أحدث الحكايا
Jeanine Basinger, Film hostorian, pictured at the Jeanine Basinger Center for Film Studies at Wesleyan University in Middletown, CT on November 15, 2022.

أحمد شوقي يحكي التاريخ الشفاهي لهوليوود (1): البدايات بين الهواية والنميمة

في كل مرة نكتشف فيها كتابًا جديدًا، يقوم على فكرة مبتكرة، وينهل من التراث الهائل لأدبيات السينما الغربية، نشعر بمزيد من الغيرة المشوبة بالغضب، فبالرغم من امتلاك السينما المصرية لرصيد هائل من الأفلام، ولأجيال متعاقبة من صناع السينما الرواد والموهوبين، إلا أن الاستفادة التاريخية من وجود هذا التراث كانت وتظل محدودة جدًا.

أين يمكن أن تشاهد الأفلام الكلاسيكية؟ أتحدث عن الأفلام الموجودة وليست التي تحللت واختفت بسبب غياب قيمة الأرشفة والحفظ؟ لن تجد إجابة أبدًا. أين يمكن أن تقرأ سيرة أهم المخرجين؟ ولا أقول مديري التصوير أو مهندسي الصوت أو غيرهم ممن يملك قيمة تاريخية وعملية ثمينة؟ الإجابة أن أكثرهم فارق حياتنا دون أن يهتم أحد بتدوين خبراته. ويا لها من إجابة مؤلمة.

منبع الغيرة هنا هو كتاب حديث، صدر عام 2022 عن دار “فابر faber” العريقة بعنوان “هوليوود.. التاريخ الشفاهي Hollywood.. The Oral History”، من إعداد اثنين من أهم مؤرخي السينما المعاصرين: جينين باسنجر وسام واسون. نقول إعداد لأن الكتاب الفريد يقوم على مهمة ضخمة، دؤوبة، تكاد تكون مستحيلة في بلد مثل مصر، لكنها ممكنة بالكثير من الجهد في مكان يحترم تاريخه السينمائي مثل الولايات المتحدة.

Jeanine Basinger, Film hostorian, pictured at the Jeanine Basinger Center for Film Studies at Wesleyan University in Middletown, CT on November 15, 2022.

أصل الحكاية

في عام 1969، نظّم معهد الفيلم الأمريكي محاضرة استضاف فيها أسطورة الأفلام الكوميدية الصامتة هارولد لويد، الذي كان في الخامسة والسبعين من عمره، ليتحدث عن ذكرياته عن هوليوود في مرحلة التكوين وكيفية عمل الأفلام الكوميدية آنذاك. فرصة كانت أخيرة لتوثيق ذكريات لويد الذي توفي في مطلع 1971 بعدها بأقل من سنتين. من وقتها تم استخدام اسمه كعنوان لسلسلة من المحاضرات صارت تُدعى “محاضرات هارولد لويد للأساتذة Harold Lloyd Master Seminars”، تكريمًا للضيف الأول.

هارولد لويد

 

على مدار أكثر من نصف قرن استضاف المعهد ثلاثة آلاف ضيف، خبراء في كافة المجالات من مخرجين ومؤلفين وممثلين، وحتى خبراء الديكور والملابس والصوت، وكافة التخصصات السينمائية التي مُنحت مساحة للحديث، مع تسجيل كافة ما يقولون، حتى جاء المؤرخان باسنجر وواسون ووجدا أمامهما ما يقترب من عشرة آلاف ساعة مسجلة من التأريخ الشفاهي لكل شيء في السينما الأمريكية.

ما فعله الكاتبان هو ببساطة الاستغراق في سماع هذه الساعات كاملة، وتفريغها، وتقسيمها حسب الحقبة والموضوع، لينجزا عملا مذهلا يمكن تشبيهه بفيلم وثائقي مكتوب، قاما فيه بترتيب اقتباسات متباينة الطول من أحاديث الأساتذة، ووضعها في فصول مرتبة ومنطقية، ليتمكن من يقرأها من تكوين صورة كاملة، مدهشة في محتواها، عن تاريخ هوليوود من النشأة حتى عصرنا الحالي.

أكثر من 700 صفحة من الذكريات، يتحدث فيها فنانون يغطون كامل الفترة بين جيل الرواد (فرانك كابرا، راؤول والش)، مرورًا بأجيال الوسط (مارتن سكورسيزي، ستيفن سبيلبرج)، وصولًا لأجيال أحدث (جوردان بيلي). طبّق نفس القياس على الممثلين والمؤلفين وكافة التخصصات الأخرى، لتتصور قدر ثراء ما يحمله الكتاب الضخم من معلومات وخبرات، وحكايات ونميمة أحيانًا، فهو تاريخ شفاهي، أي أن النميمة جزء لا يتجزأ من طبيعته.

سنحاول في هذا المقال (وعدة مقالات تالية، لا يشترط أن تكون متتالية) أن نمر على مجموعة من أهم اقتباسات الكتاب، التي لا تكتفي بسرد التاريخ الشفاهي لهوليوود كما لم نسمعه من قبل، لكنها تلقي الضوء على ضرورة الشروع في مبادرات مماثلة لتوثيق السينما المصرية. وبالمناسبة هناك مشروع بدأته هيئة الأفلام السعودية لعمل أرشيف شفاهي للسينما العربية، نرجو أن يستمر ويتوسع ويشمل شهادات أكبر عدد ممكن ممن متعهم الله بطول العمر من رواد الصناعة.

بدايات غير متوقعة

الفصل الأول في الكتاب يتعلق ببدايات هوليوود، ويرصد كيف بدأت هذه الصناعة بمبادرات فردية من مغامرين، لم يكن أي منهم يتخيل أن يصير العمل في الأفلام مهنة بدوام كامل. انتقلت الغالبية إلى كاليفورنيا لمطاردة الشمس الساطعة التي تسهل تصوير الأفلام، وإذا بتلك التجمعات البشرية تتراكم لتكون أكبر امبراطورية سينمائية في العالم. تلك المدعوة هوليوود.

 

فرانك كابرا

 

فرانك كابرا (مخرج حاصل على ثلاث جوائز أوسكار): “حققت حلمي وتخرجت من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا كمهندس كيميائي، ولكن عندما عدت بعد الحرب العالمية الأولى، لم أتمكن من الحصول على وظيفة في مجال تخصصي. كنت بحاجة إلى العمل، لذلك حصلت على وظيفة ككاتب كوميدي في العروض الحيّة. لثلاث سنوات كان عليّ أن أكتب أشياء مضحكة لعروض حركية. كانت الكوميديا شيئًا يجب عليك التفكير فيه، وفي كثير من الحالات كان عليك التفكير في مهارات التمثيل الإيمائي أو البانتومايم. كان ذلك أصعب من أن تكون مضحكًا بالكلمات. لذلك كنت أفكر بطرق فكاهية قبل أن أصل إلى الأفلام الصامتة.

كنت أدخر المال الذي دفعوه لي لأنني كنت أفكر في العودة إلى معهد التكنولوجيا والحصول على الدكتوراه في الفيزياء، ثم عُرضت عليّ فرصة العمل في الأفلام، وكان العرض المالي أفضل. فكرت، حسنًا، يريدون حقًا أن يدفعوا لي هذا المال نظير تلك الأشياء الصغيرة السخيفة التي كنت أفعلها؟ قلت لنفسي: “هذا جنون. خريج معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا الذي لم يسبق له دخول استوديو سينمائي، ولم يسبق له أن كان في كواليس أي فيلم، يُعرض عليه أن يصنع أفلامًا للناس؟ هذا جنون، غير منطقي”. لقد كان ذلك أحد الأسباب التي جعلتني أحصل على ما أردت، لاستطاعتي أن أكون متعجرفًا. لم تكن السينما مجالي المهني، وبالتالي لم أضطر لتملق أي شخص. لم أهتم. إذا أرادوا أن يدفعوا لي مقابل الهراء الذي كنت أفعله، فلا بد أنهم مجانين، لكنني لم أهتم”.

فرانك كابرا

 

هاوارد هيوز (مخرج مرشح للأوسكار): “ذهبت لأعمل في شركة مترو، كنت مسؤولًا عن سبعين كاتبًا. ثم مللت من ذلك. لماذا أعمل مع عشرين مخرجًا، كل منهم يصنع حوالي ثلاثة أفلام سنويًا، بينما يمكنني الخروج والعمل على فيلم يخصني؟ لذلك استقلت. خرجت للعب الجولف، لأقابل بالصدفة مدير شركة فوكس الذي سألني: “ماذا تفعل؟”، فقلت: “ألعب الجولف”، قال: “لا، أعني ماذا تعمل؟: فقلت: “ألعب الجولف”، فقال: “حسنًا، أليس لديك وظيفة؟” فقلت: “لا”، فقال: “هل تريد العمل لدى فوكس؟” فقلت: “لو كنت تعني ما كنت أفعله من قبل، فالإجابة لا أريد، أريد أن أخرج فيلمًا”. فرد بسهولة: “حسنًا، احضر لي أي قصة تريد القيام بها”. ذهبت إليه بقصة درامية ومتشائمة للغاية بعنوان “الطريق إلى المجد Road to Glory”، وأنتج الفيلم. بعد الانتهاء من الفيلم قال لي: “لقد أظهرت قدرتك على الإخراج، الآن بحق المسيح اصنع أفلامًا يريد الناس أن يشاهدوها”. لذلك قمت بعمل قصة كوميدية في فيلمي التالي “أوراق التين Fig Leaves”، ليسترد الفيلم تكلفته من العرض في قاعة واحدة فقط. من يومها أتذكر الكلمات جيدًا: “اصنع أفلامًا يريد الناس أن يشاهدوها”.

