أحدث الحكايا

د. هيثم الحاج علي يحكي: المتعلمة الأولى والناظرة الأولى.. حكاية نبوية موسى

في ثمانينيات القرن التاسع عشر وفي إحدى قرى الوجه البحري قرية كفر الحكما ببندر الزقازيق، كان قد استقر اليوزباشي موسى محمد بدوية الضابط بالجيش المصري حيث تزوج واشترى منزلا حوله بضعة فدادين زراعية يقوم بتأجيرها حين يكون في عمله بالجيش، وأنجب ولدين وبنتا هي آخر العنقود، نبوية التي وُلدت في ديسمبر 1886، بعد أكثر من عشر سنوات من إنجاب أخيها محمد، لكنها لم تر أباها الذي كان قد سافر إلى السودان ضمن الحامية المصرية هناك، ولم يعد، فنشأت الفتاة نبوية يتيمة لم تر والدها إلا في المنام كما قالت بنفسها.

نشأت نبوية إذن في بيت غاب عائله لذلك فقد كان رأي العائلة هو الذي يحرك مصيرها، وكان الانغلاق هو سمة الطفولة لديها، وهو ما عوضته بتتبع أخيها محمد، حين تستمع لحكاياته وتعرف منه ما تلقاه في المدرسة من علوم، فكانت بمثابة مساعدة لمراجعة دروسه، لكنها في الوقت نفسه كانت تشعر أن هذه العلوم تفتح لها أبواب البيت المغلقة على عوالم خيالية.

 

تعليم مبكر رغم الظروف

تعلمت نبوية القراءة والكتابة ومبادئ الحساب واللغة الإنجليزية على يد أخيها في طفولتها المبكرة، وعندما بلغت الثالثة عشرة من عمرها تطلعت لاستكمال تعليمها، غير أنها لم تجد أي مساندة من عائلتها عند اتخاذها هذا القرار، وجاء بعض من ردود كبار العائلة لنبوية صادما ومنها: “عيب، مش أصول بنات العائلات، سفور وقلة حياء”. وقال لها عمها “البنت للغزل مش للخط”.

غير أنها في مغامرة غريبة على هذا الزمن، وبعد الانتقال إلى القاهرة لدواعي دراسة الأخ، تقدمت للالتحاق بالمدرسة السنية للبنات على الرغم من معارضة أسرتها، ذهبت نبوية سرا إلى المدرسة، متخفية في ملابس خادمة ثم تقمصت دور أم تسأل عن إمكانية تعليم ابنتها، فقالوا لها إنه يجب تقديم طلب موقع بختم ولي الأمر، فقامت بسرقة ختم والدتها، لتتقدم هي بنفسها بدلا من ولية أمرها، وباعت سوارا من الذهب حتى تحمل المدرسة على قبول طلبها الذي جعلته بمصروفات.

في سن الثانية والعشرين حصلت نبوية على دبلوم المعلمات من مدرسة السنية بعد أن أنهت دراستها بالإضافة إلى عامين من التدريب العملي.

نبوية موسى في الرابعة والعشرين من عمرها

المعركة الأولى

كانت معركتها الأولى بعد تعيينها مدرسة عندما فوجئت بأن راتبها كمعلمة يبلغ ستة جنيهات، في حين أن مرتب الرجال من المدرسين يبلغ اثني عشر جنيها، وقد فسرت الأمر بأنه تفرقة بين الجنسين في المعاملة، وحين تقدمت بشكوى تم إيضاح الأمر لها بأن الرجال حاصلون على شهادة أعلى منها وهي البكالوريا، في حين أنها حاصلة على شهادة أقل وهي الدبلوم، ففجر هذا تحديا جديدا لديها حين أصرت على التقدم لنيل شهادة البكالوريا لتكون أول فتاة مصرية تتقدم لها، واستعدت لها بمجهود ذاتي فلم يكن في مصر آنذاك مدارس ثانوية للبنات وتقدمت لهذا الامتحان متحدية مستشار التعليم الإنجليزي دانلوب، فأثارت ضجة في وزارة المعارف باعتبارها أول فتاة في مصر تجرؤ على التقدم لهذه الشهادة، وتم عمل لجنة خاصة لها حيث إنها الفتاة الوحيدة المتقدمة لهذا الامتحان، وفي نهاية المطاف، نجحت نبوية في الامتحان وحصلت على شهادة البكالوريا فكان لنجاحها ضجة كبرى.

اعتبر كثير من الرجال العاملين بالتدريس نبوية موسى قاطعة لأرزاقهم، وقوبلت بحروب كثيرة غير أنها لم تلق بالا لها واستمرت في عملها، بل إنها أيضا طورت من هذا العمل، وكتبت المقالات الصحفية بانتظام على الرغم من تعليمات الوظيفة العامة في تلك الفترة بحظر الكتابة الصحفية على الموظفين، خصوصا أنها كانت تكتب في موضوعين اعتبرتهما الأهم، الأول هو ضد الاحتلال الإنجليزي، والثاني في أهمية تعليم المرأة، وتعددت مقالاتها في هذين الاتجاهين، وكانت تكتب باسم مستعار، غير أن زملاءها وشوا بها لمديريها وعندما أثنى سعد زغلول على هذه الكتابات علانية تغير الموقف تجاهها.

أول ناظرة مصرية

كما ألفت كتابًا مدرسيًا بعنوان (ثمرة الحياة في تعليم الفتاة)، قررته نظارة المعارف للمطالعة العربية في مدارسها. وفي عام 1909 تولّت نبوية نظارة المدرسة المحمدية الابتدائية للبنات بالفيوم، وبذلك أصبحت أول ناظرة مصرية لمدرسة ابتدائية، ونجحت نبوية موسى في نشر تعليم البنات في الفيوم؛ فزاد الإقبال على المدرسة، وبعد ثمانية أشهر من العمل تعرضت لمتاعب ممن ينظرون إلي المرأة المتعلمة نظرة متدنية؛ فرشحها أحمد لطفي السيد ناظرة لمدرسة معلمات المنصورة، وهناك نهضت نبوية بالمدرسة نهضة كبيرة حتى حازت المركز الأول في امتحان كفاءة المعلمات الأولية، كما انتدبت الجامعة الأهلية المصرية عقب افتتاحها عام 1908 نبوية موسى مع ملك حفني ناصف ولبيبة هاشم لإلقاء محاضرات بالجامعة تهتم بتثقيف نساء الطبقة الراقية.

خاضت نبوية موسى على مدار حياتها معارك كثيرة فيما يتعلق بتعليم البنات، والمساواة بين الرجل والمرأة، وثقيف النساء، وعمل المرأة بالتدريس، بالإضافة إلى القضايا الوطنية، وهي كلها معارك أدت إلى كون مسيرتها التعليمية صعبة بالقياس إلى غيرها، لكنها كانت كما أقرت بنفسها تعشق الصعاب وتبحث عن التحديات.

تحد جديد

في سنة 1926 شنت نبوية موسى هجوما على وزارة المعارف، وعلى الوزير، مطالبة بتعديل برامج الوزارة، وقصر عمليات التفتيش في مدارس البنات على النساء فقط دون الرجال أو حتى النساء الأجنبيات الغربيات، ولما لم تجد نبوية جدوى من شكواها قررت تصعيد المسألة إلى الرأي العام المصري؛ فكتبت في جريدة السياسة اليومية مقالاً تحت عنوان “نظام تعليم البنات في إنجلترا ومصر”، لكن الوزارة لم تستجب لمطالب نبوية، وأصرت الأخيرة على موقفها مما أدى إلى إصدار قرار بإيقافها عن العمل ثم بفصلها من الخدمة بالمدارس الحكومية، لكن القضاء أنصفها وأعاد لها اعتبارها، وقرر أن تدفع لها وزارة المعارف مبلغ خمسة آلاف وخمسمائة جنيه تعويضًا لها عن قرار فصلها.

بعدها، انصرفت نبوية موسي منذ إنهاء خدمتها بالمعارف 1926 إلى الاهتمام بأمور التعليم في مدارسها الخاصة فارتفع شأن مدارس بنات الأشراف بالإسكندرية، وأنفقت مبلغ التعويض الذي حصلت عليه من المعارف علي تطويرها فأصبحت من أفضل المدارس بناء وتجهيزا وإعدادا وإدارة وتعليما، ثم افتتحت فرعا آخر لمدارسها بالقاهرة واستمرت أيضا في تطويره وتوسيعه حتي أصبح مدرسة ومقرا لإدارة جريدتها التي أنشأتها بعد ذلك، وقد أوقفت مبنى مدرسة بنات الأشراف في الإسكندرية وقفا خيريا لوزارة المعارف سنة 1946.

عاشت نبوية موسى طوال حياتها مؤمنة برسالتها محاربة من أجلها ومتحركة لها في كل المجالات فعلمت وكتبت المقالات وألفت الكتب وشاركت في المؤتمرات وأنشأت المدارس والمطابع لنشر رسالتها وظلت هكذا حتى توفيت في الثلاثين من أبريل عام 1951، بعد أن تركت بصمة مهمة في سبيل نهضة التعليم في مصر، وكانت الناظرة الأولى كما كانت الفتاة الأولى في مصر التي حصلت على بكالوريا لتفتح الطريق أمام ملايين النساء فيما بعد.

عن د. هيثم الحاج علي

شاعر وناقد، أستاذ مساعد الأدب العربي الحديث والنقد بكلية الآداب جامعة حلوان. شغل سابقا العديد من المناصب في وزارة الثقافة المصرية مثل: رئيس مجلس إدارة الهيئة المصرية العامة للكتاب، أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، رئيس مجلس إدارة جريدة القاهرة الصادرة عن وزارة الثقافة المصرية، له العديد من الكتب النقدية والإبداعية.

تعليق واحد

  1. ‪sara kwasy‬‏

    تاريخ الحركة النسوية المصرية.. دام الإبداع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *