شعرت بمتعة خاصة وأنا أقرأ كتاب الكاتب الكبير الراحل صلاح عيسى “حكايات من دفتر الوطن” عندما ذكر تأثير قراءته لكتاب “أيام لها تاريخ” للعظيم أحمد بهاء الدين. شعرت أنه يتحدث بمشاعري وأفكاري عندما قرأت هذا الكتاب، وأنا في المرحلة الثانوية، حتى إنني فتنت بفصل “جمهورية زفتى” وحلمت بتحويله إلى مسلسل تليفزيوني، ثم حمل عني السيناريست يسري الجندي هذا العبء وكتبه!
لم يعرفني صلاح عيسى، ربما فقط مر اسمي أمامه وهو رئيس تحرير جريدة القاهرة في فترة من أزهى فتراتها، إذ نشرت لي كل القصص التي أرسلتها إليها، ولا أنسى فرحتي ذات مرة بإخراج الصفحة الأدبية التي لا تزال صورتها في خيالي، النصف الأعلى من الصفحة مقسوم بين قصتين لإبراهيم أصلان ومنير عتيبة، كاد قلبي يتوقف فرحًا!
أسلوب صلاح عيسى في السرد التاريخي
يختار صلاح عيسى حوادث معظمها يبدو هامشيًا في التاريخ المصري الحديث منذ العصر المملوكي حتى العصر الملكي، لكنه يدهشنا بكيفية تقديمه لها.
فهو يقدم سردًا روائيًا راقيًا لغة، وبديعًا كبناء سردي يمسك بعقل القارئ المندهش طوال القراءة لأن الكاتب يبني قصته بناء بسيطًا ومركبًا في الوقت ذاته، بسيطًا في عرض المشاهد حتى تكاد تراها أمام عينيك، ومركبًا في الأفكار التي تحمل هذا البناء كقاعدة متينة هي السبب الأول في الكتابة.
لكنه يقدم؛ أيضًا، تاريخًا موثقًا لا خيال فيه، كل حدث يرويه ستجد له مرجعًا، أو سندًا، أو وثيقة، ومع ذلك فهو يقدمه كأنه من اختراعه الخاص ليوصل به فكرته، وهي المعادلة الصعبة المربكة التي نجح في تحقيقها إلى أقصى حد.
التناقضات في حوادث التاريخ
يقدم لك صلاح عيسى الأحداث التي رواها التاريخ؛ فتجد نفسك قد اتخذت موقفًا يمليه عليك عقلك، وتفكيرك الحر، وحكمك الصائب على الأحداث التي أمامك. ثم يقدم لك ما وراء هذه الأحداث، وخلفيات مواقف الشخصيات، فتكتشف أن عقلك قد ضل إلى حد كبير، وتفكيرك كان أضيق مما تظن، وحكمك كان متسرعًا. وإذ يكشف الكاتب التناقضات المنطقية في حوادث التاريخ التي يقدمها، ودوافع الشخصيات والمؤسسات التي حركت أحداثها، ليغوص في التناقض الذي طال العقلية المصرية لقرون، وربما العربية أيضًا.
وجه مصر في عيون صلاح عيسى
يرى صلاح عيسى وجه مصر “يضحك وهو ينزف، والقامة التي لا تنحني برغم مطارق الزمن”، ويعلن صراحة عشقه لهذا البلد بكل ما فيه، وبكل ما له وما عليه، مؤمنًا بأن “العقل المصري كان يملك حيوية خارقة مكّنته باستمرار من تفويت الفرص على أعدائه، بل إنه كبّدهم هزائم متعددة، برغم ما أصابه هو نفسه من طعنات وندوب”.
يقول صلاح عيسى: “إن عذاب مصر الحقيقي قد بدأ منذ حُصِر العقل المصري في إطار المُسلّمات النهائية التي لا تقبل المناقشة…”. يقلب صلاح عيسى تربة التاريخ؛ لا ليسلي القارئ بحكايات غريبة أو مدهشة، بل ليحرر عقله من النظرة الأحادية التي غُرست فيه فأخذ يفكر كما أُريد له أن يفكر، لا كما يجب أن يفكر حرًا من أي قيد.
أزمة الحكم في التاريخ العربي
يمكن الحديث عن كل فصل في الكتاب ربما بصفحات أكبر من الفصل نفسه، لتفصيل ما يبثه الكاتب من أفكار كلها جديرة بالتأمل والمناقشة. لكن قراءتي تظن أن الفكرة المركزية التي حرص صلاح عيسى على تثبيتها في ذهن القارئ؛ عبّر هو بنفسه عنها: “تلك هي محنة المصريين الأساسية التي عانوا منها… ولعلها محنة عربية قومية…”.
وربما يوحي بناء الكتاب بفكرة مهمة أخرى، فهو يرتب فصوله ترتيبًا تاريخيًا من الأقدم إلى الأحدث، لكن المسافات الزمنية الكبيرة بين أحداث كل فصل وآخر توحي بالطول الهائل للزمن التاريخي، وامتداده اللانهائي، وهو ما يبعث الأمل دائمًا ولو بشكل جزئي بأن الأبطال الذين شغلوا بحوادثهم لحظات من التاريخ ذهبوا إلى حيث يستحقون؛ إلى جحيم لعنات الشعوب، أو إلى جنة معرفتها بفضلهم، حسب ما قدموه لها.
هكذا يُكتب التاريخ للقارئ العام، كما قدمه أحمد بهاء الدين وصلاح عيسى، ليصبح فرضًا علينا قراءته، للمعرفة أولًا، ثم للتفكير ثانيًا وثالثًا، وربما للعمل بعد ذلك ولو بدأ بتغيير الذات.
أكثر من رائع، سُررت جدًا بجمال الأسلوب والوصف
ربنا يحفظك يا رب
مقال رائع أستاذ منير، والجميل في قراءة اعمال صالح عيسى التي أمتعتمنا به تحليل لأفكاره حول ماقدمه حول تاريخ مصر …مشكور على هذه الاطلالة لكتتاب من مصر
ربنا يحفظك يا دكتورة
عدت بقلمك الحر حيث زمن تمنيت أن أحياه..ألف مبارك استاذي ومعلمي الناقد والأديب الكبير .
حفظك الله أختي العزيزة د.حنان
مقال رائع كالعادة …تحياتي العطرة للجميع 🍬
ألف ألف شكر
مقال رائع وطريقة سرد رائعة كالعادة بالتوفيق دائما المبدع أستاذ منير عتيبة
تسلمي د.جيهان
مقال مهم
يستحق القراءة
شكرا أستاذ منير عتيبة
تسلم يا صديقي
مقال رائع
استمتعت بقراءة كلماتك عن فترة مهمة من حياة الوطن مع كاتب مهم يروي حكايات من دفتر الوطن
تسلم يا صديقي
جميل جدا مبدعنا الراقي، ومعكم كل الحق.. بالفعل صلاح عيسى وأحمد بهاء الدين حققوا الكثير من الفضل في ذلك، وبالفعل أيام لها تاريخ باتفاق دكتور عماد أبو غازي وغيره هو الذى غير طريقة سرد التاريخ لتكون بالشكل القصصي القريب إلى النفس والجمهور العام.. لكم أسمى آيات الود والمحبة
صدقت يا دكتور
طريقة السرد جميلة جدا وكذلك القضايا وتقديمها بهذا الأسلوب المميز والمتعة في الطرح.. خالص التحايا أستاذ منير المبدع المتميز
تسلم يا صديقي
مقال رائع عن كاتب متميز وكتاب تعلمنا منه كثيرا
دمت بإبداع صديقي المبدع أستاذ منير عُتيبة
ألف شكر يا صديقي
كم هو جميل تذكار جيل الراحلين العظام و كم هو رائع تقديم صلاح عيسى لجيل ربما لم يقراه بعد .. سلم التذكار و سلمت الصياغة الراقية في تقديم مثل هذه الشخصية الفذة .. شكرا د منير على تجميل كل هذه الافكار و النقاط المضيئة في مقال واحد
حفظك الله دكتوره هدى
من اين اتي الكاتب الرائع صلاح عيسي بهذا الوصف “العقل المصري كان يملك حيوية خارقة مكّنته باستمرار من تفويت الفرص على أعدائه، بل إنه كبّدهم هزائم متعددة، برغم ما أصابه هو نفسه من طعنات وندوب”.
هل لمصر عقل ؟ ما أوصافه ؟ ما هي تأثيراته ؟
سؤال لا اعلم ان له اجابه
الكتاب حلو جدا يا محمد
ستتفق وتختلف معه لكنه سيعجبك
سرد بديع كعادتك صديقي الرائع، كل مفكر ننهل من علمه وخبراته، نأخذ منه فكرة ننسج بها حكاية، تضاف إلي المخزون الاستراتيجي بالعقل الباطن، مع كامل التحفظ وعدم الاستسلام وقبول الفكر كحزمة واحدة، المبدع صاحب رسالة شاهد على عصره، ومع الناس والبسطاء، لا ينتمي لفصيل ولا يتحزب.. دمتم بفكر سديد وعقل رشيد .
#إبراهيمفرحات
عندك حق يا فنان
تسلم الأنامل التي سطرت لنا تحليلا رائعا وموجزا كأنه مغناطيس يجذبنا لقراءه حكايات في قلب الوطن وكم اسعدني بحق تقديم روايتك مع نجوم ومبدعي الفكر في تلك الحقبه أدام لك التميز والنجاح كما اسعدتنا بتحليلاتك واستضافه نجوم الفكر لكي نرتشف عمق الفكر
ربنا يحفظك يا باشمهندسة
سرد رائع ومقال بديع كعادتكم دمت مبدعا متميزا بأسلوب وشرد الجميل
ألف شكر
سرد رائع ومقال بديع كعادتكم دمت مبدعا متميزا بأسلوب وشرد الجميل جميل أن ذكر ونحتفي بالراحاين وخاصة رموز الحركة الأدبية
تسلم أستاذ أحمد
مقال ثري مستنير لكل من يبحث عن قناعات العقل
دام نبض القلم المتألق تحياتي
حفظك الله أستاذة نبيلة النبيلة
ممتاز كالعادة سعادة الأديب الكبير الأستاذ منير بك.
ألف شكر يا دكتور
مقال أكثر من رائع.. شكرا جزيلا أستاذنا منير عتيبة
تسلم يا دكتور
كما تعودنا من الأستاذ منير عتيبة الأسلوب المبسط والسرد المتسلسل وإجمالي أحداث عظيمة في سطور لا يمل القارئ منها فمن لم يقرأ الكتاب استطاع الإلمام بكل ما يحويه بعد قراءة سطور تلك المقالة دام الإبداع أستاذنا المبدع و دام العطاء
حفظك الله يا دكتوره
الكتابة في التاريخ تحتاج لعازف محترف كي يقنع ويطرب في ذات الوقت
دمت مبدعا أستاذ منير ودائما ما تقدم لنا جواهر الصحافة
ألف شكر لحضرتك
شكرا لك على هذا الجمال يا مبدع، وانا ايضا شعرت بمتعة خاصة وانا اقرأ هذا المقال الذي يرتفع في قيمته إلى قيمة ما كتب من اجله،. دمت مبدعا.
تسلم يا صديقي
مقال رائع عن شخصية عظيمة ورائدة
ونحتار بمن نعجب أكثر، بصلاح عيسى بتعبيره المتفرد عن حب الوطن، أم بأحمد بهاء الدين ونظرته الوطنية الفكرية العميقة، أم بمنير عتيبة الذي يقودنا لمناطق خافية علينا؛ فيلقي عليها من أضوائه وفيوضاته لنرى ونعي.
ثم نجد أن الإعجاب الأكبر والحب الأصدق يكون لمصر وأبنائها الرائعين.
مقال بديع .
قرأت أيام لها تاريخ منذ زمن بعيد، لم يتسنى لي قراءة حكايات من دفتر الوطن، لكن هذا العرض المختصر والشيق هو دعوة لقراءته. شكرا لحضرتك.