بـ”الوثائق الرسمية”. وأصبح المؤرخون، لا سيما في العصر الحديث، من عبدة الوثيقة، حتى أنه لا يُذكر التاريخ إلا مقرونًا بالوثيقة.

والحق أن المؤرخ القديم كان أكثر منطقية من المؤرخ الحديث، وأكثر منه تحررًا في عبادة الوثيقة، فقد تعددت مصادره التاريخية من آثارٍ مثل القصور والحصون والمنازل وشواهد القبور وحتى الملابس، وأيضًا العملات وغيرها مما خلفه السلف.

بينما يقف المؤرخ الحديث موقفًا حذرًا للغاية تجاه المصادر غير التقليدية للتاريخ ونقصد بها المصادر الأدبية من روايةٍ أو شعر، أو حتى مصادر شفوية مثل الفلكلور أو الوليد الجديد في ميدان البحث التاريخى “التاريخ الشفوي”، أو حتى مصادر أخرى مستحدثة مثل السينما والتليفزيون والراديو، أو حتى الفنون التشكيلية وغيرها.

صورة تعبيرية

والعجيب أن مؤرخي العالم القديم وحتى المؤرخين المسلمين الأوائل لم يجدوا غضاضة في الاستعانة بمصادر أدبية، ألم تكن الإلياذة والأوديسا من أهم مصادر التاريخ الأوربي القديم؟! كما نظر المؤرخون المسلمون الأوائل إلى الشعر العربي على أنه مصدر تاريخي لحياة العرب والمسلمين، ولنا في الشعر الجاهلي أسوة حسنة، سواء كان هذا الشعر معبرًا عن حياة العرب في الجاهلية، أو منتحلًا في بعضه بعد الإسلام ليخدم أغراضًا سياسية مختلفة في إطار صراع الفرق الإسلامية آنذاك.

من هنا يرى البعض أن العرب “أودعت أشعارها من الأوصاف والتشبيهات والحكم ما أحاطت به معرفتها وأدركه عيانها، ومرت به تجاربها (ابن طباطبا)، ومن هذه الزاوية نظر الجاحظ إلى الشعر القديم باعتباره مصدرًا للمعارف العامة ووثيقة فيزيقية تقدم لمن يتأملها قدرًا طيبًا من الحقائق.

وسيرًا على ذلك رأى البعض أن هذه النظرة تنطبق على مختلف النصوص الأدبية باعتبارها مخزونًا لمظاهر الحياة المادية التي ظهرت في عصر تأليفها، فإذا أراد باحث التعرف بشكلٍ واعٍ على حياة المجتمع الفرنسي فإن روايات بلزاك وفلوبير خير طريق لذلك.

وقد أيَّد صدق هذه النظرة حرص هؤلاء الكُتَّاب على وصف ما كانت تزخر به الحياة اليومية في عصورهم من مظاهرٍ مادية شتى، وكانوا يستقون معلوماتهم من الواقع المحيط بهم.

من هنا تنبع دراستنا، من وجهة النظر الساعية إلى الخروج من العبادة المطلقة للوثيقة، الرجوع إلى مصادر جديدة/قديمة، لم يستنكف المؤرخون الأوائل من الاستعانة بها، لكن مشكلة المؤرخ الحديث ارتباط فكرة التاريخ لديه بالوثيقة، مع أن الوثيقة لا تقدم في الحقيقة إلا التاريخ “الرسمي” وعلينا البحث عن تاريخ من لم يُكتب لهم تاريخ “المجتمع”.

إننا نسعى إلى التعامل مع “النص الأدبي” الذي كتبه محفوظ متمثلًا في الثلاثية، كمصدر “تاريخي” على المؤرخ أن يتعامل معه بشكلٍ حتمي، إذا إراد التأريخ للفترة التاريخية التي تغطيها الثلاثية، وهي تقريبًا من ثورة 1919 حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.

ويتخوف المؤرخون عند التعامل مع المصادر غير التقليدية، ويعتقدون أن هذه المصادر لم تُكتب من أجل التاريخ، مع أن الوثيقة ذاتها لم تُكتب من أجل التاريخ وإنما من أجل “غرض” “رسمي” “حكومي” معين، ويرى هؤلاء أن الوثيقة ترتبط بالمصداقية والحيدة التاريخية وهو وهم كبير وقع فيه هؤلاء الذين نظروا أيضًا إلى المصادر غير التقليدية على أنها تحمل قدرًا كبير من “الخيال” وعدم “الموضوعية” بل الذاتية، ويحضرني هنا مقولة المؤرخ الفرنسى الكبير مارك فيرو المتخصص في تاريخ الاتحاد السوفيتي “أن السينما السوفيتية كانت أكثر مصداقية وتعبيرًا عن المجتمع من سجلات الضرائب الحكومية”، مع أن هذه السجلات هي وثائق يسجد لها المؤرخين في محراب التاريخ!

وفي رأينا أن تخوف المؤرخين ورفضهم للمصادر غير التقليدية إنما يخفي خوفهم من المجهول، ومن الجديد، والركون إلى ما اعتاد التعامل معه “الوثيقة”، وعدم الرغبة في الدخول إلى التجربة في التعامل مع الجديد.

عن د. محمد عفيفي

أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة القاهرة، حصل على الماجستير عن رسالته التي تناولت الأوقاف في العصر العثماني، ومن بعدها درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة عن دراسة حول الأقباط في العصر العثماني، وقد تولى رئاسة قسم التاريخ بآداب القاهرة مرتين. كما عمل باحثًا في المعهد الفرنسي للآثار، وفي المعهد الفرنسي للدراسات الاجتماعية والاقتصادية. ثم شغل منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة في الفترة من 2014 إلى 2015. حاصل على جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الاجتماعية لعام 2004، والتفوق في العلوم الاجتماعية لعام 2009، والتقديرية في العلوم الاجتماعية لعام 2020-2021.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *