لا توجد كلمة غامضة أكثر من كلمة التاريخ. قد يتبادر للذهن أن الكلمة لا تحمل غموضًا، وأنها ببساطة متناهية الماضي الموثق بموضوعية، وليس أي ماضٍ بالطبع وكل حكاياته، لكنه حكايات منتقاة عن أحوال البلاد والعباد توضح كيف كانت الحياة قبلنا. ومن هذا النهر الكبير تتفرع جداول عدة، فيكون هناك التاريخ السياسي، والتاريخ الديني، والتاريخ الفني، والاجتماعي، إلخ…
التاريخ .. مثار تساؤل وجدل
ولكن ذلك يبدو تسطيحا كبيرا لمعنى الكلمة، فأي تاريخ نقصد حينما نذكر تلك الكلمة؟ لأن التاريخ يختلف باختلاف كاتبيه. ومن هو القادر على تحري الصدق من الكذب في صفحات التاريخ؟ وأي تاريخ هو؟ هل هو تاريخ المنتصرين القادرين على فرض حكاياتهم ورواياتهم على الجميع؟ أم هو تاريخ المنهزمين الذين همسوا به في آذان أبنائهم وأحفادهم وهم ينامون تحت أنقاض بيوتهم وحياتهم؟ هل هو تاريخ الرواة الشفهيين الذين مروا في الدروب يحملون آلاتهم الموسيقية البدائية وراحوا ينوحون عن أسلافهم متدثرين من برد التشرد بالمبالغة والأكاذيب؟ أي حكاية هي الحكاية الصادقة؟
وهل يملك صاحب الحكاية الحقيقية الصادقة القدرة على السرد ببراعة؟ وماذا عن منتحلي التاريخ وسارقي الحكايات القادرين على تحلية الأكاذيب وقصها على الجمهور بطريقة تجمع بين التشويق والامتاع فتنطبع في ذاكرة الناس!
في النهاية لقد صار التاريخ أمرًا شخصيًا بحتًا، صار لكل مواطن تاريخه الشخصي للعالم، صار من حق كل فرد أن يكتب تاريخه الشخصي عن الفن أو السياسة أو الرياضة وحتى عن التاريخ نفسه.
سرد التاريخ
الأمر شديد التعقيد. والتاريخ يمحوه التاريخ، ويحرفه تاريخ، ويفسره تاريخ. سهر الجبرتي الليالي، ليلة بعد ليلة، يسرد تاريخ المصريين والمماليك والفرنسيين، ويحكي عن الأقطاب والأولياء والقادة والدراويش والعوام. وانكب ابن إياس والمقريزي يحكون ما مضى وغيرهم حتى وصلت إلينا حديثًا حكاية التاريخ على ألسنة الأدباء والفنانين.
وظهرت الرواية التاريخية، وأعشق بشكل شخصي منهم الراحل جمال الغيطاني. والفيلم التاريخي وهو الأخطر على الإطلاق لأنه ذاكرة بصرية قوية تسكن الذاكرة بصدقها وزيفها وليس هناك أقدر من الكاميرا في مناصرة كل من الحق والباطل بنفس الكفاءة، ولها رواتها وحكائوها الكبار وآخرهم ريدلي سكوت وسرده العجيب عن نابليون بونابرت في سرد تاريخي سينمائي مربك يزيد داخلك معنى التاريخ غموضًا.
في النهاية لقد صار التاريخ أمرًا شخصيًا بحتًا، صار لكل مواطن تاريخه الشخصي للعالم، صار من حق كل فرد أن يكتب تاريخه الشخصي عن الفن أو السياسة أو الرياضة وحتى عن التاريخ نفسه، يمكن أن يكون هناك كتاب عند كل فرد في العالم عن تاريخ الأهرامات ومارلين مونرو وبرج إيفل والحرب العالمية الثانية والنادي الأهلي واكتشاف اليورانيوم. وحينما يصبح التاريخ بهذا الشكل الفردي فذلك يعني أنه يحتضر بالفعل.
إننا نشهد ما لم يشهده من قبلنا، نشهد نهاية التاريخ. ولكن الحكاية لم تنتهِ ولن تنتهي، ربما المقصود هنا هو نهاية غموض التاريخ ليظهر رواة جدد يؤرخون لما بعد التاريخ، ويعتمدون روايات خيالية تعكس التاريخ دون أن تحكيه، تاريخ آخر مختزل يحمل معاني الماضي في إشارات سريعة وبحكاية مختلفة. تاريخ فني ليس فيلمًا ولا رواية ولا مسرحية، لكنه لقطات مكثفة تشي بما مضى دون أن تغرق في تفاصيله.
لن ينتظر الناس عبرة أو حكمة من الماضي لكنهم سيكملون طريقهم، والماضي مجرد موتيفة صغيرة معلقة على حائط الحاضر. لقد مات التاريخ وبعث في صورة جديدة، صورة ستمحو كل ما كتب من قبل تحت ذلك العنوان الغامض (التاريخ).
الماضي نفسه والذاكرة تغيرت معانيهم، الإنسان المعاصر يريد أن يكون حاضرًا لا يريد أن يقتله الحنين أو تخطفه الذكريات، يريد فقط أن يعيش اللحظة، وتلك اللحظة هي حصيلة اللحظات التي مرت. لن يكون هناك ماضٍ بعيد أو قريب، سيحكي الناس عن اللحظة التي مرت من خلال اللحظة الآنية.
لن ينتظر الناس عبرة أو حكمة من الماضي لكنهم سيكملون طريقهم، والماضي مجرد موتيفة صغيرة معلقة على حائط الحاضر. لقد مات التاريخ وبعث في صورة جديدة، صورة ستمحو كل ما كتب من قبل تحت ذلك العنوان الغامض (التاريخ).