في شهر يوليو من هذا العام 2024، مرت الذكرى 110 لميلاد الكاتب المصري والعربي الكبير د. يوسف عز الدين عيسى المولود في 17 يوليو 1914 بمحافظة الفيوم، وإن كان يُحسب على مبدعي الإسكندرية التي عاش فيها معظم حياته. هو رائد في مجالات عديدة منها الدراما الإذاعية، وأدب الخيال العلمي، والرواية بشكلها الحديث، وقد حظيتُ بلقاء معه في بيته، بعد أن كان السبب في تركي لعملي هو و”الرجل الذي باع رأسه”.
معظم مكتبتي الخاصة منذ كنت طالبًا في المرحلة الثانوية كانت من “شارع النبي دانيال”، شارع الكتب المستعملة بالإسكندرية، وهو الشارع الذي اشتهر بأن تحته قبر الإسكندر الأكبر، وحدثت فيه الحادثة الشهيرة لابتلاع أسفلت الشارع لزوجة أحد الصحفيين السكندريين، ولكن هذه قصة أخرى.
في الإجازة الصيفية صادفت نسخة قديمة من رواية لفت اسمها نظري بشدة، ولم أساوم البائع لأحصل عليها “الرجل الذي باع رأسه”. قرأت بعض صفحات الرواية في المواصلات، لم أنم ساعة القيلولة كعادتي، وواصلت قراءة الرواية، تناولت الطعام سريعًا بسبب إلحاح أمي، وواصلت قراءة الرواية، ظللت حتى الفجر أقرأ، حتى نمت دون أن أشعر، ثم فوجئت بأخي حسام يهزني لأستيقظ في السادسة والنصف صباحًا، فلدينا موعد عمل.
منذ كنا أطفالًا يحثنا أبي على العمل في الإجازات الصيفية، من أجل أن نعرف الحياة، والناس، وقيمة العمل، وكيفية الحصول على “القرش”، وليؤكد لنا أن الخبرة هي هدفه الأول من عملنا كان يمنحنا في أيام الأجازة المصروف نفسه الذي يمنحه لنا أيام الدراسة.
قمت متعبًا أقاوم النوم بصعوبة، فتحت عيني وجدت الرجل الذي باع رأسه ينظر إلي، وأخي ينظر إلي، فكرت أن أواصل النوم، لكني عرفت ما سيحدث من تأنيب أمي لي بصفتي “مش بتاع شغل، وإخواتي الأصغر يتحملون المسؤولية أفضل مني، وأبي لا يحتاج إلى شغلنا ولكن نحن من نحتاج إلى أن نكون رجالًا”، أمي تعبر عن رأيها بهدوء، لكنها تقوله على أي حال، والأفضل أن أذهب إلى العمل الذي عثر عليه أخي، وبعد العودة أنام وأقرأ كما أشاء.
الرجل الذي باع رأسه.. ينادي
“سنجمع بامية”. لم أفهم الكلمة. ولا أحب أكل البامية أصلًا (بعد سنوات طويلة من الزواج أقنعتني زوجتي بتجربتها، ووجدت أنني خسرت أعوامًا من المتعة بلا مبرر). لكنني ذهبت مع حسام لأعرف طبيعة العمل.
عشرات الأولاد والبنات، بأيديهم سكاكين صغيرة وأجولة، مهمتهم قطف البامية وملء الأجولة بها. عمل سهل. أخذت أدوات العمل، وبدأت. بعد نصف ساعة شعرت بملل، نصف ساعة أخرى والملل يتزايد، نصف ساعة أخرى والرجل الذي باع رأسه يناديني. لم أشعر بنفسي إلا وأنا أذهب إلى المشرف على العمال، أسلمه السكين الصغير، وجوال به كمية ضئيلة جدًا من البامية، فقد اكتشفت أنني كنت معظم الوقت سارحًا في استعادة أحداث الرواية التي شغفتني حبًا. وتركت العمل دون أن أخبر أخي (شعور رائع لم أفعله سوى مرة أخرى في مناسبة مختلفة. ثم عرفت أنه أكثر من رائع وألذ من اللذة عندما أصبحت مسؤولًا عن أسرة، واتخذت قرار ترك العمل عشرات المرات لمئات الأسباب، ولم أجرؤ على تنفيذه).
هروب من أجل الرجل الذي باع رأسه
ما الذي أتي بك مبكرًا؟ وأين أخوك؟
جئت من أجل الرجل الذي باع رأسه، وأخي في البامية!
تعلم أمي وأسرتي أن الكتب “لحست عقلي” بشكل ما، وأعتمد على هذه السمعة الطيبة في فعل ما يحلو لي!
في الجامعة كنت أشتري مجلة “أكتوبر” أسبوعيًا، من أجل مقال أنيس منصور الذي كان يمثل إدماني القرائي في هذه الفترة، وعلى صفحاتها قرأت رواية “التمثال” ليوسف عز الدين عيسى مسلسلة، ولكم كرهت كون المجلة أسبوعية من أجل هذه الرواية، تمنيت أن تكون يومية، أو حتى تصدر مرتين باليوم صباحًا ومساءً حتى لا تنقطع صلتي بالتمثال لمدة أسبوع كامل.
ليوسف عز الدين عيسى قدرة غير عادية على ابتكار موضوعات رواياته، وحكي أحداثها بلغة ممتعة، وتشويق، مع معانٍ عميقة تتخلل كل سطر، مما يجعل القارئ في حالة متعة وتفكير متلازمين طوال القراءة وبعدها لمدة طويلة.
بعد التخرج في الجامعة، والعمل محررًا أدبيًا في بعض الصحف المحلية بالإسكندرية، كان أول من سعيت لإجراء حوار معه د. يوسف عز الدين عيسى. فبدأت أبحث عنه لأعرف بعض المعلومات قبل المقابلة. فاكتشفت أنه ليس أقل من “أسطورة”؛ أحد رواد أدب الخيال العلمي العربي، أول كاتب عربي يكتب المسلسل الإذاعي عام 1955 (عدو البشر) تبعه بعشرات الأعمال الإذاعية والتليفزيونية لعل من أشهرها “العسل المر” و”لا تلوموا الخريف”، كتب كثيرًا من الأعمال الإذاعية لإذاعة (بي بي سي) مثل “هذه الدنيا”، “شجرة الياسمين”، “خطاب إلى الله”، وهذه الأخيرة كانت مجال معركة مع محمد حافظ رجب، الذي قال إنها فكرته هو.
يوسف عز الدين عيسى هو الكاتب الذي كانت شوارع مصر تفرغ حرفيًا من البشر أثناء إذاعة مسلسلاته. تخرج في كلية العلوم جامعة القاهرة عام 1938 وعين معيدًا بها، ثم طلب نقله إلى جامعة الإسكندرية وهي تحت الإنشاء ليكون أحد مؤسسيها ويستقر بالإسكندرية طوال حياته. هو أول كاتب يعيش خارج القاهرة يحصل على جائزة الدولة التقديرية عام 1986، ووسام الجمهورية، كما أنه حصل على وسام فارس الأدب عام 1999.
كان عيسى يسكن في منطقة رشدي فيما أذكر، وصلت قبل موعدي الذي حددته معه تليفونيًا بثلث ساعة. فكرت أن أصعد إليه فورًا ليرى كيف أن المصريين يحافظون على مواعيدهم (!) فقد أخبرني من أعطاني رقمه أنه عاش في إنجلترا فترة، وحصل منها على شهادة الدكتوراه، ويحافظ على مواعيده بالثانية، وسيغضب لو تأخرت عن الموعد المحدد. لكنني آثرت أن أنتظر، ثم صعدت إلى شقته، وقفت أمامها، نظرت إلى ساعة يدي، انتظرت نصف دقيقة ثم ضغطت الجرس ففتح لي بنفسه فورًا وكأنه يقف خلف الباب.
شكرني على التزامي بالموعد، وعندما أخبرته أنني أنفقت ثلث ساعة في الشارع؛ علمني أن المجئ مبكرًا خطأ كالمجيء متأخرًا، لأن المضيف لن يكون مستعدًا لاستقبال ضيفه إلا في الموعد المحدد، فحمدت الله على التسكع.
حكيت له قصتي مع الرجل الذي باع رأسه، فضحك، ثم حدثني عن حياته، وأدبه، وأعماله الإذاعية، ومعاناته في كلية العلوم التي كان معظم أساتذتها وقتها لا يقدرون الأدب، وبالتالي ينظرون إلى د. يوسف نظرة أقل مما يستحق، وبينما يعرفه العالم، ويحصل على جوائز الدولة، ويفتح آفاقًا جديدة في الكتابة الروائية والإذاعية والتليفزيونية، يتعلم ويستمتع على يديه آلاف القراء والمستمعين والمشاهدين، ويرشح لجائزة نوبل كما ذكر الكاتب الكبير يوسف الشاروني، يرى زملاؤه لا جدوى ما يفعله لأنه لا يمت لتخصصهم بصلة!
ظللت؛ وحتى الآن، أفخر بهذا اللقاء مع د. يوسف عز الدين عيسى، وعندما أنشأت مع صديقي حسام عبد القادر ومحمد حنفي أول مجلة ثقافية مصرية على الإنترنت (أمواج سكندرية) حرصت على عمل ملف عنه في مارس 2001، بمساعدة ابنه د. أيمن -رحمه الله- وابنته فاتن؛ اللذين ظلا دائمًا حريصين على تراث والديهما، ونشر أعماله، ومتابعة الحديث عنه، ليعطيا مثلًا رائعًا لا نجده كثيرًا في أبناء المبدعين.
أخيرا
أعرف عزيزي القارئ أنني لم أحك أحداث ولا مضمون الرجل الذي باع رأسه، ولا التمثال، ولا غيرها مما قرأت أو شاهدت من أعمال يوسف عز الدين عيسى، فهي متاحة ورقيًا وعلى الإنترنت واليوتيوب، وأستغل هذا المقال لأدعو لقراءة ومشاهدة واستعادة هذا الكاتب المهم، فلدينا كنوز تضيع وسط الكثير من الصخب الفارغ، وعلينا أن نحافظ عليها ونحييها.
سنحاول بكل تأكيد الوصول إلى روايات هذا المبدع الكبير، شكرا لك على هذه الاطلالة الفريدة لادب دكتور يوسف عز الدين
ألف شكر لحضرتك أستاةة سوسن حمدي
أحسنت النشر أستاذ منير، بالفعل هناك الكثير من العظماء اللذين يستحقون مراجعة أعمالهم بالقراءة والتعرف علي ملكاتهم الإبداعية، أشعر أن مانقرأه لك هنا ماهو إلا سيرة ذاتية تنشر علي حلقات.
ألف شكر أستاذة أمينة الزغبي
ماشاء الله..نشكركم على هذه النصائح والإضافات .بالفعل لدينا كنوز تضيع بين الصحف الفارغ..الف مبارك
تسلمي الصديقة المبدعة والناقد د.حنان الشرنوبي
مقال شيق ومفيد لسيرة ذاتية وقامة أدبية دام نبض القلم المبدع تحياتي
ربنا يحفظك أ.نبيلة المسيري
مقال رائع
ألف شكر المبدع كرم الصباغ
محاولة ممتازة للتعريف بكاتب لم يوفقنا القدر للتعرف عليه
شكرا جزيلا أ.عبد الله
أستاذ منير الأديب والناقد والعلم المعطاء المتألق. حضرتك بالفعل مثل نادر في انضباط الوقت ودقة الإدارة لمجالس الأدب. فمن الواضح أنك تشبعت بأخلاقيات جيل الأدباء والمثقفين العظماء. العرض سائق. والمعلومات الخاصة بالأستاذ يوسف مهمة جدا ولا تقل خطرا عن تحليل أعماله. ولعلها مدخل مهم لنوع من التثقيف الواعي بأخلاقيات وصفات يحتاجها الأديب والناقد مثلما يحتاجان إلى أدوات النقد والإبداع. أنا فعلا استمعت وأفدت. بارك الله فيك ونفع بعطائك.
تسلم صديقي الناقد د.محمد الحداد
ليس مجرد مقال…
معه تاخذك متعة السرد إلى عالم آخر، وإضافة تجعلك تحلق مع أفكار الكاتب الذي أمسك بتلابيب عقلك وأبحر بمشاعرك حتى السطر الأخير.
شكًرا أديب السهل الممتنع صديقي أستاذ منير عتيبة 🌺
#إبراهيمفرحات
تسلم صديقي المبدع الشامل إبراهيم فرحات
لعلى قرات المقال بالكامل وأدهشنى ههذه المعلومات عن كاتب بحجم يوسف عز الدين عيسى كرائد لقصص الخيال العلمي والكتابة الاذاعية تستحق ان يكون هناك جائزة باسم هذا الاديب الكبير او اى مقترح لتكريم اسمه
كما اود شكر الاديب الكبير منير عتيبة على لمسة الوفاء والحس الانسانى المرهف
شكرا جزيلا أستاذ عمرو عبد التواب. وأتفق معك تماما
جزيل الشكر عل تلك الذكريات التي تعرف وتعلم وتمتع
أولا عرفتني إن هناك من كتب عن الخيال العلمي والرعب قبل د أحمد خالد توفيق
ثانيا علمتنا كيفية ان تصنع من أولادك رجال يتحملوا المسؤلية منذ نعومة اظافرهم
ثالثا جمال السرد والحكى جزيل الشكر
ألف شكر أ.إيزيس طايل
شيء ممتع قراءة مقالات حضرتك المتنوعة والتي تجمع بين المعلومة وتسليط الضوء علي احداث وشخصيات تستحق ان نعيد ذكرها حتي لا ننساها بفعل الزمن ..
اتشوق لمزيد من الحكايات والشخصيات تحدثنا عنها بلغة سردية سهلة وبسيطة و محببة للنفس قريبة لوجدان القارئ ..
تمنياتي بمزيد من التألق والنجاح لحضرتك استاذي الفاضل
ألف شكر المبدعة أماني عز الدين
مقال لم نستطع أن نغفل عن حرف فيه، جاذب شائق ثري، خبرة حياتية مهمة مع أديب متفرد بعرضٍ متميز..سعدتُ كثيرًا بالقراءة.
ربنا يحفظك المبدعة الأخت هناء سليمان
أديب قدير ومبدع قرأت له في سنوات الشباب وأظنه مظلوما إعلاميا. شكرا جزيلا صديقي العزيز على هذا المقال الجميل
تسلم يا صديقي المبدع محمد الحديني
أبدعت كعادتك دكتور منير مثل هذه الحكايات تستحق النشر والدراسة دائما تحفزني على قراءة المزيد والآن جعلتني ابحث عن كتابات ال لأديب المبدع الراحل يوسف عز الدين رحمه الله ، وفي كل سطر قرأته تذكرت الكثير بداياتي مع قراءة القصص وتوبيخ عائلتي لي ومروري بشارع دانيال الاسكندرية وكل شوارعها واقتناء الكتب باختصار أنت تكتب مانشعر به ونعيشه 🌸
شكرا لأنك تنور عقولنا بإبداعك
حفظك الله د.حواء محمود
خليط أبدع الاستاذ منير عتيبة فيه كالعادة بين السيرة الذاتية له وللمبدع الراحل يوسف عز الدين الذي أظنه لم يأخذ حقه إعلاميا وخلال هذا السرد الرائع تاريخ الأماكن والذكريات شارع النبي دانيال وأكشاك الكتب القديمة وماتحويه من تراث الأدباء وبدايات الأدباء اللاحقين والقاء الضوء على رواية بعينها تكون مدخل للكاتب نفسه أحسنت أديبنا المبدع وفي انتظار المزيد
ألف شكر أستاذ عادل عرفه
الأديب الراقي أ/ منير غتيبة، مدير ومؤسس مختبر السرديات بمكتبة الإسكندري. حضرت تمتاز بالمقابل المنوع، يعده البعض سيرة ذاتية، والبعض الآخر حكي وفضفضة، وهو في الحقيقة يمثل المقال الشامل، كطبق فاكهة كبير الحجم يجمع بداخله أنواع شتى من أصناف الفاكهة.
مثلا هنا نجدالذكرى، الموقف، المعلومة، العلاقة بين صاحب المقال والمكتوب عنه(الضيف)، السرد بأسلوب راوي، تنهيدة في جملة وضحكة أو ابتسامة في أخرى(التعبير)، تنبيه وربما تحذير (إرشاد)، رسالة، وفي النهاية هو تكريم ولو كان بعد فوات الأوان.
سعدت جدا بما كتبت هنا، عشت كالعادة مع ضيفك الملتزم، رغم أني لمست من تنويهك أنه تعلم الإنضباط في مواعيده من إنجلترا، وهذا وإن كان هو يقرها، إلا أننا نحن العرب نقدر هذا ونلتزم مع من يفضل الإلتزم؛ بدليل أنك كما قلت له:(تسكعت حوالي ثلث ساعة بالشارع)؛ فكنت ممثلا عن الملتزمين الذين أكن لهم كل إحترام.
صديقي وزميلي القدير.. دمت ودام إبداعك💐
يسلم قلمك أستلذة سالمة النغربي
مقال أكثر من رائع كالعادة
ألف شكر أستاذة راندا