أكثر من 60 فيلمًا عربيًا طويلًا شاهدتها على مدار عام 2023. أفلام روائية ووثائقية وأخرى هجينة تختبر الوسيط السينمائي، أعمال من مختلف الدول العربية، تُعبر في مجموعها عن طيف التنوع الذي صار ملحوظًا في السينما الآتية من المنطقة. بين أصوات كلاسيكية تُفضل مخاطبة الجمهور العريض وأخرى حداثية تنحاز للتجريب وإن أفقدها بعض الجماهيرية، بين أفلام سافرت لأكبر مهرجانات العالم وتوجت فيها بجوائز، وأفلام خافتة لم تتمكن من تحقيق انتشار مماثل. بين كل هذه الأفلام اخترت أحسن 20 فيلمًا عربيًا شاهدتها خلال هذا العام الحافل، تُمثل في مجموعها روافد اللحظة الراهنة في السينما العربية.
فلنتعرف على هذه الأفلام مرتبة نحو الأحسن:
20 – أنيماليا (المغرب)
امرأة تعيش فترة حملها تزامنا مع وصول فضائيين واحتلالهم للمغرب. الملخص وحده سبب كاف لجذب الاهتمام للفيلم الطويل الأول للمخرجة صوفيا علوي، والذي توّج بجائزة جائزة لجنة التحكيم من مهرجان صندانس. لكن الاعتماد على الملخص فقط قد يكون مضللًا، لاسيما لمن يعتقد كونه فيلم خيال علمي، وهو في الحقيقة أكثر من ذلك، بالرغم من وجود عنصر الخيال العلمي بطبيعة الحال.
“أنيماليا” حكاية ناقدة، مُحللة، تأملية بشكل ما، تضع القضية الدائمة في سينما المرأة العربية (وضع المرأة داخل هيراريكية المجتمع) داخل سياق أعقد هو صراع الطبقات/الثقافات داخل المجتمع المغربي المعاصر. لا يهديك الفيلم أبدًا شعور الإشباع المعتاد في أفلام النوع، لكنه يطرح أسئلة تستحق التفكير، سواء حول الأفكار الحاكمة في عالم الشخصيات وعالمنا، أو حول اختيارات المخرجة لشكل فيلمها وطبيعة الدراما فيه.
19 – حكاية شادية وأختها (مصر)
لم ينل هذا الفيلم ما يستحقه من اهتمام نقدي وإعلامي، ربما لأنه اكتفى بالعرض في مهرجان الإسماعيلية، أو لأن مخرجه أحمد فوزي صالح انشغل بعمله الأكبر في العام مسلسل “بطن الحوت”، لكن الحقيقة أن “حكاية شادية وأختها” واحد من الأفلام التي يمكنها البقاء طويلًا في الذاكرة، بالرغم من خلوه الكامل من أي أحداث ضخمة أو شخصيات استثنائية، فقط حياة امرأتين بسيطتين، شقيقتين مطلقتين تعُلن بناتهن وتواجهن هموم الحياة.
أفضل ما في الفيلم هو العين المحايدة التي يحاول المخرج الاحتفاظ بها، رغم تعاطفه الواضح مع الشخصيات. الفيلم يفهم جيدًا أن هناك مسافة بين معاناة البشر في الحياة وبين كونهم أبرياءً أطهارًا بالفطرة، بل إن الظروف العسيرة وما تدفع الإنسان إليه من التصرف أحيانًا بشكل قاسٍ أو متلاعبٍ أو غير أخلاقي، هي المذبح الرئيسي الذي يُعمّد عليه البشر بشرًا.
18- الخلاط + (السعودية)
استنادًا على سلسلة أفلام قصيرة صُنعت للعرض على الإنترنت يقدم المخرج فهد العماري وفريق تلفاز 11 عملًا أنطولوجيًا مكوّنا من أربع قصص متتالية، وهي نوعية نادرة الوجود في السينما العربية رغم ما تتيحه من ثراء في المحتوى الدرامي، وقدرة على تقديم كل حكاية في الزمن الملائم لها، الذي لا يشترط أن يكون زمنًا قياسيًا لفيلم طويل أو قصير.
القاسم المشترك في حكايات “الخلاط +” الأربع هو خفة الظل بطبيعة الحال، بالإضافة للتعامل مع تيمة التمرد على القواعد الحاكمة للمجتمع، سواء كانت تلك القواعد قانونية أو طبقية أو ثقافية. في كل حكاية نجد صورة للخروج عن تلك القواعد، بل والتلاعب بها، تأتي دائمًا داخل موقف يتصاعد مخالفًا لتوقعات الشخصيات، مع الكثير من الانعطافات العبثية التي تُكرّس لقدرة البشر على التحايل في المواقف العسيرة مهما كانت قسوتها.
17 – واصلة Hyphen (لبنان)
فيلم آخر كان يستحق اهتمامًا أكبر مما ناله، فبالرغم من تحقيقه جائزة أحسن فيلم غير روائي من مهرجان مالمو للسينما العربية، لم يُعرض فيلم المخرجة رين رزّوق بعد بشكل لائق في العالم العربي. ربما للأمر علاقة بصعوبة تجربة المشاهدة التي تلج المخرجة فيها عالمًا لطالما قدمته السينما بشكل نمطي، ونادرًا ما دخلته بهذا القدر من الصدق والتجرد والمصارحة.
العالم هو إدمان المخدرات التي اندفعت إليها قريبة المخرجة التي تقاربها عمرًا، لترتبط حياتها بها، صعودًا وهبوطًا، داخل سياق اجتماعي وسياسي معقد للحياة في لبنان. بالرغم من حميمية العلاقة التي سمحت للمخرجة بهذا الرصد القريب الذي ربما لم يكن ليتحقق لولا القرابة وصداقة العمر، إلا أن رزّوق تحافظ على مسافة تأملية من بطلتها، فلا تُسارع في الدفاع عنها، ولا تحكم عليها بالطبع، وإنما تضع نفسها -أي المخرجة- في مقارنة جائزة مع شخصية كان من الوارد في نسخة أخرى من الحياة أن تتبادل معها الأدوار. هذا التناقض بين الحميمية والرصد، الشاعرية والتحليل، هو ما يمنح “واصلة” قدرته على التأثير والبقاء في الأذهان.
16 – تحت سماء دمشق (سوريا)
تفاجئ الحياة الفنان أحيانًا بما يستحيل توقعه أو البناء عليه، تمامًا كما يحدث في هذا الوثائقي الذي أخرجه ثلاثي مكوّن من هبة خالد وعلي وجيه وطلال ديركي. الفكرة تبدأ من جمع عدة فنانات شابات للحديث عما تعرضن له من تحرشات ومضايقات جنسية في صناعة السينما والدراما السورية. لكن المفاجأة تأتي عندما يكتشف المخرجون أن مدير الإنتاج القائم على مشروعهم هو أيضًا متحرش يحاول استغلال ممثلات الفيلم!
تفرض المفاجأة قوانينها على مسار الفيلم فينحرف عمّا يمكن أن تتخيله في البداية، عندما يصدم الجميع حقيقتين مأسويتين: أن صناعة فيلم يناصر المرأة ليس دائمًا بيئة آمنة للمرأة، وأن حتى المدافعات عن القضية قد تتعثرن في الطريق وتستجبن لما تفرضه آليات الصناعة. صحيح أن هذا الانعطاف لا يسفر عن بناء متماسك بالمعايير التقليدية، لكنه يقدم دراسة حالة ذكية لعلاقة الفنان بالشخصيات والواقع في الفيلم الوثائقي.
15 – جحر الفئران (مصر)
اكتشاف سار سيكون من نصيب كل من يشاهد هذا الفيلم الصغير، المستقل، الذي أنجزه المخرج المصري محمد السمّان بجهود ذاتية، في موقع تصوير وحيد، وباستخدام ممثلين غير محترفين وتقنية غير معتادة، تسمح للممثلة الرئيسية بمعايشة الشخصية، وتمنحها مساحة زمنية كافية في كل لقطة كي تضعنا معها في المأزق الذي تعيشه الشخصية الرئيسية، الاستثنائي جدًا في حياتها الخاصة، والاعتيادي جدًا في الحياة اليومية لملايين البشر.
فتاة خدمة هاتفية تجمع التبرعات لصالح مؤسسات خيرية لا تعرف عنها شيئًا، تحتاج هي نفسها لمبلغ بسيط سيحل أزمة في حياتها، فيضعها مديرها في تحدٍ تكتشف من خلاله حقيقة العالم الذي تعيش فيه، وتتأكد من مكانها داخل هذا العالم: مجرد فأر محتجز داخل متاهة ضيقة لا يعرف مهربًا منها. فيلم مؤثر وعميق وخال من التذاكي، يمكن اعتباره امتدادًا لتيار السينما الجديدة أو المستقلة الذي ظهر مع بداية التصوير الرقمي ثم تفرقت السبل بصنّاعه في اتجاهات عديدة.
14 – باي باي طبريا (فلسطين)
للمرة الثانية، وبعد فيلمها الأول “جزائرهم”، تأخذنا لينا سوالم في رحلة شخصية جدًا لكنها عامة جدًا، تخص أصحابها وتخصنا جميعًا بالقدر نفسه، وترتبط هذه المرة بفكرة شديدة الأولية: علاقتنا كمشاهدين بمن نراهم على الشاشة. فعندما نشاهد ممثلة عربية ذات نجاح عالمي مثل هيام عباس، يصعب علينا دائمًا نزعها من سياق صورتها السينمائية، أو إعادتها لجذورها التي كانت فيها امرأة عادية تشبهنا. من يمكنه أن يقوم بتلك المهمة عنّا أفضل من ابنة هيام نفسها؟
تقوم سوالم بإعادة بناء ذاكرتها الخاصة، كطفلة كونية وُلدت بعيدًا عن موطن أهلها (الأم فلسطينية والأب جزائري)، علاقتها بالجذور احتفالية مرتبطة بزيارات سنوية تُخبئ فيها مشكلات الماضي عمدًا. وفي خضم إعادة بناء الذاكرة تُقدم لنا أمها الحقيقية، الفتاة الفلسطينية المتمردة على عالمها، الحالمة بالحب والحياة، والتي يسهل تقييم تجربتها اليوم بأثر رجعي فنقول إنها انتزعت بنفسها حريتها ونجاحها، لك في مئات السيناريوهات الأخرى المتخيّلة لم يكن التقييم ليغدو بتلك السهولة.
13 – عمر لافراز (الجزائر)
عالم مختلف تمامًا يأخذنا إليه المخرج إلياس بلقادر في فيلمه الطويل الأول، والذي اختاره مهرجان كان ضمن عروض منتصف الليل، البرنامج المخصص للأفلام المنتمية لعالم فيلم النوع. “عمر لافراز” فيلم عصابات، يحمل اسم شخصيته الرئيسية، رجل العصابات الذي يُطرد من فرنسا ليعيد تكوين امبراطوريته في الجزائر. لافراز هي الفراولة بالدراجة الجزائرية، فلماذا يُمكن أن يسمى رجل عصابات بالفراولة؟
في حس الكوميديا العبثية الذي يطرحه عنوان الفيلم يكمن جانب كبير من جاذبية الفيلم، ومعها قدر بلقادر على خلق تفاصيل جديدة وغير معتادة في أفلام العصابات، واستثماره في العلاقات الدرامية بين الشخصيات، وعلى رأسها العلاقة الطريفة والمدهشة بين عمر وشريكه الفرنسي، التي يجسدها الممثلان رضا كاتب وبينوا ماجيمل في ثنائية من أفضل ثنائيات العام على الشاشة.
12 – وراء الجبال (تونس)
استكمال لمسيرة بدأها المخرج محمد بن عطية في فيلمه السابقين، اللذين نجد فيهما أثر العلاقة المعقدة بين الأب والابن، سواء بغياب الأب في “نحبك هادي” أو غياب الابن في “ولدي”، ليأتي الفيلم الثالث مكملًا الحكاية بفصل حالم، يلامس أجواء الواقعية السحرية، ليطرح مأزقًا لا تكاد حياة رجل عربي تخلو منه: أزمة التوقعات المتبادلة بين الابن وأبيه.
هل أنا شخص مؤثر في حياة ابني؟ هل يراني كبيرًا كما ينبغي؟ أسئلة جوهرية في علاقة البطل المهووس بفكرة تكاد تقوّض علاقته بكل من حوله، لكنه يُصمم على إثباتها لابنه الوحيد. يحمل “وراء الجبل” أيضًا مستوى تأويل بالغ الذكاء عن فكرة الإيمان/ النبوّة، وكيف يمكن لديناميات المجتمع أن تُفرز بين أفراده قابلية خاصة لتصديق من يأتيهم ليبشرهم بما هو خارج عن المألوف. فيلم قد لا يكون ببساطة أفلام بن عطية السابقة، لكنه يأتي بصوت مغاير ملفت للانتباه.
11 – المرهقون (اليمن)
من النادر أن نشاهد فيلمًا روائيًا طويلًا آتيًا من اليمن، البلد العريق الذي عانى سنوات من الحروب والصدامات المخيفة، لكنه يفاجئنا من حين لآخر بموهبة كبيرة، مثل المخرج عمرو جمال الذي يُقدم في “المرهقون” واحدًا من أكثر أفلام العام إيجاعًا، عن أسرة بسيطة تضطرها الظروف الاقتصادية إلى محاولة إجهاض طفل جديد تحمل به الزوجة، ليواجه الزوج والزوجة سلسلة من التحديات المجتمعية والصدامات الثقافية النابعة من مفاهيم مناهضة لقرار الإجهاض.
الموضوع القوي الذي يلامس حدود المأساة ليس هو الاختيار الوحيد الجيد في الفيلم، بل يُضاف إليه قرارات إخراجية جريئة، كقرار المخرج بتصور أغلب مشاهد الفيلم في لقطة واحدة طويلة، والتركيز على البعد المعماري لمدينة عدن، محاولًا أرشفة صورة أماكن مهددة في كل لحظة بالدمار والاختفاء. فيلم متميز بصورة مجردة، تزداد قيمته عندما يوضع داخل السياق التاريخي والثقافي والفني لصنعه.
10 – بوابة هوليوود (مصر)
إذا كانت أغلب الأفلام الوثائقية العربية الموجودة في هذه القائمة تعتمد على المراقبة الحميمة، بالدخول لمناطق خاصة من حياة صانع الأفلام أو من يهتم بهم من البشر، فإن فيلم المخرج إبراهيم نشأت يستمد قوته من فعل مغاير كليًا، وهو قدرته على إدخالنا مناطق محظورة، أماكن لا نراها عادة إلا بشكل عابر وتقرير في نشرات الأخبار، وإذا بها تتحوّل بشرًا من لحم ودم وتجارب تتابعها الكاميرا في “بوابة هوليوود”.
العنوان يحتاج لمشاهدة الفيلم كي تربطه بالمادة الشيقة التي تمكن المخرج من تصويرها داخل أفغانستان، وتحديدًا بعد انسحاب القوات الأمريكية وتركها أسلحة ومعدات بالمليارات لتكون تحت سيطرة جماعة طالبان، التي عادت للسلطة في واحدة من أكثر قصص القرن الجديد عبثية، قصة يصعب استيعابها أو ابتلاعها مهما حاول المحللون. عالم طازج يدخله نشأت بكثير من الجرأة والمكر، مما يذكرنا بما فعله منتج الفيلم المخرج السوري طلال ديركي عندما نجح في دخول عالم داعش قبل سنوات في فيلمه الشهير “عن الآباء والأبناء”. كلا الفيلمين نموذج لسينما وثائقية معاصرة وذكية، نادرًا ما نراها في السينما العربية.
9 – إن شاء الله ولد (الأردن)
ملخص هذا الفيلم يظلمه كثيرًا، فعندما تسمع عن حكاية امرأة يتوفى زوجها فتزعم حملها كي لا يستولي شقيقه على منزل الزوجية، تبدو القصة من النوع الملائم لتصميم فيلم يُعجب المهرجانات والمشاهدين في الغرب عبر التأكيد على الأزمات المعتادة في المجتمعات العربية: قهر المرأة، التمييز بين الجنسين، تعقيدات الميراث الشرعية، وغيرها من القضايا التي قُتل أغلبها بحثًا.
غير أن مشاهدة الفيلم تجعل من اليسير أن نتفهم سر تعلق المخرج أمجد الرشيد بالحكاية لتكون موضوع فيلمه الأول، فالأمر لا يقتصر على الإطار الحقوقي التي ترسمه القصة، ولكن بالقدرة على خلق شخصية فريدة داخل هذا الإطار، تحمل كثير من التناقضات التي تجعلها نموذجًا مصغرًا للمرأة العربية، نوال التي تجسدها منى حوا برهافة تجمع الضعف والقوة، البؤس والسخرية، ضعف الحيلة وسعتها، بما يجعلها تستحق النهاية المفاجئة التي يُقرر الرشيد أن يفاجئها ويفاجئنا بها.
8 – فوي! فوي! فوي! (مصر)
بعد سنوات من فقدان الأمل التدريجي في صناعة السينما التجارية في مصر، يأتي فيلم المخرج عمر هلال الأول ليعيد الثقة في قدرة الأفلام المصرية بصياغاتها الكلاسيكية أن تصنع فيلمًا كبيرًا. الاعتماد على النجوم، القصة القادرة على إمتاع الجمهور العريض بنفس قدر ما تحمله من أفكار تستحق التوقف، الخصوصية الثقافية المحلية في الموضوع وحس الدعابة، بل وتفاصيل الصورة، كلها أمور جعلت وجود هذا الفيلم مهمًا لمسار السينما المصرية بشكل عام.
لا يمكن أن تجد قصة مماثلة تقوم على أحداث حقيقية إلا في بلد يجمع بين الطرافة والذكاء الخبيث والأوضاع الاقتصادية الخانقة مثل مصر، لتُسفر عن هذه خطة تظاهر بعض الشباب بالعمى كي يتمكنوا من دخول أوروبا بطريقة شرعية. المدهش هو أن تفاصيل الخطة تبدو بدائية جدًا وصالحةً في كل لحظة للانكشاف، لكنها في الوقت نفسه منطقية يمكن قبولها وتوقع مرورها ممن يعرف طبيعة الحياة في مصر، وهو تعبير ذكي يحمل من النقد الاجتماعي والثقافي ما يوازي مخزونه من خفة الظل.
7 – عصابات (المغرب)
كل من شاهد “مول لكلب” الفيلم القصير للمخرج كمال لزرق كان يتوقع أن لدى المخرج ما هو أكثر ليقدمه في ذلك العالم الغريب: ليل مدينة كازابلانكا الحافل بالصخب والعنف والشخصيات الغريبة التي تعيش على هامش الهامش، والتي يجيد لزرق تقديمها بكثير من الأصالة البصرية، والكوميديا السوداء النابعة من مسارات عبثية غير متوقعة تُسفر عنها اختيارات الشخصيات للتعامل مع واقعها.
في “عصابات” المتوج بجائزة لجنة التحكيم في مسابقة نظرة ما بمهرجان كان، نتابع منعطفات عجائبية لليلة صاخبة يقودها ثنائي إجرامي غير معتاد، أب وابنه يوافقان على القيام بمهمة صغيرة لجني المال، لكنهما لم يتوقعا أبدًا ما يُمكن أن تفضي إليه تطورات الليلة. يدهشنا كمال لزرق باختيار ممثلين ذوي وجوه لا تخرج من الذاكرة، وبحس كوميديا سوداوي ناضج وعميق، يراقب مأساة البشر فيرثى لها ويسخر منها في نفس اللحظة.
6 – هجّان (السعودية/ مصر)
بعد فيلم أول شديد الخصوصية هو “يوم الدين” الذي اختاره مهرجان كان لمسابقته الرسمية، يعود المخرج أبو بكر شوقي في فيلمه الثاني بصورة مختلفة تمامًا، يقدم فيها فيلمًا من نوعية صارت نادرة في السينما العربية. فيلم جماهيري كبير يُقدم حكاية سهلة التلقي والتفاعل من جميع المشاهدين، يطرح أفكار جيدة وأحيانًا شائكة، في سياق ممتع لفيلم رياضي يدور في عالم سباقات الهجن، المنافسة ذات الطبيعة الخاصة التي يحملنا “هجّان” داخلها.
“هجّان” هو بالأساس حكاية نضح لطفل يتحول رجلًا من خلال رحلة انتقام، وهو قالب كلاسيكي يمكن القول بأن الفيلم يلتزم به تمامًا، فلا يشغل شوقي نفسه بالبحث عن أسلوب سردي جديد، بل يُركز قواه على الإبداع داخل القالب التقليدي ليشحن كل موقف وكل لحظة بالمشاعر والدراما الجذابة، ليتمكن من صنع فيلم محكم ومؤثر، قد لا يكون هو الفيلم الذي يقوده مجددًا إلى مسابقة كان، لكنه بالتأكيد سيقوده لقلوب كل من يشاهده.
5 – ناقة (السعودية)
فيلم سعودي آخر يُضاف لهذه القائمة، بما يوضح قدر التطوّر الذي تشهده المملكة عبر أصوات شابة، متعددة، ومغامرة في حالة المخرج الشاب مشعل الجاسر، الذي يُقدم في “ناقة” على عدد من الاختيارات الراديكالية التي جعلته أحد أكثر أفلام العام إثارة للجدل والانقسام، بين عاشق للفيلم وكاره له. “ناقة” لا ينتهج أي مسار كلاسيكي لسرد الحكاية بشكل عام، أو لسرد كل مشهد بشكل خاص، بل يحاول مخرجه في كل لقطة أن يُجرّب، مفتشًا عن صوته الخاص.
فتاة مراهقة متمردة، تخرج في رحلة سرية مع حبيبها إلى معسكر بقلب الصحراء، فتتعرض لسلسلة من الأحداث والمواجهات العسيرة والمخيفة التي تحاول النجاة منها، والأهم النجاة مما ينتظرها في المنزل لو انكشفت حقيقة ما دار في يومها. في المفارقة بين هول ما تمر به الفتاة سارة وبين ما يثير خوفها حقًا، يكمن جوهر الفيلم الناقد للثقافة الذكورية العربية، لكنه نقد ذكي، حداثي، لا يُلقي مرافعات ولا يتضمن مشاهد بكاء ميلودرامية، فقط فتاة خائفة تحاول النجاة من ناقة غاضبة!
4 – كذب أبيض (المغرب)
أحد أكثر أفلام العام خصوصية، ليس على المستوى العربي فقط وإنما على مستوى كل أفلام العالم. وثائقي إبداعي نال لمخرجته أسماء المدير جائزة أحسن مخرجة في مسابقة نظرة ما من مهرجان كان، لتمكنها المذهل أن تنطلق من فكرة بسيطة وشخصية وإنسانية، يُمكن أن يترجمها عشرات المخرجين لفيلم وثائقي تقليدي يمر مرور الكرام، إلى عمل لا يشبه إلا نفسه، وإن كان محملًا بالكثير من الإهداءات لسينما كونية، للكمبودي ريثي بان على سبيل المثال.
أسماء تلاحظ غياب الصور عن طفولتها، وترصد المسكوت عنه في تاريخ عائلتها وقريتها ووطنها، فتقرر إعادة خلق عالم كامل، تختلط فيه الذكرى بالمحاكاة، وتذوب فيه الحدود الفاصلة بين الشخصي والعام، ليصير تاريخ عائلة أسماء هو تاريخ المغرب، بل هو تاريخ المستضعفين في كل مكان حول العالم. فيلم فريد لا يمكن للكلمات أن تُلّخصه، لكن يُمكنها أن تلفت الانتباه لضرورة مشاهدته.
3 – مندوب الليل (السعودية)
آخر الأفلام السعودية في هذه القائمة، وأكثرها اكتمالًا بامتلاكه كل ما يجعل الفيلم السينمائي رائعًا: قصة جذابة، معاصرة ابنة زمانها ومكانها، لكنها تهضم تراث السينما وتتأثر به، تتصدرها شخصية مبنية ومؤداة بعناية فائقة، لشاب من الهامش يواجه مدينة كاملة، فهد المندوب الوحيد الذي تطحنه الرياض صباحًا ومساءً، حتى تتسبب صدفة في أن يكتشف وجهًا آخر للمدينة يدخله مغامرة لا يدرك مداها.
المدينة هنا شخصية رئيسية لها حضور ضاغط، تُظهر لفهد وجوهها المتعددة، فقط لتزيد من حنقه وشعوره بالغبن. براءته وبساطة تفكيره ورغبته في أن يعيش حياة بسيطة، مع شخصيته الحدّية، كلها أمور تجعله قنبلة موقوتة من المحتم أن تنفجر، لكن هذا الانفجار يأتي في صورة مغامرة مثيرة، يرسمها المخرج على الكلثمي معتمدًا على نص محكم، أداء تمثيلي متطور، وصورة سينمائية مدهشة أفضل ما فيها هو ارتباطها العضوي بموضوع الفيلم.
2 – بنات ألفة (تونس)
أعلى أفلام السينما العربية طموحًا على المستوى السردي، تُقدم فيه المخرجة كوثر بن هنية على تجربة أدائية ضخمة، لا تكتفي فيها بتقديم حكاية ألفة، المرأة التونسية ذات الحياة الغريبة، والتي انضمت ابنتاها إلى تنظيم داعش، بل تقوم باختبار الوسيط السينمائي نفسه، باستدعاء الممثلة هند صبري لتتبادل تجسيد دور ألفة مع المرأة نفسها، وتوظيف ممثلتين شابتين للعب دور الفتاتين الغائبتين والانضمام لابنتين صغيرتين ظلتا مع الأم.
يتحول منزل ألفة مسرحًا لتجربة أدائية غير معتادة في السينما العربية، تتلاقح فيها الذاكرة مع التجسيد، الحكي مع التقمص، وتحاول بن هنية السير على الخط الرفيع الفاصل بين رؤية الإنسان الذاتية وتفسيره لما دار في حياته من وقائع، وبين رغبة فنان في تحليل تلك الوقائع للخروج بصورة درامية مُقنعة. لعبة تبادل للوجوه والحيوات، ومشاركة للحظات الحميمية والمؤثرة، لتخلق بن هنية عالمًا سينمائيًا خاصة، لا يمكن فيه فصل شكل الفيلم عن مضمونه، وهو أقصى نجاح قد يصل إليه أي عمل فني مُجدد.
1- وداعًا جوليا (السودان)
قد لا يحمل فيلم المخرج محمد كُردفاني الحس التجريبي الذي تمتلكه أفلام أخرى في هذه القائمة، لكنه يحمل الأهم: اكتمال الأدوات، والرغبة الواضحة في تقديم عمل قادر على الدخول لقلب وعقل كل من يشاهده. عمل مُصمم بعناية فائقة لا تترك مجالًا للسهو أو المصادفة، لكنه تصميم ممتزج بالعاطفة تجاه كافة الشخصيات، حتى من يُقدم منهم على فعل سلبي.
لا ينشغل “وداعًا جوليا” بتوجيه أصابع الاتهام لأحد، بل ينظر بعين حانية، مُحللة، تستوعب حقيقة ما دار ويدور في السودان، وكيف أن تراكم عقود من الظلم والقهر والعنصرية لابد وأن يأتي بثمن باهظ يدفعه البشر، ليس فقط بأن يصيروا ضحايا عالمهم وعصرهم، بل وبأن يصبحوا أيضًا ظالمين لغيرهم، هذه الدائرة الشيطانية لانتقال الخطيئة تكاد تكون الموضوع الرئيسي للفيلم.
لدينا هنا دراما شكسبيرية بامتياز، تتصادم فيها طموحات وقرارات شخصيات كل منها رُسمت بعناية فائقة، ليُسفر هذا الصراع الإنساني عن فهم أعمق للوضع في السودان وفي أي مجتمع مماثل منكوب بكل هذا القدر من الظلم والتفرقة والأصولية. ليمنحنا كُردفاني عملًا كبيرًا أراه الأكثر اكتمالًا في السينما العربية خلال 2023.