أحدث الحكايا

شريف صالح يحكي (على باب الله): أنت نفسك معجزة.. وأنت معجزة نفسك

في ليلة خريفية لا أنساها، كلفتني العائلةُ بركوب الحمار، والذهابِ إلى قرية بعيدة عن بلدتنا، كي أعود بجدي الذي ذهب إلى عُرس هناك. كان هذا يعني أن أسير وحدي في طريق معتم، عن يساري النيل وعلى يميني حقولٌ مزروعة تعزف فيها الضفادع سيمفونيةً مخيفة. كان لريح الخريف صوت يشبه النائحات في تراجيديا إغريقية، وفي منتصف الطريق كان ثمة بيت صغير مهجور من طابقين، ما جعل شعر جسدي يقف وجسدي يقشعر عند المرور به، لأن أحدهم أخبرني يومًا أن العفاريت تعيش في ذلك البيت المهجور.

وفي موقفٍ آخر، روت لنا جارتُنا الجميلة أنها بعد أن أنجبت طفلها سمعت ليلًا صوتًا يناديها، وحين فتحتْ نافذة بيتها المطل على النيل رأت جنية الماء ترفع رضعيها وتنادي عليها: “تعالي خذيه” لكنها قبل أن تندفع إليها، رأت رضيعَها نائمًا في وداعة بجوارها.

هل يمكن أن يكون للرضيع نسختان.. إحداهما مع الأم والأخرى مع جنية النهر؟ هل يسكن البيوت المهجورة سكاننا ليسوا مثلنا؟

صورة بالذكاء الاصطناعي

 

لا تتعلق هذه الحكايات بالإيمان بوجود الجن، فكلنا في طفولتنا كان لدينا إيمان جازم بأننا لسنا وحدنا في الكوكب. وإنما تتعلق بالوعي الذي تنامى في داخلي بأن للكون قصةً مزدوجة أو مفتاحين يصلحان للوعي به، أو منطقين لفهم لغز الوجود. وربما أكثر.

 

نحن نرى أشخاصًا يفعلون أشياء أقرب إلى المعجزات حقًا، مثل الذي يسير على حبل رفيع بارتفاع خمسين طابقًا، وذلك الذي يأكل الزجاج. نحن هنا نستعمل كلمة “معجزة” على سبيل المجاز، لأن كل إنسان يستطيع – بوعي فارق وإرادة فولاذية – أن يصنع “معجزة” ما

 

أيها الكون ما أنت؟

قبل مائة عام دار أعظم سجال في القرن العشرين بين عالمين حازا جائزة نوبل في الفيزياء هما ألبرت أينشتاين ونيلز بور، فقد ركبا ذات مرة قطارًا وبسبب حدة السجال فاتت عليهما المحطة.

كان أينشتاين قد أمعن في الأجرام والأجسام العملاقة في الكون، وأدرك أن ثمة “نظرية محكمة” تفسر كل شيء، يقف وراءها “عقل جميل”، لكن مؤسسي نظرية الكم بزعامة بور، وبعد إمعان في الجزيئيات والكائنات متناهية الدقة، انتهوا إلى أن الكون ما هو إلا “احتمالات من الفوضى” وصك هايزنبرج مبدأ “عدم اليقين”، فحتى التجربة التي نعيدها بالشروط والعناصر نفسها، لا تعطينا ضمانة بأن تكرر النتيجة ذاتها.

صاح أينشتاين في وجه أهل الكم صيحته الشهيرة: “إن الله لا يلعب بالنرد” لقناعته أن ثمة قانونًا ثابتًا حتى وإن لم نكتشفه بعد، ورد عليه بور: “لا تُملي على الله ماذا يفعل!”، فإذا كان الكون مصممًا وفق فوضى الاحتمالات، فلماذا نفترض أن الله نظمه وفق قانون ثابت؟

نيلس بور مع ألبرت أينشتاين في بيت بول إهرنفست (ديسمبر 1925)

 

هل يمكن حقًا أن يندفع الكون في حركته السرمدية وفق قانون ثابت، وبفوضى الاحتمالات معًا، رغم تعارض ذلك منطقيًا؟

هل نعيش نحن البشر بمنطق معين يعتمد على ما تدركه الحواس، بينما تعيش كائنات أخرى حولنا بمنطق مغاير؟ فقدراتنا تناسب طبيعة أجسادنا، وتلك الكائنات (ملائكة أم جان أم شياطين أم كائنات فضائية) تمتلك قدرات تناسب ماهيتها غير المرئية لنا.

ولربما العالمان الكبيران على صواب! كلاهما قد توصل إلى أحد المفتاحين لحل اللغز. ألا تُرينا الطبيعة نفسها شيئًا من هذا الثبات، وذاك التنوع حد الفوضى؟ فليس للكائنات الحية طبيعة واحدة رغم كل المشترك بينها، فالسمك يسبح تحت الماء، والطير يسبح في السماء، والإنسان يسعى على قدميه. مع ذلك كل الكائنات تخضع لقانون ثابت هو “الموت”.

 

ما الذي يمنع أن يستعين بعض البشر بالجن للإيهام بصور لا حقيقة لها؟ وما المانع أن مسبب الأسباب يخرقها ويلغيها نصرة لأنبيائه؟ وأن يطور الصالحون ملكاتهم إلى كرامات لهم، أو لغيرهم. فتطوى لهم الأرض، ويظهرون في أكثر من مكان في آن، ويطيرون في الهواء، ويمشون على الماء؟

 

لماذا نعتبر طيران الصقر في الأعالي فعلًا عاديًا، بينما يعد فرد الإنسان ذراعيه على طريقة سوبرمان فعلًا سحريًا لا وجود له إلا في قصص وخرافات البشر؟

بمنطق أينشتاين؛ كل نوع من الكائنات محكوم بقانون حتمي، طوره بخبرات آلاف السنين، فالإنسان الأول سار على أربع، ثم طور أماميتيه كيدين.

وبمنطق بور؛ ثمة احتمالات واسعة حد الفوضى، فالديناصور تطور ما بين كائنات ضخمة هائلة، وأخرى صغيرة في حجم دجاج الأدغال، وثالثة ذات ريش ولا تطير، ورابعة تملك جناحين عملاقين تطير بهما.

أليس من المحتمل إذن أن تتعدد كينونة الإنسان – مثل الديناصور –  أو يكتسب كينونة كائنات أخرى، تهبه مواهبها الخاصة؟ فالقانون الثابت، لا ينفي أبدًا فوضى الاحتمالات. والقصة المألوفة التي نعلمها عن وجودنا، لا تنفي قصصًا موازية لا نعلمها.

نحن نرى الوجود مألوفًا لنا، تشرق الشمس وتغرب بانتظام، لكن هذا “المألوف” بالاعتياد، هو سلسلة معجزات لا تُصدق.

ونحن نرى أشخاصًا يفعلون أشياء أقرب إلى المعجزات حقًا، مثل الذي يسير على حبل رفيع بارتفاع خمسين طابقًا، وذلك الذي يأكل الزجاج. نحن هنا نستعمل كلمة “معجزة” على سبيل المجاز، لأن كل إنسان يستطيع – بوعي فارق وإرادة فولاذية – أن يصنع “معجزة” ما.

صورة من الصحراء البيضاء للمصور المصري المختص بالتصوير الفلكي، عمرو عبد الوهاب

 

خرق العادة

يفرق المتصوفة بين ثلاثة أنواع من خرق العادة، وتعطيل السببية، وتغيير السنن الكونية، أولها “المعجزة” أي ما يعجز الخلق عن الإتيان به، وتكون بمثابة براهين وآيات يجريها الله تأييدًا لرسله، وبحسب ابن عربي لا فضل لنبي فيها. وثانيها “الكرامة” وهي تصدر عن قوة همة العبد وعلى علمٍ منه، فكأنها مكافأة على تدريب روحاني طويل، تصيب الولي أو الصالحين من العباد. وثالثها “السحر” وليس له حقيقة وجودية، وإنما هو صورة وتخييل وتلاعب بحواس الرائي، كما في أفعال السيرك والسحرة.

فإذا اعتبرنا أن “العادة” تعبر عن القانون، والثابت، والمنطقي، والحتمي (منطق أينشتاين)، و”الخرق” هو كسر ذلك كله، لفتح قوس الاحتمالات إلى ما لا نهاية (منطق بور)، فإن الخرق قد يكون جزئيًا لا يلغي الأسباب كليًا، وإنما يعبر عن الإرادة العظيمة للإنسان (مثل خرق طه حسين العادة التي تُحكم دنيا المكفوفين، لكن ما أنجزه يظل مقدورًا عليه من أهل العزم)، وقد يكون خرقًا وهميًا (أفعال السحرة) نتيجة براعة بعض البشر، أو بمساعدة الجن، وقد يحدث كثمرة لاجتهاد وآلام الأولياء والقديسين والصالحين (كرامة)، وقد يكون خرقًا بوحي من الله، فهو من وضع القانون وهو من يلغي فاعليته، مثلما خلق للنار قوة الحرق ثم سلبها ذلك عند وضع إبراهيم فيها (معجزة).

فما الذي يمنع أن يستعين بعض البشر بالجن للإيهام بصور لا حقيقة لها؟ وما المانع أن مسبب الأسباب يخرقها ويلغيها نصرة لأنبيائه؟ وأن يطور الصالحون ملكاتهم إلى كرامات لهم، أو لغيرهم. فتطوى لهم الأرض، ويظهرون في أكثر من مكان في آن، ويطيرون في الهواء، ويمشون على الماء؟

 

لا ينفي أهل الفيزياء إمكانية “خرق” العادة، بينما تخبرنا قصص الأنبياء والأولياء والقديسين والصالحين وعظماء النفوس أن هذا الخرق لا حدود له.

 

صورة بالذكاء الاصطناعي

 

يُروى أن النبي أسمع أصحابه “تسبيح الحصى” في يده، ثم أعطاها لأبي بكر وعمر وعثمان، وفي كل مرة سمع من حضر التسبيح. تحتمل القصة تأويلات متجاورة، فتكلم الحصى – وهي جماد – في يد النبي (معجزة)، امتدت لأصحابه. لكن عندما وضعت في يد صحابة آخرين لم يسمعوا التسبيح، ما يعني أن بقية الحضور لا يتمتعون – رغم الصحبة والعبادة – بما يتمتع به أبو بكر وعمر وعثمان من (كرامة).

وإذا قلنا إن الحصى كسائر مخلوقات الله تسبح بحمده ولكننا لا نفقه تسبيحها، لا يصبح التسبيح معجزة، وإنما المعجزة في توسيع أو تضييق قدرة الحضور على السمع، على حد تعبير ابن عربي “انخرقت العادة في تعلق أسماعهم به” أو “فتح الله سمعهم”.

فكل خرق للعادة، يقتضي بالضرورة تحررًا للحواس من قيودها وشروطها. ففي الحكاية المعروفة بـ”سارية الجبل”، كان عمر بن الخطاب فوق المنبر في المدينة المنورة يخطب يوم الجمعة، بينما قائده سارية يقاتل على أبواب نهاوند على بعد ألفي كيلو متر، في موقف لا يُحسد عليه هو وجنوده. وفجأة قطع عمر خطبته وصاح: “يا سارية الجبل، الجبل، من استرعى الذئب الغنم فقد ظلم”، وبعد انتهاء الصلاة سأله الناس عن ذلك الكلام الغريب الذي لا معنى له، فقال: “والله ما ألقيت له بالًا، شيءٌ أتى على لساني”، وحين عاد سارية إلى المدينة روى سوء الموقف الذي كان فيه إلى أن سمع صوت عمر يأمره بالالتجاء إلى الجبل، ففتح الله عليهم بالنصر.

يُسمى ما جرى “تخاطر” أو “تليباثي” أي نقل معلومات من عقل إلى آخر، مهما تباعدت المسافة بينهما، وهو ما يسعى إليه العلم حاليًا. ويمكننا أن نعتبره كرامة لعمر، أن يعبر صوته مسافة ألفي كيلو متر، لتحذير قائد جيشه، أو كرامة لسارية نفسه أن يتسع سمعه فيصل إلى صوت عمر في المدينة المنورة على بعد ألفي كيلو متر.

 

نحن نرى أشخاصًا يفعلون أشياء أقرب إلى المعجزات حقًا، مثل الذي يسير على حبل رفيع بارتفاع خمسين طابقًا، وذلك الذي يأكل الزجاج. نحن هنا نستعمل كلمة “معجزة” على سبيل المجاز، لأن كل إنسان يستطيع – بوعي فارق وإرادة فولاذية – أن يصنع “معجزة” ما.

 

لا ينفي أهل الفيزياء إمكانية “خرق” العادة، بينما تخبرنا قصص الأنبياء والأولياء والقديسين والصالحين وعظماء النفوس أن هذا الخرق لا حدود له.

فمن خلق الإنسان بوصفه معجزة، قادر أن يجري على يديه إنجازات لا مثيل لها، وكرامات، ومعجزات تتجاوز منطق العقل وقدرة الحواس على الاستيعاب. فليست معرفتنا الحسية، مهما تعاظمت، سوى قطرة لا تفسر شيئًا من لغز الوجود. وإذا آمنت حقًا بالحس والحدس، أنك أنت نفسك “معجزة” ستصبح أنت معجزة نفسك، وتنفتح لك أبواب وأسرار وخزائن الملكوت.

عن شريف صالح

‎كاتب وصحفي مصري، درس في دار العلوم في جامعة القاهرة. كما نال دبلوم النقد الفني، ودرجتي الماجستير والدكتوراة في النقد الأدبي من أكاديمية الفنون. له العديد من المؤلفات الأدبية، وحصل على عدة جوائز أبرزها جائزة ساويرس في القصة القصيرة عن مجموعة «مثلث العشق»، وجائزة دبي الثقافية عن مجموعة «بيضة على الشاطئ»، وجائزة أفضل مؤلف مسرحي من مهرجان «أيام المسرح للشباب» في الكويت عن مسرحية «مقهى المساء»، وجائزة الشارقة للإبداع العربي عن الإصدار الأول لمسرحية «رقصة الديك».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *