حين استقر أمر الحكم لمحمد علي بعد تخلصه من المماليك كان معظم تفكيره منصرفا إلى بناء دولته القوية التي بدأها بمحاولات بناء الجيش المصري، ثم بدأ في التفكير في كل ما يمكن أن يخدم تلك الفكرة، لكن الوضع المصري الداخلي لم يكن مشجعا، فقد خرجت مصر من عصر المماليك في حالة سيئة من حيث التعليم والثقافة، وزاد من هذه الحالة الاحتلال العثماني الذي حاول تجريد مصر من أمهر عمالها وصانعيها.
انصرف تفكير محمد علي إلى التعليم بوصفه الرافد الأهم لبناء جيش قوي، كما فكر في الاحتياج إلى أن يكون لدى مصر طريقة لحفظ العلم ونقله على خلاف المعروف في الطريقة الشفاهية في الأزهر والكتاتيب، ومن هنا بدأ شغفه، وهو الأمي الذي لا يعرف القراءة والكتابة، بالكتب وقراءتها، حيث كان حين يسمع من أحد الرعايا الأجانب في مصر عن كتاب لطيف أو قيم يرسل من يحضر له نسخة ثم يكلف من يترجمه له ويقرأ له الترجمة.
من هنا كان تفكير محمد علي في أوروبا بوصفها بلاد العلم في ذلك العصر، فخطط لإرسال البعثات إليها، وكانت البعثة الأولى التي تتكون من شخص واحد عرف عنه حبه للميكانيكا، شاب من أصل سوري يعيش في مصر مع أسرته وعمره لا يتجاوز العشرين عاما، لم تذكر كتب التاريخ أسباب اختياره هو بالذات لهذه البعثة، لكنها تذكر أنه في عام 1815 أرسل محمد علي الشاب نيقولا المسابكي إلى ميلانو بإيطاليا على نفقة الحكومة المصرية ليتعلم الطباعة.
عاد نيقولا بعد أربع سنوات حاملا معه طابعتين إحداهما بحروف عربية والأخرى باللاتينية، تماما مثل الآلتين اللتين أتى بهما نابليون في حملته، وأخذهما معه، وكانت الخطة واضحة، فبعد عودته بعام، وبناء على اقتراحه، صدر الأمر الأميري من محمد علي بإنشاء أول مطبعة في مصر وهي مطبعة بولاق، بإشراف نيقولا المسابكي، وكان ذلك في عام 1820، والتي استغرق بناؤها قرابة العامين ليتم افتتاحها وتبدأ عملها في ديسمبر 1822، حيث كان موقعها مكان دار الكتب الحالية، بين وكالة الأرز والنيل.
وجاء على اللوحة التذكارية لتأسيس المطبعة حيث نقش عليها أبيات شعرية باللغة التركية وترجمتها: إن خديوي مصر الحالي محمد علي، فخر الدين والدولة وصاحب المنح العظيمة قد زادت مآثره الجليلة التي لا تُعد بإنشاء دار الطباعة العامرة وظهرت للجميع بشكلها البهيج البديع.
ونستكمل قصة الطباعة المصرية الأسبوع القادم.
شكرا جزيلا د هيثم الحاج علي. دائما تفيض علينا بالعلم والمعرفة