الموت شيء مبهج؛ خليط جميل من القرص اللذيذة والبرتقال أو الموز أو التفاح، وربما قروش بيضاء تشتري قدرًا لا بأس به من الحلوى. والموتى هم أولئك الطيبون الذين يرسلون لنا كل هذه الأشياء الجميلة مقابل بضع كلمات هي “الله يرحمه أو يرحمها”.
هكذا كنت أرى الموت وأنا في كُتّاب القرية قبل الدخول إلى المدرسة الابتدائية، أنتظر وزملائي يوم الخميس بفارغ الصبر، ليس فقط لأن اليوم التالي له هو الجمعة؛ إجازة، لكن أيضًا لأنه يوم الهدايا التي يرسلها لنا الموتى.
رُسل الموتى
كان رسل الموتى غالبًا من النساء، امرأة عجوز، أو متوسطة العمر، أو شابة، لكنهن جميعًا يرتدين زي رسول الموت؛ الأسود، ويحملن سَبَتًا أو طشتًا ألومنيوم به الخيرات التي أرسلها الميت لتلاميذ الكُتّاب، أحيانًا يكون مع إحداهن طفل صغير أو طفلة، تقف صامتة، وتبدو على ملامحها الأمارات نفسها البادية على السيدات الأكبر؛ الحزن والألم وتوهة العيون الزائغة. لكن كل ذلك لم يكن يستوقفنا، أو يعنينا، لم نكن نتعاطف مع ألوان الملابس ولا أحزان العيون، بل تتطلع عيوننا إلى داخل السَبَت المغطى ببشكير، أو الطشت المخفي بملاءة، لنعرف ما فاكهة اليوم القادمة مع القرص، ونهلل فرحًا عندما تكون رسول الموت ميسورة الحال فتضيف العجوة إلى الهدايا المعتادة.
كان للموت رائحة البرتقال الطازج، أو اليوسفي، أو الجوافة؛ حسب الموسم. وله ملمس الموز الطري، ولذة القرص المحشوة بالعجوة، بدون أن نشعر بمرارة الفقد المختلطة بها من يد السيدة التي خبزتها.
نادرًا ما يمر خميس بدون إرسال تلك الهدايا، فكل أسبوع يأتي يكون قد مر أسبوع على موت أحدهم أو إحداهن، أو يكون قد مر أسبوعان فيأتي “الخميس الكبير”، أو مر أربعون يومًا فتأتي ذكرى الأربعين، لذا كنا نحصل على هدايا في ثلاث مناسبات عاجلة من الميت، ومناسبة أخيرة مؤجلة في ذكراه السنوية. والبعض كان يرسل هداياه يوم الإثنين، فقد وقر في الوجدان الشعبي أهمية يومي الإثنين والخميس فهي أيام تُرفع فيها الأعمال إلى الله، وفيها يصوم الكثيرون، وكثيرون يزورون مقابر أحبابهم فيهما.
كان للموت رائحة البرتقال الطازج، أو اليوسفي، أو الجوافة؛ حسب الموسم. وله ملمس الموز الطري، ولذة القرص المحشوة بالعجوة، بدون أن نشعر بمرارة الفقد المختلطة بها من يد السيدة التي خبزتها.
الموت طين وصراخ وقبر مفتوح
لا أعرف متى بدأت هذه العادة في الخفوت، توقف الموتى عن إرسال الهدايا لأطفال الكتاب ولزوار المقابر ومقرئي القرآن بها، ربما انشغل الموتى عنا، أو أصبحوا فقراء، أو أصبح رسلهم يضنون بما يصرفونه مقابل دعاء من طفل لا يفهم معنى ما يدعو به، لكن يوم الخميس لم تعد له بهجته المعتادة، وأصبح للموت أشكال أخرى.
رأيته في الطين تلقي به أمي على رأسها حزنًا على موت عمها المحبوب، حتى أنني كتبت قصيدة بعد ذلك بسنوات عن ذلك المشهد، كانت من أوائل ما نشر لي في جريدة الأخبار.
رأيته في صراخ زوجة عم أبي تدفع الرجال بعيدًا عن فتحة قبر زوجها “لا تغلقوه، لا تتركوه وحده، سأذهب معه، ادفنوني معه”، وعندما تعبوا من جذبها بعيدًا أمرهم أبي: “اتركوها تدخل معه، لا تحرموها مما تريد”، فتركوها، تحركت خطوتين، نظرت من فتحة القبر، شعرت بالخجل من الرجال الذين ينظرون إليها منتظرين ما ستفعل، لملمت حزنها ووجع الفقد بطرحتها التي غطت بها نصف وجهها السفلي، وحملتها قدماها ببطء شديد يئن تحته تراب المقابر، عائدة إلى بيتها الذي لم تخرج منه بعد ذلك إلا نادرًا.
ظللت لفترة أقف في بلكونة شقتي في موعد عودته من العمل وأراه قادمًا حقيقة لا خيالًا، ثم أكتشف أنه شخص آخر عند مروره بالقرب من بيتنا، لم يكن الموت، بل هو أبي الذي يرسله إليّ الموت ليصبر قلبي رويدًا رويدًا.
رأيته عندما عدنا من عزاء جدتي، وفتح أبي التليفزيون لإخوتي الصغار، وعندما نبهته أمي أن هذا “عيب” أن يسمع الجيران صوت التليفزيون ولابد أن يظل مغلقًا أربعين يومًا، قال لها: “هذه عادات بلا معنى غير النفاق، إغلاق التليفزيون لن يعيد من مات ولن يفيده حيث ذهب، لكنه فقط سيضايق الأولاد. الحزن في القلب لمن لديه حزن حقيقي”.
الموت يسلب أبي بنعومة.. فلا أعود طفلًا
سمعت عنه في أحاديث أبي الكثيرة وهو يذكره كأنه فرد من الأسرة، ويدعو أن يزوره قبل أمي، ويصف لنا حياة الأسرة إذا رحل هو أولًا، وإذا رحلت أمي قبله، ويرى أننا سنكون أفضل حالًا في وجود أمي التي تغضب منه غضبًا حقيقيًا وتطلب منه الكف عن مثل هذا الكلام وتردد بصوت شبه باك: “ربنا يجعل يومي قبل يومك”.
لم أشعر به وهو يسلب مني أبي بنعومة، ذهب أبي إلى المستشفى يوم الأربعاء مع إخوتي، ومات فيها يوم الجمعة، ولم أستطع زيارته يوم الخميس لظروف عملي الذي لم أكرهه قط مثلما كرهته في ذلك اليوم. عدنا به من المستشفى، أردت أن أبكي وأصرخ آخذًا حقي كاملًا في الانهيار، بعد أن شعرت فجأة بأنني لم أعد طفلًا (كنت وقتها زوجًا وأبًا لكن وجود أبي يجعلني خفيفًا كطفل، مطمئنًا لوجود من يحمل عني عبء الحياة)، لكنني اضطررت لأن أكون أبي في اللحظة نفسها التي فقدناه فيها. استقبلتني أختى عزة أمام البيت صارخة، أخذتها في حضني، طبطبت على ظهرها.
قلت لها: ابكِ كما تشائين، لكن لا تصرخي، هذا يعذب أبي، هل تحبين تعذيبه؟
عزة ذاهلة: لا.
أنا: بابا لم يكن يحب الصراخ، صح؟
عزة ذاهلة: صح.
أنا: طيب ادخلي، ابكِ، لكن لا تصرخي، ولا تسمحي لأحد بالصراخ حتى لا يزعل بابا منا.
عزة مستمرة في ذهولها: حاضر.
واحتضنتني حضنًا قويًا تدشن به أبوتي لها ولبقية إخوتي، كنت بحاجة إلى هذا الحوار معها لأذكر نفسي بالموقف الذي أصبحت فيه، وبحاجة لهذا الحضن لأبدأ في الحلول محل أبي، أما عزة فكانت بحاجة لأن تشعر أنها لم تسقط فجأة من قمة العالم إلى الفراغ المجهول، فقد كانت أقربنا إلى قلب أبي، البنت الأولى التي أضاءت حياته بعد ولدين، فكانت ابنتنا كلنا.
دخلت عزة إلى البيت، تمشي في ذهولها، لكنها مصممة على عدم إغضاب أبي، عرفتُ أنها صرخت في غضب في أية سيدة تحاول الصراخ (الصويت)، حتى لو كانت عمة أو خالة، لكنها لم تتوقف عن البكاء، ربما حتى الآن.
بعد زمن؛ اكتشفت أنه ثوان، كانوا قد أجلسوني على كرسي، وبدأت أفيق، أسمع الأصوات المتداخلة التي تحاول الاطمئنان علي، أعود لرؤية من حولي كما اعتادت عيني أن ترى.
ظللت لفترة أقف في بلكونة شقتي في موعد عودته من العمل وأراه قادمًا حقيقة لا خيالًا، ثم أكتشف أنه شخص آخر عند مروره بالقرب من بيتنا، لم يكن الموت، بل هو أبي الذي يرسله إليّ الموت ليصبر قلبي رويدًا رويدًا.
ظل إخوتي الذكور يزورون قبر أبي من وقت لآخر، ولا أذهب معهم، لا أشتاق لزيارة قبره، فهو ليس هناك، هو دائمًا معي هنا.
سألني أحد الأصدقاء بعد وفاة أبي بأيام عن شعوري عندما مات أبي، استغربت السؤال لكني وجدتني أجيب بدون تفكير: شعرت بالراحة!
ثم فسرت له: أبي عزيز النفس جدًا، خرج من البيت إلى المستشفى يتسند على الجدران رافضًا أن يسنده أخي، لم يكن يحب الشعور بالضعف والاحتياج. أبي؛ ولا أزكيه على الله، كان يحب الله، يداوم على الصلوات في المسجد القريب من البيت (ظل المصلون يدعون له في الميكروفون عقب كل صلاة لعدة أيام)، الطبيب قال لأخي إن أبي لو عاش فغالبًا كان سيصاب بشلل نصفي بسبب جلطة. هذا الرجل لو عاش ربما لسخط على نفسه وعلينا وعلى ربه عندما يرى نفسه محتاجًا إلينا في أبسط الأشياء، لكنه هكذا رحل كما يتمنى وهو سائر على قدميه، غير محتاج لأحد، لا يذكره أحد إلا وهو في أفضل حالة.
لكنني لم أخبر صديقي أن هذا التحليل هو ما كان سيقوله أبي، أما أنا فأريده أن يعود ولو “عضم في قفة”؛ بتعبير أمي، حتى أعود طفلًا ولو ساعة.
البرزخ لونه أبيض
أحب قراءة أقوال من يحكون أنهم عادوا من الموت، كثيرًا ما ذكرها في كتبه أنيس منصور؛ كاتب شبابنا المفضل، أستمتع بها، أتخيلها، لكني لا أصدقها، فالموت بالنسبة لي طريق اتجاه واحد لا يمكن العودة منه، سأصدق المعجزات التي وردت في القرآن الكريم فقط، أما غير ذلك فاعتبرته دائمًا من قبيل الخيال الأدبي الممتع، أو الوهم الذي يظن صاحبه أنه حقيقة.
لذلك لا أرى أن تجربتي التي استغرقت دقيقة أو أقل أو أكثر قليلًا؛ عودة من الموت، بل وقوف أمام شارعه الطويل، التحديق في الأسفلت الضبابي، والعودة.
منذ أشهر قليلة؛ كنت أشتري دواءً من الصيدلية القريبة من بيتنا، انتظرت دوري، كنت أعد من سبقوني للحضور، ألاحظ حركة الصيدلانية ومساعدتها في تلبية ما يريدون لأحدد الوقت الذي سأنتظره. فجأه شعرت بأن جسدى بدأ يتلاشى، أو بالأحرى لم أعد أشعر بوجوده، ولم أعد أسمع شيئًا مما يدور حولي، اختفت الأصوات تدريجيًا، لكن التدرج كان بمنتهى السرعة، واكتسى كل ما حولي بلون أبيض يشبه الضباب بالسرعة نفسها، سمعت صوتًا عاليًا كنقرتي غراب؛ هما خبطة رأسي في خشب الطاولة التي كنت أقف بجوراها، وخبطة جسدي على الأرض، ثم لم أعد أشعر بشيء.
بعد زمن؛ اكتشفت أنه ثوان، كانوا قد أجلسوني على كرسي، وبدأت أفيق، أسمع الأصوات المتداخلة التي تحاول الاطمئنان علي، أعود لرؤية من حولي كما اعتادت عيني أن ترى. قاست الصيدلانية لي الضغط فوجدته منخفضًا بشكل غير طبيعي، وقاست السكر فوجدته مرتفعًا بشكل غير طبيعي، أعطتني حقنة في الوريد، بدأت بعدها أستعيد كامل وعيي، وإحساسي بجسدي. بالصدفة كانت ابنة خالتي في الصيدلية، طلبت مني أن أستند إليها لتوصلني إلى البيت. أخبرتها أنني أحسن ولا أحتاج لذلك. سارت بجواري قلقة، وصلنا إلى البيت بعد دقائق، استقبلتني زوجتي بفزع، كانت ابنة خالتي تحكي ما حدث بخوف حقيقي كأنني مت، وكنت أهون من الأمر وأحكيه بابتسامات واهنة حتى لا تموت زوجتي من الرعب. تمددت على الأريكة، بدأ موج النوم يسحبني إلى أعماقه، شعرت بأن لحظة البياض التام، والخفة الكاملة، وانسحاب الشعور؛ كانت ممتعة بشكل ما، حتى أن آخر فكرة راودتني قبل أن أغرق في النوم كانت: تجربة حلوة!
اول مرة كاتب يناقش الموت بفلسفه محببه واقرب لروحي وقلبي وفهمي كده
ربنا يحفظك ويزيدك توفيقا
سلمت من كل سوء وربنا يخليك لولادك أستاذ منير ،
أثرت ذكرياتنا القديمة مع الخمسان، وأثرت الشجن فينا بتذكر لحظات موت الأب وكنت في بداية العام الدراسي 3 ثانوي ، أوجعتنا أستاذ منير
حفظك الله
دام العطاء والتألق أديبنا القدير
ألف شكر
كعادتك مبدع، تختار الفكرة مع الطرح الرائع الذي يعبث بمشاعرنا، يستدعي ذكرياتنا التي غابت عنا زمنًا..
كان أبي رحمة الله عليه يأخذني أنا واخوتي بعظ صلاة العيد نذهب لزيارة قبر جدي بالمنارة، كنت مضطرًا لذلك، لحظات مرعبة مع حبي لجدي الذي كان يحبني ويهدهدني ربما أكثر من والدي، لحظات كنت أتابع فيها الوجوه، شواهد القبور، تحذير الناس من المرور على حافة القبر، كنت اعتقد أن الموتى أخياء يشعرون، كنت أتحمل هذه الزيارة في اول أيام العيد، ساعة مع جدي، يتمتم والدي بكلمات لا أسمعها ولا أفهمها، أنتظر أن يضع أبي كلتا يديه على وجهه، ثم ينظر إلينا قائلًا “يالا ياولاد” وما إن نعبر عتبة مدافن المنارة إلي عالم العيد .. أصيح بأعلى صوتي “هيييييييه” لقد بدأ العيد الآن.
رحمهم الله جميعا
الذهاب إلى الهناك والعودة إلى هنا تجربة لا تنسى، العمر الطويل لك بالصحة والعافية..
مقالاتك تسعدنا والله دومًا.. دوام التوفيق
حفظك الله
الفكرة والتناول أكثر من روعة، أوجعتنا يا أستاذ منير.
سلمك الله
أكثر من جميل، دام العطاء والإبداع والتفرد أستاذ منير.
ألف شكر
وقفة تأملية مفعمة بأريج الذكريات؛ كيف ترى عينا الطفل الموت؛ كيف يشيخ الرجل حين يموت أبوه فيلبس ثوبه؛ لتستمر حياة العائلة؛ كيف يمتزج الوجع والتأمل ورائحة البرتقال ..وأخيرا كيف تتسرّب إلينا عبر الكلمات كل هذه الجرعة من المتعة والحنين ؟
الله يحفظك
مقال مؤلم جداً
رحم الله جدى الغالى لا انسى ابدا لحظة سماعى الخبر وعدم فهمى للموقف لصغر سنى وقتها واستغرابى من بكاء أبناء عمتى لماذا يبكون وجدى فالسماء مع الملائكة يمرح هناك كما كان يحكى لنا عن الموت وكأنه رحلة ترفيهية ممتعة ولم أدرك أنهم يبكون الفقد وانى لن أراه مرة أخرى ولن اتدفى بداخل عباءته الشتوية رمادية اللون التى يشكنى صوفها وبرغم ذلك كنت أشعر بالراحة والاسترخاء واحيانا الاستسلام للنوم
ربنا يخليك يا جوجو ويسعدك
سردية ماتعة للغاية بأسلوب شيق، عن تمثيلات الموت في أعماق الذات ما بين طفولة وشبابوكهولة وما ارتبط به من أحداث وبكاء وولولة ولوعة
تسلم يا صديقي
سرد شيق دام نبض القلم المبدع
ألف شكر لحضرتك
عيطت🙂
الله يرحمه ويغفر له كنت اتمنى اعيش معاه فتره ولكن الحمدلله ربما ده احسن اني مشوفتهوش💙
ربنا يحفظك يا لوكا
كنت أتمني رؤية الموت بالطريقة ذاتها. لكني لم أخرج بعد خساراتي لصالح الموت إلا بشعور دائم بالوجود علي الحافة. وجود مهدد بالمزيد من الفقد أو بالتلاشي. يا ريتني أعرف أبص لتجربة الفقد و الموت زيك يا أستاذنا. ورحمة الله علي كل أحبابنا الذين ذهبوا وذهبت معهم الحياة كما نعرفها ونحبها
حفظك الله أستاذة أماني