هاوارد هيوز

الحرفة المختلفة في السينما الصامتة

كينج فيدور (مخرج مرشح لخمس جوائز أوسكار): “كانت سيناريوهات الأفلام الصامتة من النوع الذي يمكنك تعديله دون مقدمات، وكان من المتوقع منك كمخرج أن تقوم بذلك. لم يكن على أحد أن يكتب حوارًا، لأن فعل كان يستغرق وقتًا، ولم يكن على أحد أن يحفظ الحوار، لتوفير الوقت أيضًا. لذلك سيكون لديك عادةً سيناريو فيه مشهد يقول فقط: مشهد حب. كلمتين فحسب، وكان هذا كل شيء. في الواقع، كان المكتوب أحيانًا: مشهد معركة. وقد تقضي أسبوعًا لتصور هاتين الكلمتين. ذات مرة كان لديّ نص يشير إلى مشهد حب، فقلت: “لقد نفدت مشاهد الحب التي أعرفها”.

لم يكن لدينا الكلمات لشرح كل شيء. وكنا نفكر خلق اللغة من ترتيب الصور والاحتمالات. لقد تدربنا على تلك الطريقة، وعندما كان عليك شرح شيء ما، لم نفكر خلال الإخراج أو الكتابة بطريقة: ما هي الكلمة المحددة التي تشرح ذلك؟، وإنما كان علينا أن نفكر: ما هي الصورة التي تبحث عنها لشرح ما تحاول قوله؟”.

كينج فيدور

النميمة منذ التأسيس

لويس مايلستون (مخرج حاصل على جائزتي أوسكار): “النميمة كانت في كل مكان، لا أعني النميمة الشريرة، وإنما القيل والقال. أتذكر أن الناس كانوا يخبرون بعضهم البعض عن بيكفير Pickfair. هذا المنزل الهائل الذي عاش فيه النجمان دوجلاس فيربانكس وماري بيكفورد وحمل اختصار اسميهما. كم كانت النميمة واسعة عندما اكتشف الجميع أن خادمًا شخصيًا يرتدي زيًا رسميًا سيأتي ويفتح لك الباب هناك! لقد كانت هذه أخبارًا مفاجئة. أعني، من كان لديه كبير خدم آنذاك؟”.

لويس مايلستون

 

ميتشل لايسين (مخرج ومصمم ديكور وملابس مرشح للأوسكار): “بيكفير! يا له من مكان! كنت أنا وتشارلي شابلن نذهب هناك كل ليلة تقريبًا لتناول العشاء. كانت ماري تذهب إلى السرير، بينما نشاهد نحن فيلمًا. كان دوجلاس ينام أثناء العرض ثم يستيقظ فجأة ليقول: “هذا أحسن فيلم شاهدته في حياتي”. كان لديهما حمام تركي وحوض سباحة يوضع فيه ثلاثمائة رطل من الثلج كل ليلة. كنا كل ليلة نذهب لندخل الساونا ثم نغطس في حمام الجليد. ومن ثم يصعد الجميع ويخلدون إلى النوم عندما يتأخر الوقت، وفي الصباح يأخذون الرولز رويس ويذهبون إلى الاستوديو. كنت أقول: يا دوجلاس، عليّ أن أعود إلى المنزل أولًا لأرتدي ملابس نظيفة. وكان يقول: لدينا الكثير من الملابس هنا، ما الذي تحتاجه بحق الجحيم؟ كان بيتي ممتلئا بالملابس الداخلية والقمصان التي أخذتها من دوجلاس فيربانكس”.

ميتشل ليسين

 

هذه مجرد اقتباسات لا تُذكر من طوفان الحكايات والمعلومات التي ترسم صورة مدهشة عن هوليوود في مرحلة التكوين، وفي مقالات تالية سنتعرض لمزيد من المراحل والحكايات التي يمر عليها هذا الكتاب الضخم الممتع.

عن أحمد شوقي

ناقد سينمائي مصري ومبرمج ومشرف سيناريو. حاليًا هو رئيس الاتحاد الدولي للنقاد (فيبريسى)، ورئيس جمعية نقاد السينما المصريين. ينشر مقالات أسبوعية عن السينما وصناعة الترفيه. كما أصدر ثمانية كتب متخصصة حول السينما المصرية. شوقي يشغل منصب مدير منطلق الجونة، برنامج تطوير المشروعات والإنتاج المشترك الخاص بمهرجان الجونة السينمائي. كما إنه مدير التطوير لمنطقة الشرق الأوسط بمنصة "فيو" الإلكترونية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *