كنت في المرحلة الابتدائية حين شاهدت فيلم يوم من عمري. أحسب أن عيني لم يرمش لها جفن طوال الفيلم. بعد حوالي أسبوع من التفكير واجهت أول صدمة عاطفية في حياتي حين سألت والدتي إن كانت زبيدة ثروت متزوجة أم لا؟!
كان أطول حتى من طلاب الصف السادس، ذا وجه منتفخ شديد السمار. حوله يتحلق دوما مجموعة من الألاضيش ضعاف البنية. تعاركنا يوما.. فاجتمع ألاضيشه وأوسعوني ضربا، في حين كنت أرسم في مخيلتي ملامحه المزهوة وهو يقف بعيدا مبتسما. بعد أيام مررت بخطوات تعرف وجهتها بينهم دون أن أرى وجوههم، في اللحظة المناسبة قفزت بقوة مصوبا رأسي نحو وجهه. تعالت صرخاته، والدماء التي سالت من أنفه تغرق ملامحه. انتصبت بعدها متحديا منتظرا أن يكتمل العراك، لكني فوجئت باختفاء الألاضيش، في حين كان هو يسبني متراجعا إلى الخلف وفي عينيه نظرة انكسار.
“السيما الأهلي” إحدى ثلاث سينمات في مدينة بني سويف وهي الأسوأ. مقاعد “الترسو” عبارة عن مصاطب إسمنتية ممتدة بعرض المكان أسفل الشاشة مباشرة ما يجعلنا نرفع رقابنا بحدة لأعلى كمن يدعو الله. هناك شجعت وحش الشاشة وهو يمسك بتلابيب محمود المليجي ودخلت في جلدي حين اقتربت أنياب دراكولا من مقاعدنا وهو ينهض من تابوته المشهور، وهناك فشلت في تعلم كيف أُطلق الصفير من فمي.
في طريق عودتنا من “المدرسة الإعدادية الحديثة” هناك فيلا مهجورة سورها مرتفع وعريض، تقع في حي “مقبل” العريق، حمنا حولها كثيرا متأملين النخل العجيب الذي يطرح تمرا أسود صغيرا، قبل أن نكتشف تهدما في أحد جوانب السور. صارت مغامرتنا اليومية هي التسلل و”حرجمة” البلح بالحجارة والاستمتاع بطعمه اللذيذ. أتعجب الآن كيف لم نفكر ولو للحظة في إلقاء نظرة على الفيلا المهيبة من الداخل؟
لا أتذكر الآن سبب ما قلت عن ياسر عرفات حين كنت في الصف الأول الثانوي، كل ما أتذكره عن هذه الأيام هو نقاشات سياسية مبتورة غير ناضجة ومصحوبة بغير قليل من الزهو الفارغ.
قلت لزميل “التختة” ساعتها:
– ياسر عرفات سياسي .. وانا حاسس إنه مش زي ما إحنا شايفينه
أجابني بكلمات حادة حفرت في ذاكرتي لبلاغتها:
– كلام فاضي.. أبو عمار مواقفه واضحه زي الشمس.. وماينفعش نقول على الأبيض إسود أو على الإسود أبيض.
مرت السنوات سراعا وتفرقت بنا السبل. حصلت على الدكتوراة في جامعة القاهرة، وعلمت أن زميل التختة السابق قد حصل على دكتوراة الفيزياء في جامعة أمريكية مشهورة، حتى كانت إحدى سفراتي للقاهرة. اتخذت مجلسي في القطار، أخرجت كتابا، وقبل أن أستغرق في القراءة جاءني صوت من قاع الذاكرة:
ـ السلام عليكم يا دكتور.. والله زمان.
التفت لأجد أمامي زميل التختة نفسه، وقد حجز المقعد المجاور لي (مصادفة تشبه الأفلام القديمة، لكن هذا ما حدث). كان اللقاء عقب وفاة ياسر عرفات بوقت قليل، ما جرنا للحديث عنه. قلت له:
– رحمة الله عليه صرف حياته في النضال، والأهم إنه كان رمزا مهما للقضية.
صعقني زميل التختة الدكتور بقوله:
– لعنة الله عليه كان خائنا.
التفت إليه وقد قفز الموقف القديم أمام عيني:
– ده اتهام خطير.. ليه بتقول كده؟ عندك دليل؟
كان رده أعجب من الصدفة التي جمعتنا حين قال:
– هذا أمر واضح كالشمس ولا يحتاج دليلا.. كأنك تطلب إثباتا على أن الأبيض أبيض والأسود أسود.
اتسعت ابتسامتي حتى شعرت بطرفي فمي يلامسان أذنيّ.. وسرحت بعدها مع دقات القطار المنتظمة.