أيّ معنى للكهولة، غير أن يحنّ للطفولة طفلٌ؟ أي معنى للقهر وللنهايات أوجع من أن يستميت قتيل للدفاع عن براءة قاتله؟ أي معنى للحياة إذا لم يتبقّ منها غير صبّارات قبور، لا تُخفف عذاباتها العاجلة والمؤجلة؟
إنها الكلمات التي لا تكفّ عن أن ترابط وتعمل بجد لإثبات معانيها الأصلية والبديلة، والتي لا تتوقف عن أن تلعب وتتلاعب وتراوغ أيضًا، وقد أصرّت لغة البارود وأبجدية التدمير الواضحة على تفريغها من محتواها، وإزاحة آخر ورق توت جافة عن عورتها.
الآلة العسكرية الصهيونية، بذخيرتها الأمريكية، تتحدث قتلًا صريحًا في حروبها الوحشية على المنطقة. والكلمات العربية المنكوبة المهترئة تحت وطأة القذائف الفاجرة لا تملك غير أن تتحدث ألمًا كثيرًا وأملًا مضمحلًّا، ململمة أشلاءها المتناثرة وحروفها الحمراء، ومواصلة نزيفها وصمودها حتى آخر جرّة قلم.
هل يكفي أنه في البدء كانت الكلمة، لترتفع في النهاية أيضًا راية الكلمة؟ الكلمة لكي تكون، وتبقى، ككلمة عليا، ليس لها من اختيار غير أن تظل يدها هي اليد العليا.
التراجع الذي قد يعتري الكلمة، لا يعود إلى طبيعتها، وإنما هو نتيجة لمن ينتجون هذه الكلمة، ولا ينفكون يصوغونها في تهافتها وضعفها وعجزها وإفكها وضلالها.
الكلمة لها الغلبة، إذا وعى أصحاب الأقلام قدراتها الظاهرة والخفية، وطاقتها الداخلية الكامنة، وتمكنوا من تفجيرها بكل الأساليب المتاحة والمستحيلة.
جدوى الكلمة
ذات يوم غير بعيد، في مطلع تسعينات القرن المنصرم، كانت طائرات التحالف الدولي تغطي سماء الخليج العربي وتسحق رؤوس العراقيين وتتصيد نساءهم وأطفالهم في الملاجئ بالقنابل الغبية، الموصوفة كذبًا بالذكية.
لحظتها، سألتُ العمّ نجيب محفوظ، الفائز بجائزة نوبل قبل أقل من ثلاثين شهرًا من اندلاع عاصفة الصحراء، تلك الحرب التليفزيونية الفادحة الفاضحة، عن جدوى الكلمة الإبداعية والإعلامية، ومدى ثبات إيمانه بها، في عالم صار غابة بربرية، لا صوت فيه غير صوت العنف والبطش والافتراس والتنكيل والانتهاك القانوني والأخلاقي والإنساني.
الكاتب المخضرم آثر عدم التعميم، فالكلمة التي يعرفها ولا يعرف غيرها هي الكلمة الحقيقية، أو التي تنطوي على الحقيقة. وهي بمنظوره لا تنهزم أبدًا في صراع الخير والشر، ولا تتلاشى وظائفها في صراع القوة المعنوية والمادية، مهما انتابها من خفوت نسبي أحيانًا، وعلا عليها من ضجيج زائف زائل.
استعادة الحقوق، ورد الاعتداءات، وبث روح التضامن والتعبئة، وفضح ممارسات الاحتلال، وكشف جرائمه المقيتة، وتفنيد كلماته الدعائية الخبيثة، بحاجة إلى كلمات واعية منظمة. العمليات النضالية المباشرة ذاتها في ميادين القتال وجبهاته، بحاجة كلها إلى كلمات داعمة
ولكن هذه الثقة اليقينية بدور الكلمة في المقاومة والفعل الإيجابي، لم تثنِ محفوظ عن اعتراف آخر، هو أن خير وسيلة لمقاومة المدفع “تحطيمه”، ولعل للكلمات أيضًا دورًا في هذا التحطيم.
هكذا، للكلمة محددات وضوابط، فليست كل كلمة أرضًا صالحة لرهانات المبدعين والمثقفين. هي الكلمة الحق، كما اعتنقها محفوظ. هي الكلمة الحرية، والمسؤولية، والنور، وزلزلة الظالم، والدليل الذي تتبعه الأمة، والقلعة الشامخة التي يعتصم بها النبل البشري، والفُرقان ما بين نبيّ وبغيّ، ومفتاح الجنة والنار، وشرف الرجل، وقضاء الله، كما وصفها عبد الرحمن الشرقاوي في مسرحيته “الحسين ثائرًا”.
الصمت أدعى أن يُخجَل منه
إذا كان البعض يخجل من الكلام، بدعوى أنه لا طائل منه في كثير من الاحتمالات المأساوية الكائنة على الأرض، فإن الصمت أدعى أن يُخجَل منه، لأنه لا طائل منه في احتمالات الواقع الدموي كلها. بل إن الأحرى بالقول، هو تعاظم أهمية القول وتوجيهه الوجهة الصحيحة، مع تعاظم الكوارث المحيطة، والأزمات المستعصية.
استعادة الحقوق، ورد الاعتداءات، وبث روح التضامن والتعبئة، وفضح ممارسات الاحتلال، وكشف جرائمه المقيتة، وتفنيد كلماته الدعائية الخبيثة، بحاجة إلى كلمات واعية منظمة. العمليات النضالية المباشرة ذاتها في ميادين القتال وجبهاته، بحاجة كلها إلى كلمات داعمة، توحّد المواقف حولها داخليًّا، وتصحح النظرة إليها خارجيًّا، وسط فوضى المعلومات المغلوطة، والبروباجندا الأحادية الموجهة.
هل يكفي أنه في البدء كانت الكلمة، لترتفع في النهاية أيضًا راية الكلمة؟ الكلمة لكي تكون، وتبقى، ككلمة عليا، ليس لها من اختيار غير أن تظل يدها هي اليد العليا.
لم تكن الكلمة عبر العصور صورة خارجية للمظهر المادي فقط كما لدى بعض العقلانيين السطحيين، وإنما هي في معظم الديانات والمعتقدات والثقافات والمجتمعات المدنية ترجمة للجوهر الروحاني أيضًا, بما يمنحها دينامية وثورية ووهجًا وخلودًا وصفات إلهية.
بالتعبير القرآني، تجلّت هذه الكلمة الطيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء. وفي الحضارات والفلسفات الفرعونية والإغريقية والصينية القديمة، تتجسد الكلمة التي لا تخلو من قداسة وطهر وانفلات كقوة ملموسة في عقل الإنسان ويده، يدفع بها أذى العالم وشروره، أو على الأقل يتفادى بها النوازل الطبيعية ويتعايش معها في انسجام، ويتحكم بها في الأرواح الكامنة في الأشياء، لكي لا تنشط ضد الإنسانية.
منذ الأزل إلى الأبد
من ذلك كله، تمارس الكلمة حقها في الانتشار والتمدد، وترثها الأجيال واحدًا تلو الآخر، كعلامة ضرورية من علامات الآدمية النقية، والعزة والكرامة، والتواصل الخلاق، وتحدّي السلاسل والأسلاك الشائكة، ومواجهة الجبابرة ومصاصي الدماء وتجّار الموت والانتهازيين أينما كانوا، في عصر الصراعات الدينية والمذهبية والإيديولوجية.
وتظل الكلمة منذ الأزل إلى الأبد، محتفظة بقيمتها ورصيدها وتفجرها الحي، في ذاكرة الضمير الجمعي العربي، وفي ذائقته الإبداعية. فالمبدع، على الأخص، هو متمرد دائمًا بقلبه وبنبضه وبقلمه، مشحون بكلمة “لا” النبيلة، رافض لكل الأوضاع السيئة المفروضة بليّ الذراع، ولكل أشكال الانقياد والتبعية والرضوخ والاستسلام.
وهذا المبدع، الذي لا يتخلى أبدًا عن كلمته التي يتمترس في خندقها، هو منتفض بحماسة وبسالة ضد أساطين الطغيان والفساد والهمجية الممنهجة، متيقن باستمرار واطمئنان من أن الكلمة السديدة ذات رسالة وتأثير وفاعلية، لدى الصديق والعدو معًا على السواء، وأن هذه الكلمة المتحققة لا يقتصر وقعها على مجرد إبراء الذمة أمام الله وأمام التاريخ.
إنها الكلمات التي لا تكفّ عن أن ترابط وتعمل بجد لإثبات معانيها الأصلية والبديلة، والتي لا تتوقف عن أن تلعب وتتلاعب وتراوغ أيضًا، وقد أصرّت لغة البارود وأبجدية التدمير الواضحة على تفريغها من محتواها، وإزاحة آخر ورق توت جافة عن عورتها.
لقد حوربت جيوش وجماعات كثيرة، فقُتل منها من قُتل، بينما لم يتمكن طاغية من سحق الكلمات أو وأد مستجدات حروفها ونقاطها الملغومة.