أحدث الحكايا

د. برلنت قابيل تحكي: نحن والذكاء الاصطناعي.. شركاء أم أعداء؟

في قلب بيروت النابض، عاشت ليلى، فنانة تشكيلية شابة، حائرة بين شغفها الإبداعي وصراعاتها الداخلية. وبعد نجاحات متعددة، واجهت ليلى صعوبة في التعبير عن أفكارها من خلال لوحاتها، وفقدت بريقها الإبداعي مع مرور الوقت.

وفي إحدى مناقشاتها مع أصدقائها الفنانين حول أزمتها، أخبرها أحدهم أنه يجرب أداة جديدة  للذكاء الاصطناعي مصممة خصيصًا لدعم الفنانين. وتتمتع هذه الأداة بقدرة على تحليل الأعمال الفنية وفهم المشاعر الإنسانية، مما أثار فضول ليلى في البداية.

صورة تعبيرية بواسطة الذكاء الاصطناعي

 

ترددت ليلى في استخدامها، خوفًا من أن يفقد فنها روحه الخاصة ويصبح مجرد تقليد لذكاء اصطناعي. لكن مع مرور الوقت، بدأت تجربها بحذر، وقد ساعدتها في تحليل لوحاتها، وتقديم أفكار جديدة، وتوجيهها نحو تقنيات فنية لم تكن قد جربتها من قبل.

في جميع أنحاء العالم، يكتشف البشر طرقًا جديدة للتعاون مع الذكاء الاصطناعي، ليس فقط للحفاظ على مواهبهم، ولكن لرفعها إلى آفاق جديدة.

وفي القاهرة، وجد “سامي” نفسه حبيس غرفته، يصارع مع أوراق فارغة، حيث يعاني من غياب الأفكار الإبداعية الجديدة. امتدت معاناته لأشهر طويلة حتى كاد يسقط في الاكتئاب الحاد، وفي ظل معاناته قرأ إحدى المقالات التي تتحدث عن أدوات الذكاء الاصطناعي، وكيف يمكنها أن تساعد الكتاب للخروج من النفق المظلم المعروف باسم “جمود الكاتب”. في البداية، شعر سامي بالقلق. فماذا لو استبدل الذكاء الاصطناعي إبداعه؟ لكن مع مرور الوقت، اكتشف سامي أن الذكاء الاصطناعي لم يكن منافسًا، بل أداة قوية يمكنه استخدامها لتوسيع آفاقه الإبداعية، حيث تمكن سامي من استكشاف أفكار جديدة، وتجاوز حدود اللغة، وخلق قصصًا لم يكن يتخيلها من قبل. لم يعد  الذكاء الاصطناعي  مجرد أداة، بل أصبح شريكًا في رحلته الإبداعية.

تجربة سامي ليست فريدة من نوعها. ففي جميع أنحاء العالم، يكتشف البشر طرقًا جديدة للتعاون مع الذكاء الاصطناعي، ليس فقط للحفاظ على مواهبهم، ولكن لرفعها إلى آفاق جديدة.

ركاكة وقوة

هاتان القصتان هما قصتان تمت صياغتهما باستخدام الذكاء الاصطناعي، وفي الواقع رغم ركاكة القصتين إلى حد ما إلا أنني أود استخدامهما كبداية لما أود أن أناقشه في هذا المقال حول الفوائد التي يمكن أن يجلبها الذكاء الاصطناعي للإبداع البشري؟ وكيف يمكننا الاستفادة من هذه القوة دون أن نفقد هوياتنا كأفراد مبدعين؟

أثار ظهور الذكاء الاصطناعي (AI) الإثارة والقلق على حد سواء. ففي حين أن قدرته على إحداث ثورة لا يمكن إنكارها في الصناعات الإبداعية، إلا أن المخاوف بشأن تأثيره على الوظائف والمهارات البشرية لا تزال قائمة. ومع ذلك، فإن الفكرة الأساسية التي أود أن أطرحها هي أننا لا يجب أن ننظر إلى الذكاء الاصطناعي على أنه أداة للاستحواذ، وإنما كشريك لنا، لتطوير مهاراتنا، وتوفير الوقت والجهد لاستخدامهما في أمور أكثر فائدة وأقوى تأثيراً.

إن الفائدة الحقيقية للذكاء الاصطناعي تكمن في قدرته على تعزيز مواهبنا. تخيل أنه يمكنك تجاوز مرحلة النقص الحاد في الإلهام حيث يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل كميات هائلة من البيانات، واقتراح مواضيع ذات صلة، وإنشاء مخططات قصصية إبداعية، وحتى تقديم أنماط كتابة مختلفة.

صورة تعبيرية مصممة بواسطة الذكاء الاصطناعي

هنا تكمن المفاجأة

تعتمد جودة مخرجات الذكاء الاصطناعي كليًا على جودة الإرشادات  Prompts التي يتلقاها. فقط الكاتب الذي لديه فهم قوي للغة وتقنيات سرد القصص وإشراك الجمهور، هو الذي سيتمكن من صياغة إرشادات أكثر تأثيرًا، مما يؤدي في النهاية إلى محتوى أفضل من صنع الذكاء الاصطناعي.

لوحة للدكتورة علية عبد الهادي رسمتها بمساعدة الـ AI وعُرضت في معرض «الذكاء الاصطناعي وأنا… تجارب مستقبلية في الفنون»

 

ينطبق هذا المبدأ على كافة المجالات الإبداعية، فالفنان الذي يواجه صعوبة إبداعية يمكنه الاستفادة من الذكاء الاصطناعي لتوليد لوحات ذات ألوان مختلفة، واستكشاف أنماط فنية مختلفة، أو حتى اقتراح تراكيب فنية محتملة. ومع ذلك، فإن الفنان الذي لديه أساس قوي في مبادئ الرسم ونظرية اللون والتكوين سيكون قادرًا على الاستفادة من هذه الاقتراحات بشكل أكثر فاعلية، مما يخلق أعمالًا فنية فريدة وجذابة.

لوحة بعنوان “مسرح الأوبرا الفضائي”رسمها الأمريكي جاسون آلن بالذكاء الاصطناعي

 

أي أن جودة المخرجات تعتمد على تمكن ومهارة الشخص الذي يقدم الإرشادات، وقدرته على توجيه الذكاء الاصطناعي ببراعة، وتحديد المطلوب منه بدقة.

آفاق أرحب

والسؤال هو: كيف يمكننا التنقل في مستقبل الذكاء الاصطناعي دون أن نفقد مواهبنا؟ وكيف يمكننا تنمية هذه المواهب والانطلاق بها إلى آفاق أرحب بالاستفادة من الذكاء الاصطناعي؟

إليكم بعض النقاط التي أعتقدها مفيدة، وقررت أن أنفذها في عملي.

أولاً، ينبغي علينا أن نظل في حالة من التعلم مدى الحياة، فمع تطور قدرات الذكاء الاصطناعي، سيكون البقاء على اطلاع على أحدث الأدوات والتقنيات أمرًا ضروريًا. لا يتعلق الأمر فقط باستخدام الذكاء الاصطناعي ، ولكن أيضًا بفهم حدوده والعمل معه جنبًا إلى جنب.

ثانياً، أن نركز على نقاط القوة البشرية لدينا فالذكاء الاصطناعي يبرع في الأتمتة* وتحليل البيانات، لكنه يفتقر إلى اللمسة البشرية مثل التعاطف، والإبداع، والتفكير النقدي، وعليه فإن صقل هذه المهارات البشرية الفريدة لا يمكن الاستغناء عنه.

نسخة مطورة بواسطة الذكاء الاصطناعي صنعها هواة بهولندا من لوحة “الفتاة ذات القرط اللؤلؤي” للفنان يوهانس فيرمير

 

ثالثًا، التخصص، والمقصود به التخصص في مجال معين داخل مجالك، وبالتالي تصبح لا غنى عنك للمهام التي تتطلب الخبرة والحكم البشري، حتى مع مساعدة الذكاء الاصطناعي.

ظني أن مستقبل الأعمال في ضوء الذكاء الاصطناعي لا يدور حول فكرة الإنسان مقابل الآلة؛ وإنما يتعلق بالتعاون بين الإنسان والآلة

ولننظر معاً إلى المجالات التي يمكن أن يهددها الذكاء الاصطناعي تقليديًا، لنرى أن هناك دائماً مجالا للتفاؤل.

فإذا أخذنا الصحافة على سبيل المثال، يمكن للذكاء الاصطناعي أتمتة مهام مثل تحليل البيانات وتجميع الأخبار، مما يتيح للصحفيين التركيز على التحقيقات المتعمقة وسرد القصص الإنسانية. وبالمثل، في القانون، يمكن للذكاء الاصطناعي التعامل مع الأبحاث القانونية ومراجعة المستندات، مما يسمح للمحامين بالتركيز على استراتيجيات القضايا المعقدة والتفاعل مع العملاء.

أداة لا بديل

وظني أن مستقبل الأعمال في ضوء الذكاء الاصطناعي لا يدور حول فكرة الإنسان مقابل الآلة؛ وإنما يتعلق بالتعاون بين الإنسان والآلة، فمن خلال تبني الذكاء الاصطناعي كأداة قوية والتركيز على نقاط قوتنا البشرية الفريدة، يمكننا ليس فقط ضمان بقاء مواهبنا ولكن أيضًا ازدهارها في عصر الذكاء الاصطناعي، وبالتالي لا يمكن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي بشكل كامل، وإنما كأداة تكمل الإبداع، وليست بديلاً عنه.

لذا نرجو ألا يطول الوقت قبل أن يتم وضع ضمانات أخلاقية تحكم استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل مسؤول، مع احترام حقوق المبدعين وخصوصيتهم.

الخلاصة أنه أيا كانت مواقفنا تجاه الذكاء الاصطناعي فإنه ليس أمامنا سوى خيار وحيد، هو التعرف عليه ومصادقته، ومحاولة الاستفادة منه بكل الصور الممكنة، فمن لا يستطيع التكيف مع التطورات لا شك ستجرفه أمواجها بعيداً عن مسارات التطور ليجد نفسه خارج السرب.

دمتم بخير.


  • الأتمتة هي استخدام الحاسوب والأجهزة المبنية على المعالجات أو المتحكمات والبرمجيات في مختلف القطاعات الصناعية والتجارية والخدمية من أجل تأمين سير الإجراءات والأعمال بشكل آلي دقيق وسليم وبأقل خطأ ممكن. الأتمتة هي فن جعل الإجراءات والآلات تسير وتعمل بشكل تلقائي.

عن د. برلنت قابيل

د. برلنت قابيل أكاديمية وإعلامية مصرية، انضمت لكلية الإعلام، جامعة القاهرة كعضو هيئة تدريس فور تخرجها منها. حصلت على الماجيستير والدكتوراه في الاتصال والرأي العام من نفس الجامعة. شغلت منصب المسؤول الاقليمي للاتصال في مكتب منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، بالقاهرة، ثم عملت كمدير للترويج والتواصل في هيئة أبوظبي للثقافة والتراث (لاحقا هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة). انضمت للأمم المتحدة مرة أخرى في منصب خبير التوعية والتواصل في منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة في مقرها الرئيس بروما. وتعمل حاليا كمديرة للبرامج في مركز أبوظبي للغة العربية.

4 تعليقات

  1. Berlant Qabeel مقال رائع و الميزه الأساسية فيه هي الابداع و السلاسه في الطرح
    الموضوع مهم بالطبع .. و سيظل الجدل مستمراً لسنوات مع تنامي الاستخدامات اللا محدوده و أحياناً اللا معقوله للذكاء الاصطناعي..

    • برلنت قابيل

      شكرا جزيلا يا دكتور ، أعتز جدا بشهادتك. بالفعل سيظل الجدل مستمر، ونتمنى أن يظل ايضا الإنسان مسيطرا حتى النهاية، فالمخاوف من أن نفقد تلسبطرة متزايدة كذلك.

  2. مقال مهم. أعجبتني تلك النظرة الإيجابية بدلاً من الهلع الذي يصيب البعض كلما ظهرت تقنية جديدة. ولنا في تاريخ ظهور الراديو والسينما والتليفزيون ثم النت واليوتيوب إلخ ما يؤكد نظرتك تلك. فلم تلغ الوسيلة الجديدة الوسيلة القديمة بل جعلتها تطور نفسها. ولم تلغ أي وسيلة الإنسان ذاته بل جعلته يركز على ما هو أهم

    • برلنت قابيل

      ألف شكر يا أستاذ منير، وأتفق معك في الرأي جدا، أعتقد أن استيعاب التطور هو دوما الحل الأمثل، وأحيانا تعود الوسيلة بشكل مختلف من خلال التطور، مثلما عادت البرامج الإذاعية في شكل البودكاست مستخدمة الإنترنت بدلا من موجات الإذاعة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *