أحدث الحكايا

شريف صالح يحكي (على باب الله): هوس الناس بالرجم العابر للعصور!

كنتُ أجلس مع صديق عربي على مقهى في شارع شامبليون، ومر بنا كلب أسود ملتصق بكلبة بنية، ظلت تجره بقسوة وهو عالق بها. ضحكنا للمنظر ثم فجأة تذكرت أننا في طفولتنا في القرية كنا نعتبر من المهام المقدسة لنا مطاردة أي كلب وكلبة ملتصقين ورجمهما بالحجارة لفض الاشتباك بينهما. بالطبع لم نكن نفهم بوضوح أن ما بينهما تزاوج تفرضه قوانين الطبيعة. كان في سلوكنا الوحشي للأسف، ما يشعرنا بالامتياز الأخلاقي.

 

هذا التحديد لملكية المرأة عبر عقد الزواج، وضبط الممارسات الجسدية لخدمة موارد الأسرة من الحرث والنسل، أوجد بالضرورة مفهوم الزنا، كفعل غير أخلاقي يهدد المجتمع.

 

رجم كازنتزاكيس

بعيدًا عن الكلب وكلبته، هناك قصة أخرى لم تفارق ذاكرتي حين شاهدتُ فيلم زوربا للمرة الأولى ورأيت كيف احتشد القرويون أمام الكنيسة لرجم الأرملة الجميلة، لمجرد الشك في سلوكها، وكيف أشهروا خناجرهم حولها، وقد كتب كازنتزاكيس المشهد المؤثر في الفصل الثاني والعشرين من روايته الشهيرة، وبرغم أن الأرملة كانت تحاول تحتمي بشجرة وتستنجد بالمسيح، فإن قاتلها أيضًا ألقى برأسها على باب الكنيسة وهو يرسم إشارة الصليب.

مشهد من فيلم زوربا

 

قصة ثالثة شاهدتها عرضها الفيلم الإيراني “رجم ثريا” عن سيدة قروية رفضت أن يتزوج عليها زوجها أو يطلقها لأنه ليس لديها من يعيلها، فما كان منه إلا أن لفق لها تهمة الزنا وصدر قرار رجمها، في فيلم مؤلم وصادم.

الفيلم الإيراني “رجم ثريا”

زنا مجازي.. رجم مجازي

لنترك القصص التي سالت فيها الدماء وقُذفت فيها الحجارة وطعنت الخناجر. لنصل إلى قصة متكررة في أيامنا هذه تخص إحدى فتيات التيك توك، شابة جميلة تقدم مقاطع عن الموضة والأزياء، مثل آلاف النساء في “السوشيال ميديا”، وهو ما ضمن لها متابعة أكثر من مليون شخص. ثم فجأة تم تسريب مقطع فاضح لها، فخرجت على الملأ تبكي وتعترف أن المقطع صحيح ومن معها زوجها السابق، واستعطفت الناس أن يرحموها لأنهم دمروا حياتها.

من يشاهد بكاءها سوف يتعاطف معها وسوف يتذكر مشهد السيد المسيح عندما حدثه قومه عن رجم الزانية فأحنى رأسه في الأرض وخط بإصبعه ثم قال لهم: “من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر”. -أخذًا في الاعتبار أن الفتاة لا ينطبق عليها فقهيًا فعل الزنا، وإنما هي ضحية من سرب المقطع لتدمير سمعتها-.

ومن يشاهد مقاطعها عن الموضة التي تؤديها بمرح، سوف يشعر بالضغينة، ويعتقد أنها تستحق المصير الذي آلت إليه، لأنها تاجرت بجسدها، واستغلته وسيلة دعاية لنفسها، ولشركات الموضة.

ما حدث من تعليقات ونشر الفيديو المخل لها باتساع، بمثابة “رجم مجازي” لها، مثلما هناك فعل زنا مجازي لا تتوفر فيه أركان الاتصال الحميم ولا الشهود، وإنما هو فعل يعبر عنه بالاشتهاء والألفاظ والفرجة وعرض المفاتن من بعيد. وكل البشر لهم نصيب منه، لكن لا يُعاقب مرتكبه.

لعل السؤال المتكرر في حالة فتيات كثيرات مثل هذه الفتاة، هل يستوجب الزنا المجازي كل هذا العنف والتشهير والفضح أم يتطلب الستر؟ هل هو رجم رمزي مستحق؟

لماذا الرجم؟

نحن الأطفال عندما طاردنا الكلاب لحظة التزواج -وهو أمر فطري- افترضنا لا شعوريًا أنها “زانية” و”مروجة للفاحشة”، واستدعينا من اللاشعور الجمعي ما اعتاد أن يفعله الإنسان الأول من رجم بالحجارة، قبل أن يخترع أسلحته الفتاكة، فقد طلب “أدويب” من الناس رجمه بالحجارة كي يتطهر من ذنوبه. والواضح أنه لم يكن عقابًا قاصرًا على الزنا، وإنما كان بمثابة إقصاء دموي عنيف ضد أي فرد يُخالف المجتمع وعقائده.

أوديب من إحدى الأعمال المسرحية

 

فالزنا نفسه كمفهوم موصوم أخلاقيًا حديث نسبيًا، لأن البشر مروا بأطوار كثيرة وانشغلوا أولًا بفكرة الخصوبة لضمان جودة الحرث والنسل، ونظروا بتقديس للعلاقات الجسدية والأعضاء التناسيلة، باعتبارها الأدوات التي ستجلب الخير والنماء.

ثم مع استقرار المجتمعات الزراعية انشغل الناس بمفهوم “الملكية” لا الخصوبة، وباتت هناك حاجة للتكاثر من ناحية، وتنمية الموارد الاقتصادية للرجل من ناحية أخرى، فأصبح بحاجة إلى زوجة (أو عدد كبير من الزوجات كما لدى قبائل إفريقية إلى اليوم) توفر له نسلًا يساعده في تنمية موارده، لذلك تبلور مفهوم الأسرة كاحتياج اقتصادي واجتماعي واتخذ صبغة دينية مقدسة، وبالغ بعضهم في تقنين إجراءات الجنس بما يخدم فقط فكرة التناسل وضمان الأيدي العاملة، كتحريم اللواط وإتيان المرأة من الخلف.

هذا التحديد لملكية المرأة عبر عقد الزواج، وضبط الممارسات الجسدية لخدمة موارد الأسرة من الحرث والنسل، أوجد بالضرورة مفهوم الزنا، كفعل غير أخلاقي يهدد المجتمع.

هذا التحول في الوعي البشري من تقديس مطلق الخصوبة إلى تقديس الملكية والاقتتال حولها، جعل العقوبات المتعلقة بالجنس مرتبكة، حسب تهديد الملكية، واختلاط النسل، وتجنب شيوع الفاحشة.

في الشرائع القديمة

عند السومريين (نقلًا عن كتاب الزنا في الشرائع القديمة وفي الفقه الإسلامي، لكاوه محمود) كان يحق للرجل أن يقتل امرأته إذا عرضت مفاتنها لرجل آخر وضاجعها، بينما يطلق سراح الرجل! (طالما هي التي أغوته)، أما إذا ضاجعها غصبًا عنها، فيكفي أن يدفع غرامة استعمالها!

لوحة سومرية

 

حتى شريعة حمورابي ترى أنه إذا أسس رجل بيتًا ولم يكن به طعام كاف ودخلت زوجته بيت رجل آخر، فلا ذنب عليها.

وفي ألواح الآشوريين إذا اغتصب رجل شابة مازالت بكرًا في بيت أبيها، فيحق للأب أن يأخذ زوجة المغتصب كي يزني بها (العين بالعين)، أو يعطي ابنته زوجة للمغتصب (ستر الضحية بالزواج).

عند المصريين القدماء لم تكن العلاقات الطائشة تستوجب الإدانة، وكان اتصال الشباب والفتيات قبل الزواج حرًا ميسورًا.

تشدد وتسامح

تأثرت الديانة اليهودية بشريعة حمورابي والنصوص العراقية القديمة عمومًا، فكان هناك تحذير من ممارسات جنسية كثيرة، مثل “لا تشته جمالها في قلبك.. لأنه بسبب المرأة العاهرة يفتقر الإنسان إلى رغيف الخبز”.

لوحة تشريعات حمورابي

 

أما العقوبات فمنها إذا ضاجع رجل فتاة ليست مخطوبة فعليه أن يدفع مهرها ويتزوجها. وهو حكم لا ينطوي على إدانة صارمة للطرفين كأنه لا يعتبر ما جرى بينهما “زنا”. ولا يفرق ايضًا بين الرجل المتزوج وغير المتزوج. لكن إذ عاشر متزوجة، أو زنا محارم.. تصبح العقوبة القتل للاثنين، وتنفذ أمام الناس. وإذا تزوج رجل امرأة وأمها فعقوبتهم الحرق. وإذا ضاجع شابة مخطوبة لرجل فعقوبتهما الرجم لأنها لم تستغث، أما إذا كانت في حقل لا تستطيع الاستغاثة لا تُرجم. وإذا ثبت عند الزواج أنها ليست بكرًا يؤتي بها عند بيت أبيها ويرجمها رجال مدينتها.

 

ما أسهل أن يدعي مجتمع الزناة الفضيلة ويتبارى في رجم ضحية لا حول لها ولا قوة. يرجمها بكل اشتهائه المكبوت لها.

 

وفي الإسلام ثمة تشديد في إثبات الزنا أقرب إلى منطق الستر لا الفضح، لأنه يتطلب أربعة شهود يرون علاقة كاملة. كما تتباين أحكامه ما بين الجلد والرجم، وهي مخففة نسبيًا عما في اليهودية. وبرغم أن هناك من يشير إلى آية منسوخة تقرر الرجم عقوبة، إلا أن بعض الفرق كالمعتزلة أنكرته بقولهم: “لا نجده في كتاب الله”.

تتمثل الملاحظة الأساسية هنا في حيرة المجتمعات حول تعريف “الزنا” وضبطه بالشهود، ومراعاة المصلحة (مصلحة الرجل بالأساس) حال إقرار عقوبة. كما تنوعت صور العقوبة تساهلًا وتشددًا، ما بين القتل، الحرق، الرجم، الجلد، دفع غرامة، وتزويج الضحية.

 

في المقابل، عفا السيد المسيح عن الخاطئة ونصحها ألا تعود إلى الزنا، ووجه اتهامًا مبطنًا إلى الذين ساقوها إليه بأنهم أيضًا خاطئون. ولا يخفى عن الواقعة غياب ركن مهم هو شريكها الذي أخفوه عن المسيح!

وفي موقف آخر، حين دخل بيت امرأة خاطئة جلبت قارورة عطر ووقفت عند قدميه باكية وأخذت تبل قدميه بدموعها وتمسحهما بشعر رأسها، وتقبلهما وتدهنهما بالعطر. فالتفت المسيح إلى سمعان قائلًا: “أترى هذه المرأة؟! إني دخلت بيتك ولم تقدم لي ماء لغسل قدمي! أما هي، فقد غسلت قدمي بالدموع وبشعرها. أنت لم تقبلني قبلة واحدة! أما هي فمنذ دخولي لم تتوقف عن تقبيل قدمي. أنت لم تدهن رأسي بزيت! أما هي فقد دهنت قدمي بالعطر. لهذا السبب أقول لك: إن خطاياها الكثيرة قد غُفرت”.

كأنه يفضل المرأة الخاطئة إذا تابت على الحواري العابد الزاهد، الذي ربما لم يختبر كما اختبرت. ولم يتألم كما تألمت.

تحفظ السيد المسيح على العقوبات المغلظة كالقتل والحرق والرجم -الإرث التوراتي- كي لا ينغلق باب الرحمة في وجه عباد الله. ولأن الله يريد الستر للعاصي لا الفضح. أو كما قال الإمام علي: “لو رأيتُ الفضيحة بأم عيني لسترتها بردائي. فإن مذيع الفاحشة كفاعلها”.

فما أسهل أن يدعي مجتمع الزناة الفضيلة ويتبارى في رجم ضحية لا حول لها ولا قوة. يرجمها بكل اشتهائه المكبوت لها.

وغالبًا كل من شهروا بالشابة ورجموها في العلن، هم أنفسهم من كانوا يشتهونها في السر.
فإذا كان الإنسان عاجزًا بالضرورة على إقامة العدل على نفسه وعلى غيره، فهذا أدعى أن يستمسك بالستر والرحمة.

عن شريف صالح

‎كاتب وصحفي مصري، درس في دار العلوم في جامعة القاهرة. كما نال دبلوم النقد الفني، ودرجتي الماجستير والدكتوراة في النقد الأدبي من أكاديمية الفنون. له العديد من المؤلفات الأدبية، وحصل على عدة جوائز أبرزها جائزة ساويرس في القصة القصيرة عن مجموعة «مثلث العشق»، وجائزة دبي الثقافية عن مجموعة «بيضة على الشاطئ»، وجائزة أفضل مؤلف مسرحي من مهرجان «أيام المسرح للشباب» في الكويت عن مسرحية «مقهى المساء»، وجائزة الشارقة للإبداع العربي عن الإصدار الأول لمسرحية «رقصة الديك».

تعليق واحد

  1. مقال رائع استعرض تاريخ الزنا و العقوبات المختلفة عن الشعوب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *