أحدث الحكايا

د. سارة حواس تحكي: ماريان مور.. الشاعرة التي تحدّت النقاد وعشقت الملاكمة

ماريان مور شاعرة أمريكية مُتوقِّدة ومُتعدِّدة المواهب؛ فهي ليست شاعرةً وحسب لكنَّها مُترجمة مُحترفة ورسَّامة موهوبة وكاتبة مقالات من العيار الثقيل، فكانت تكتبُ عن الرسم والنحت والموسيقى والموضة، وأيضًا عن اهتماماتها الرياضية.

الشاعرة الأمريكية ماريان مور

 

خلال قراءتي لشعرها وسيرتها الذاتية وجدت أنها وُلدت لأب وأم منفصلين، بل جاء انفصالهما قبل ولادة ماريان مور فتربَّت على يد والدتها ماري مور التي كانت تعيشُ في منزل والدها؛ جدّ ماريان مور الذي كان يعمل قسيسًا مشيخيًّا -أي تابع للكنيسة المشيخية- وكان جدُّها له وجودٌ مُؤثِّر في حياتها، ومن هنا بادرتني فكرة أن مور تربَّت على يد والدتها ووالدها لم يتم ذِكْرُه على الإطلاق سواء في المقالات التي كُتبت عن مور أو حتى في حواراتها المُتعدِّدة خلال فترة حياتها وشهرتها.

وبرغم تلك الحياة المُشتَّتة بين أب وأم منفصلين، انطلقت مور بمواهبها الفذَّة خارج نطاق هذا التشتت، وأثبتت ذاتها بمُنجزها الشِّعري والترجمي، ولم تترك فرصةً لذاتها أن تنتكسَ لبُعد والدها عن حياتها، وربَّما حُب جدها لها واهتمامه بها قد عوَّضها كثيرًا عن فقدانها لأبيها.

من فرط غرابتها اتهمها بعض بالنقاد بالجمود و انعدام العاطفة إلا أنها كانت تدافع عن نفسها قائلة بأن المشاعر من الصعب أن توصف حتى في الشِّعر وأن الصمت في أغلب الأحوال هو اللغة السائدة في وصف كل ما هو عميق ودفين في النفس البشرية.

ماريان مور في مرحلة الشباب
ماريان مور أثناء فترة شبابها

 

وهذا الجزء من حياة مور العائلية قد يلغي الفكرة التي تنتشر في مجتمعاتنا العربية وهي أن الأم وحدها لا تستطيع أن تربِّي وتنتجَ رجالًا ونساءً أسوياء ناجحين بل متفوقين ومتميِّزين في شتَّى مجالات الحياة. وهنا يستحضرني قول الشاعر المصري حافظ إبراهيم (١٨٧٢-١٩٣٢) في قصيدته ”العِلْمُ والأخلاق”: ”الأم مدرسةٌ إذا أعددتَها أعددتَ شعبًا طيِّبَ الأعراقِ”.

حياة ماريان مور

وُلدت ماريان مور في مدينة كيركوود بولاية ميسوري في الولايات المتحدة الأمريكية عام ١٨٨٧. وبعد وفاة جدها عام ١٨٩٤ انتقلت مع أسرتها إلى الإقامة في منزل أقاربهم، وفي عام ١٨٩٦ انتقلت مور مع والدتها وأخيها إلى ولاية بنسلڤانيا، حيث عملت والدتها كمعلمة لغة إنجليزية في مدرسة خاصة.

التحقت مور بجامعة برين ماور عام ١٩٠٥ وتخصَّصت في التاريخ والاقتصاد والعلوم السياسية وكانت الشاعرة الأمريكية الشهيرة هيلدا دوليتل (١٨٨٦-١٩٦١) زميلةً لها بالكلية منذ اليوم الأول.

بدأ شغف ماريان مور بالكتابة منذ أن كانت طالبةً بالجامعة فبدأت بكتابة قصص قصيرة للمجلة الأدبية في الجامعة التابعة لها، كما أنها كانت تسافر كثيرًا إلى مختلف الدول الأوروبية، وقد شكَّلت هذه الخبرات أهميةً كبيرةً في صقل موهبتها في الكتابة حتى أصبحت كاتبةً محترفةً بعد ذلك.

ماريان مور في تخرجها
circa 1910: A portrait of American poet and editor Marianne Moore (1887 – 1972) wearing a graduate’s cap and gown. (Photo by Hulton Archive/Getty Images)

 

عملت ماريان معلمةً في مدرسة كارليسل الهندية بين عامي 1911 -1915، ثم انتقلت في عام 1918 مع والدتها إلى ولاية نيويورك، واشتغلت مساعدةً في مكتبة نيويورك العامة في عام 1921.

لفتت موهبتها الشعرية انتباه العديد من الشعراء الأمريكيين المشاهير مثل الشاعر والاس ستيڤنز (1879- 1955)، والشاعر الشهير ويليام كارلوس ويليامز (1883-1963) الذي كان يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالحداثة والتصويرية، والشاعر الأمريكي الأشهر تي إس إليوت (1888-1965). وبدأت في الكتابة للمجلة الأدبية “ذا ديال” “The Dial”. وعملت بعدها مُحرِّرةً في المجلة نفسها.

كتاب ماريان مور الأول بعنوان “الشعر”

 

أما عن كتابها الأول ”الشِّعر” فقد نشرته الشَّاعرة الأمريكية هيلدا دوليتل عام 1921، ومن دون علم ماريان مور التي تألقت بعد ذلك وغَزُرَ إنتاجُها الشِّعري في الفترة من عام 1930 إلى عام 1940. فأصدرت كتابًا باسم ”قصائد مختارة” في عام 1935.

وفي عام 1944 نشرت كتابًا باسم ”مع ذلك”، وقد احتوى هذا الكتاب قصيدة مناهضة للحرب ” In Distrust of Merits” قال عنها الشاعر الإنجليزي الشهير ويستان هيو أودن (1907-1973) إنها من أفضل القطع الشعرية في فترة الحرب العالمية الثانية.

وقد حازت ماريان مور على العديد من الجوائز الأدبية الرفيعة منها جائزة البوليتزر وجائزة الكتاب القومي عن كتابها ”قصائد مختارة” عام 1951، كما أنها حازت أيضًا جائزة بولينجن في عام 1953.

كتاب قصائد مختارة’ “Selected Poems” لماريان مور

 

لها كذلك العديد من الترجمات، فقد ترجمت عددا من الأعمال كـ”أساطير لافونتين” عام 1954، و”مثل الحصن” عام 1956، وصدرت لها الأعمال الكاملة عام 1967.

ترجمة ماريان مور لأساطير لافونتين Fables of La Fontaine

 

الأعمال الكاملة للشاعرة ماريان مور The Complete Poems of Marianna Moore

 

عُرفت مور بحبها الشديد أيضًا للرياضة، وكان الملاكم الشهير محمد علي كلاي من ضمن أصدقائها ومعارفها الرياضيين، وكان لها زيٌّ تظهر به دائما في الحفلات العامة عبارة عن رداء أسود وقبعة تريكور.

ماريان مور مع الملاكم محمد علي كلاي

أسلوب ماريان مور الشعري

أما عن أسلوب ماريان مور الشعري ومنهجها الذي اتبعته في كتابة قصائدها، فظهر بوضوح شديد في قصيدتها الشهيرة ”الشعر – Poetry”، فعبرت عن اتجاهها إلى أهمية اللغة المُستخدمة في القصيدة والمعاني الصادقة التي تحملها لنا الشاعرة من خلال قصيدتها. أي أن الدقة في اللغة والصدق أهم بكثير من اتباع الوزن والقافية في القصيدة. فقد قالت:

”الشِّعر مسألة مهارة وصدق في أي شكل من الأشكال وأن ما يُكتب بشكل سيئ حتى ولو في شكل مثالي؛ لا يعتبر شعرًا’‘.

يتسم شعر مور بالدقة اللغوية ووصفها الدقيق وملاحظاتها القوية للبشر والأماكن والحيوانات والفن، كما أن انشغالها بالعلاقات بين المألوف وغير المألوف انعكس بوضوح في قصائدها الشعرية، واتسم شعرها أيضا بروح الدعابة والتواضع، واستخدمت الحيوانات بوصفها صورةً محوريةً وأساسيةً للتحدث عن الصدق والاستقلالية والفن والطبيعة. كما ظهر ذلك على سبيل المثال في قصيدة ”صمت – Silence” التي ذكرت فيها ”القطة” و”الفأر”، كما أنها ذكرت ”التنين” في قصيدة ”لقد صنع هذه الشاشة”.

من فرط غرابتها اتهمها بعض بالنقاد بالجمود وانعدام العاطفة، إلا أنها كانت تدافع عن نفسها قائلة إن المشاعر من الصعب أن توصف حتى في الشِّعر، وإن الصمت في أغلب الأحوال هو اللغة السائدة في وصف كل ما هو عميق ودفين في النفس البشرية.

 

أما عن شكل قصيدتها فكانت تكتب شعرًا من مقطعين “Syllabic Verse”، مستخدمة المقاطع “Stanzas” التي تحتوي على عدد مُحدَّد منقبل من المقاطع لبناء قصيدتها، وكانت تستعير بعض أجزاء ومُقتبسات من كُتَّابٍ آخرين في أعمالها.

وبرغم تشبيهاتها الغريبة غير التقليدية بعض الشيء، والتي تترك العَنان لخيال القارئ للتأويل والوصول إلى المعنى المقصود على حسب رؤيته وإحساسه الخاص، إلا أنها وبصورةٍ مُدهشةٍ كانت تنجح في دمج الصور المألوفة بأشياء أخرى غريبة غير مألوفة لتصل في النهاية إلى هدفٍ معينٍ من تلك الصور الشعرية أو إلى معنى أو مبدأ في الحياة.

ومن فرط غرابتها اتهمها بعض بالنقاد بالجمود وانعدام العاطفة، إلا أنها كانت تدافع عن نفسها قائلة إن المشاعر من الصعب أن توصف حتى في الشِّعر، وإن الصمت في أغلب الأحوال هو اللغة السائدة في وصف كل ما هو عميق ودفين في النفس البشرية.

ماريان مور

 

في حوارٍ مع ماريان مور أجراه معها الشَّاعر والمُحرِّر والناقد الأدبي والكاتب دونالد هول (1928-2018)، تحدثت فيه عن السن الذي بدأت الكتابة الشعرية فيه، وقالت إنها بدأت الكتابة وهي في الثامنة عشر أو التاسعة عشر من عمرها. وقالت إنها لم يكن لديها أي خطط أدبية، لكنها كانت مهتمة بالمجلة الأدبية الشهرية في جامعتها؛ كانت تكتب قصيدة أو قصيدتين قصيرتين لهذه المجلة، ولكن وقع الاختيار عليها من قِبَل المُحرِّرين لتنضمَ إليهم كمحرِّرة في المجلة نفسها.

وعندما تخرجت قدَّمت مساهمات -“لم أحصل على مقابل مادي لها”- لمجلة الخريجات “ذا لانتيرن – The Lantern”، وقالت إنها كانت تشعر بأنها لم تقدِّم مُنجزًا شعريًّا يهزُ العالم. كما تحدثت عن حبها للقصص والخيال، وقالت إن هذا يبدو مثيرًا للشفقة بعض الشيء وغريب، ولكن الشعر بالنسبة إليها هو ثاني أفضل شيء يمكن أن تفعله، كما أنها لم تكن تكتب عملًا كاملًا مرةً واحدةً، لكنَّها كانت تكتبُ جزءًا من قصيدةٍ، وجزءًا من مسرحية أو جزءًا من روايةٍ، وأنها صادقة في كل ما تكتبه، وأن المسرح هو الشكل الأكثر متعة بالنسبة إليها.

 

تُوفيت ماريان مور عام 1972، بولاية نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية إثر إصابتها بسكتةٍ دماغيةٍ، تاركةً إرثًا أدبيًّا مُختلفًا شكلًا وموضوعًا، جعلها من أكثر الشاعرات المؤثِّرات في الساحة الشعرية الأمريكية والعالمية في القرن العشرين.

قصيدة لماريان مور

 

صمتٌ

 

اعتَادَ أبي أنْ يَقُولَ: “الأشخَاصُ الرَّائِعُونَ

لا يَقُومُونَ بزِيَاراتٍ طَويلَةٍ أبدًا،

يَجِب أن يَتَعرَّفُوا قَبرَ لونج فيلو

والأزهَارَ الزُّجَاجِيَّةَ في جَامعِةِ هارڤارد.

يَعتَمِدونَ على أنفُسَهِم كَقِطَّةٍ

تأخُذُ فَرِيسَتَهَا على انفِرادٍ،

يَتَدلَّى من فَمِها ذَيلُ الفَأرِ الضَّعيفِ

كرِبَاطِ حِذاءٍ.

أحيَانًا يستَمتعُونَ بالعُزلَةِ

ويُحرَمونَ من حَدِيثٍ

بحَديثٍ آخر يُبهِجَهُمْ.

أعمَقُ شُعُورٍ يُظْهِرُ

نفسهُ دائِمًا في الصَّمتِ،

ليس في الصَّمتِ،

ولكن في ضَبطِ النَّفْسِ”.

ولم يَكُن صَادِقًا في قَولهِ:

“اعتَبِرُوا منزِلي حَانَتَكُم،

الحَانَاتُ ليست مَنَازِلَ”.

عن د. سارة حامد حواس

مترجمة، مدرس اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة المنصورة، تخرجت في الكلية نفسها بتقدير جيد جدا مع مرتبة الشرف، وحصلت منها على درجتي الماجستير والدكتوراه في اللغويات التطبيقية. حصلت على عديد من الدورات التدريبية، وشاركت في كثير من المؤتمرات العلمية الجامعية. ولها أبحاث في التخصص منشورة في عدد من المجلات المصرية والأجنبية. وهي منسقة البرنامج التخصصي للغة الإنجليزية والترجمة بكلية الآداب جامعة المنصورة، ومنسقة الكلية لدى نادي أعضاء هيئة التدريس بجامعة المنصورة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *