كنت في الصف الأول الثانوي، أقف على محطة أتوبيس خورشيد في السابعة إلا الربع صباح كل يوم. كان الواقفون على المحطة من تلاميذ وتلميذات وموظفين وعمال منافسين لي: من منا سيسبق الآخر عند حضور الأتوبيس ليقفز ويجد مكانًا يجلس فيه، أو يقف في منطقة متميزة؟ وكان الأتوبيس يأتي ومعظم كراسيه مشغولة، يركبه منافسون آخرون سيذهبون معنا، لكنه يمر بقراهم وهو آتٍ إلينا.
كان رواد المحطة محلّ تأملي الدائم: وجوههم، طريقة كلامهم، إشارات أيديهم، وما تلتقطه أذناي من حواراتهم. أذكر البنت التي كانت محط أنظار كل التلاميذ بالألوان المبالغ فيها على وجهها. كانت نحيفة، جميلة الوجه، الكل يحب النظر إليها محاولين جذب أنظارها، إلا أنا؛ كنت أراها جميلة جدًا وأحب النظر إلى وجهها، لكنها جارتي، وقد رأيتها وهي صغيرة تغرس إصبعها في فتحتي منخارها لتنظفهما. خيالي المريض كان يضع لي هذه الصورة أمام صورتها المتألقة، فأشيح النظر عنها. كان شعرها أسود شديد اللمعان، لكنها جاءت ذات يوم وقد ارتدت الحجاب. سألتها زميلة لها عن السبب، فقالت إنها خُطبت. وكأن الفراشة تبرجت بألوانها لتجذب الخطيب الموعود، ثم تخفي كل شيء لأجله، أو لأن مهمة التزين أتت بالنتيجة المرجوة ولم يعد لها داعٍ.
عندما تعيد هذه اللقطة نفسها على سطح ذاكرتي أشعر باستمتاع كبير، أفكر في سبب تذكري لهذه اللقطة بالذات، أو سبب تلك المتعة التي شعرت بها وقتها، أو أشعر بها في الاستعادة، لا أصل إلى سبب محدد أو معقول أو مفهوم، فأتوقف عن التساؤل
من هذا الأتوبيس، وفي طريقه إلى فيكتوريا حيث مدرستي، رأيت أجمل منظر في حياتي: قرص الشمس مؤطرًا بزجاج النافذة المغبرة، وأجساد الركاب تهتز وتخبط بعضها بعضًا، بينما أنا مشغول بالشمس وحدها. القرص اللامع، الاحمرار المبهر بدرجة لونية لم أرها قبل أو بعد. شعرت بسعادة غامرة لا أعرف سببها وأنا أحدّق في قرص الشمس هذا. تعجّبت أن الكل مشغولون عنه. ظننت أنني فقط من أراه، أو أنه خُلق لي وحدي. أشعر بانقباض عندما يختفي خلف بعض المباني العالية، وتعود إليّ الروح عندما يتجسد أمام عيني مكتملًا مرة أخرى.
تمنيت ألا تنتهي هذه اللحظة أبدًا، أن يظل الأتوبيس سائرًا إلى الأبد أمام هذا المنظر الخلاب، وألا يتحرك الزمن. لكن محطة فيكتوريا ظهرت، فنزلت مضطرًا والكل يدفعني حتى أكاد أسقط على وجهي، وعيناي في السماء تبحثان عمّا تستطيعان رؤيته. طول الحصص أختزن بداخلي المشهد المضيء، أخزن السعادة وأخبئها في حجرة مخفية في روحي، وكأنني أدرك أن هذا المنظر سيظل معي طوال العمر، يأتي فجأة فأتنسم مشاعر حلوة عشتها كاملة في دقائق بعمر كامل.
في طريق العودة، وفي الأيام الكثيرة التالية ذهابًا وعودة، أتطلع إلى قرص الشمس. جميل، مضيء، مبهر، لكنه ليس هو ذلك القرص الذي ابتلعته بداخلي، وكأنه كان شمسًا لمرة واحدة، تشرق على العالم، أو عليّ أنا بالذات، ثم لا تجيء أبدًا.
ظننت أنني فقط من أراه، أو أنه خُلق لي وحدي، أو أنني أتخيله، أشعر بانقباض القلب عندما يختفي خلف بعض المباني العالية، وتعود إليّ الروح عندما يتجسد أمام عيني مكتملًا مرة أخرى. تمنيت أن لا تنتهي هذه اللحظة أبدًا
كتبت ما يشبه الشعر لأسجل هذا الموقف. لكني لم أحاول أن أحلله عقليًا أو أفهمه. فقط أتذكره، وأبتسم. أقول إن كثرة تحديقي في قرص الشمس لسنوات تالية كانت من أسباب ضعف نظري، لكن تلك الدقائق الحميمة التي ربطت بيني وبين قرص شمس يخصني ظلّت من أمتع لحظات حياتي. تشبه واحة تهرب إليها روحي من وقت لآخر، لكنه هروب غير مخطط ولا استدعاء واعٍ؛ ربما هروب احتياج عندما تتراكم على النفس طبقات من عتمة أو إحباط أو مشاعر سلبية، فتهرب بأجنحة الذكرى البصرية إلى واحة الضوء.
نستكمل باقي المقال الأسبوع القادم…
شهرزاد

المقال كله حالة نرفانا..!
سلم قلمك أستاذي 🙏🏻
ربنا يسعدك
الف مبارك..بالتوفيق الدائم استاذي الكريم.
ألف شكر
الجمال الخالص هو عالمك المفضل ..قرص شمس خاص بك.ابتسامة نرفانا لا تتكرر فهمك للجمال و استقبالك له هو ما صنع تلك الذكريات لتظل مشحونة دائما بروحك ..دام الأبداع و دامت اللغة سلاسل من فتنة خالصة
دامت ذائقتك
حكايات لذيذة فعلا مقال جميل
حكايات لذيذة فعلا، مقال جميل.
تسلمي يا رب
لغة رقيقة وذكريات عابرة جعلنا الكاتب نعيشها بمشاعر مرهفة
قريبة للذاكرة طفل استطاع أن ينقلها الينا باتقان تحية للأستاذ القدير منير عتيبة ودام ابداعك
سلمك الله
سلم سردك وبوحك والحكى الرائع وكأننى أرى قصصك بعيناى
الله يحفظك
دائما مبدع في وصف التقاصيل الدقيقة التي تضفي على الذكريات حياة ابدية
تمنياتي لك بمزيد من الإيداع
ألف شكر
سرديات الذكرى والذاكرة قوامها ذكريات الشباب البكر مع الأنوثة في بدايات عمرها.. ذكريات تبقى وتترسخ لما فيها من جمال في العيون والشعر والهمسات ..إنها تفتح النفس البكر على الحب والأنثى.
ألف شكر
وخزات جميلة تعيدنا الى مواقف مشابهة في حياتنا، قد تختلف لكنها تشترك في وخزة الجمال التي تتركها في قلوبنا،
تجارب انسانية رائعة استمعت بقراءتها. دام قلمك النابض بالجمال والقيم والإنسانية أستاذ منير.
ربنا يحفظك
أبدعت في وصفك وسردك للأحداث ،،جميل جدا يا أستاذنا
ألف شكر
إنني عقلي الآن وبعد ان قرأت مقالك الجنيل يستعيد كل تلك الذكريات الجميلة المشابهة لذكرياتك فقد عشت كل تلك اللحظات ولازلت اعيشها ومازالت في وجداني حتى الآن فأنا حين كنت اسافر بالقطار لم اكن اريد للرحلة ان تنتهي كنت اريد ان اظل مسافرا بجوار الحقول إلى ما لا نهاية، وكم صادقت من جميلات صغيرات كن هن من عرفن معنى الجمال وقيمته في نفسي، انا أيضا اهوى الجمال والتأمل واستمتع بالرحلة فتحية لك من هاوي أخر للجمال.
لك مودتي
ما أجمل الذكريات الرقيقة التي تشي برقة ورهافة إحساس كاتبها
دمت متألقا ودام عطاؤك الراقي صديقي المبدع النبيل أستاذ منير عُتيبة
ألف شكر
مقال رائع
شكرا جزيلا
بالتوفيق والتألق دائما أديبنا القدير
حفظك الله
ياه.. أطلقت ذاكرتي نحو الجميلات التي أحببتهن جميعًا في كل مراحل حياتي، من طرف واحد.
هكذا اعتدت مع كل جميلة جمال نادر، ولطالما تعجب أصدقائي وتعجبت من تلقائية ذائقتي الانتقائية التي تختار أميرة في روحها ووجهها وأسلوبها وحركاتها وسكناتها، لا تكون أبدًا مثل أي امرأة، مهما قلدتها الكثيرات أو تشابهن معها، تبقى التي اخترتها هي الأرقى نفسًا والأعلى جمالًا والأنقى روحًا والأخلب كيانًا…
كتبت في بعضهن أو كلهن رسائل معظمها لم تصل إليهن، وثمة قصص تحمل سيرتهن ممزوجة ببعض الخيال..
ورجائي وعزائي الوحيد هو لقائي بهن في الجنة، حيث يكن لكل واحدة منهن قصرًا هي أميرته وأنا أميره.. وبذلك سيكون لي آلاف آلاف القصور.
ألف شكر
تحياتي لأسلوب حضرتك الرائع والشيق والمبدع كالعادة
شكرا جزيلا
لحظات رومانسية تلتقطها كاميرا الذاكرة
ربنا يحفظك
نرفانا هي ما سأظل أطارده حتى آخر لحظة من عمرى، هي الجمال الخالص الذي أحاول أن أراه في كل شيء، وأن أعثر عليه بكل الوسائل، وهي التي ستجعل روحي قادرة على محاربة القبح أو تجاهله
هكذا أنت دائمًا .. لا نثيل لك في رقيك.. روحك النقية.. شفافيتك.. قدرتك على أن تسمو وتعلو فوق الجسد وتسمو إلى الروح ونقائها وشفافيتها..عاشت نرفانا وعاش منير عتيبة الإنسان ..
وعشت يا صديقي
روعة الذكريات وجمالها تعيق القارىء عل إعطاء سارد الذكريات حقه
ف الإشادة
ألف شكر
حياك الله أستاذي الفاضل منير عتيبة.
مقال متميز يجذبنا نحو الجمال ويعلو بنا عن القبح.
دمت متميزة وطابت كل أوقاتك بالخير والرضا.
منى طه عبد العليم
حفظك الله
جميل جدا كابتنا المبدع الكبير منير عتيبة.. عشنا معك وتذوقنا تلك اللحظات الساحرة وكأننا فيها وهذا بفضل عذوبة الصوت وخصوصية التجربة وصدق السرد وروحه الجميلة كصاحبه أستاذنا الجميل… خالص محبتي
شكرا جزيلا
دام نبض القلم المتألق وعبقَ الذكريات الجميلة التي لا تنسى
ألف شكر
الذكريات الجميلة تبقى دائما.. دامت الذكريات والإبداع أ.منير
🌹🌹🌹🌹🌹
شكرا جزيلا
استدعاءات جميلة من الذاكرة للأستاذ منير.دام نبض القلم
ألف شكر
جميلة جدا وممتعة
ألف شكر
بالقدر الذي تنثال به ذاكرة الأديب الرائع والصديق العزيز منير عتيبة تتدفق الكثير من الومضات التي تجعلنا وجها لوجه مع لوحات مزدانة بالسرد الشفيف
أنا لم أعتل منبرا ولم أبع طبقا لفاتنة إلا أنني استطعت التماهي مع ذاكرة الكاتب العزيز وعشت هذه اللحظات بكل تفاصيلها باستمتاع بالغ
تسلم يا صديقي
لغة رقيقة راقية وأسلوب سلس عذب وبساطة تأخذك إلى نهاية المقال وأنت تتمنى لو استمر في سرد حكايات أخرى شيقة تحياتي وتقديري
ألف شكر
ياريت تكتب نذكراتك يوما ما
حاضر
مقال ممتاز فالكاتب يوظف لغة عذبة مكتنزة بالمجازات والاستعارات تجعل القارىء يستشعر الذكريات كأنها صور سينمائية حية وينجح في دفع القارىء لاستعادة ذكرياته الخاصة.. بوركت وبورك قلمك أستاذ منير
شكرا جزيلا
سرد ممتع صادق في تصوير النفس العاشقة للجمال أينما كان، الطفولة وذكرياتها ونظرة الكاتب على ما مر من العمر جعلت المقالة عزفا مشتركا بين الكاتب والقاريء.
ألف شكر
عالم جدبد جميل أساسه مخيلة مبدعة تحركيها ذكريات رقيقة تم عرضها بمزج من السرد الراقي واللغة العالية المعبرة والتصوير للأحداث ونقلها بصور بألمانيا الجذابة التي تخاطب أكثر من حاسة العين واللسان نقرأ الكلمات ونراي المشاهد رؤى العين ونكاد أن أن سمع الأصوات المعبرة عن الحدث من خلال معزوفة موسيقية تنساب بهدوء من بين الحروف والكلمات شكرت لكم ولقلم ولعالمكم الزاخر بالابداع
ألف شكر
العنوان؛ جذب لب القارئ
أحييك أديبنا الراقي على اختياره، الوخز هنا ماتع، وربما وخز أليم؛ لأنك لم تحظ بمثل تلك الذكريات مرة أخرى.
كتابتك للمقال فريدة، عندما أقرأها؛ أستخلص لنفسي جملا معينة، لها تأثير على نفسي، بالطبع إيجابي، ربما لأن أستشعر صدقك فيها، أو أنها تحليل ممتاز للموقف ذاته.
مثال ذلك، أعجبتني من هذه السطو:
لكنها جاءت ذات يوم وقد ارتدت الحجاب، سألتها زميلة لها عن السبب، أخبرتها أنها خُطبت. وكأن الفراشة تبرجت بألوانها لتجذب الخطيب الموعود، ثم تخفي كل شيء لأجله، أو لأن مهمة التزين أتت بالنتيجة المرجوة ولم يعد لها داع.
شبكة الألوان لحشرة رقيقة؛ صياد ماكر.
“في طريق العودة، وفي الأيام الكثيرة التالية ذهابًا وعودة، أتطلع إلى قرص الشمس، جميل، مضيء، مبهر، لكنه ليس هو ذلك القرص الذي ابتلعته بداخلي، وكأنه كان شمسًا لمرة واحدة، تشرق على العالم، أو عليّ أنا بالذات مرة ثم لا تجيء أبدًا”
لون أشعة الشمس كانت هي الصياد في هذه المرة؛ الضحية هي أنت. سيطرة الحرير.
نرفانا
لها ألوانها هي الأخرى، ودقة ورقة الحرير نفسه، يا لها من جميلة.
جمال الروح ينبعث من خلال سطورك يا أستاذنا.
دمت ودام رقيك.
تحياتي💐
ألف شكر
سرد أنيق وحالة من الصفاء الروحي جميل أقرأ وكأني في قلب الحدث عشت كل تفصيلة وتأثرت بها .. ألف مبارك دمت مبدعًا مميزًا🌹
ألف شكر
سلسال المشاعر المرهفة عبر الزمن
سلم قلمك أستاذ منير
شكرا جزيلا
ممتع جدا … شكرا جزيلا
تسلم يا رب
ألف شكر
ذكريات مصورة بعناية و محفورة في الوجدان.. استمتعت بالقراءة💚
تسلم تسلم
سرد متقن ومشوق ومعرفي لسارد جميل
ألف شكر
تتماس ذكريات شبابك الأولى مع ذكريات طفولتي، أتذكر الأتوبيس ومروره على الأرض الزراعية بالسيوف – سيتي لايت الآن- بكر الزرع، وبكر العمر، وبكر صباح رائق بشمس دافئة. المعرض الزراعي الصناعي، ذهبت إليه مع أهلى واشتريت أهل الكهف للأطفال بقلم توفيق الحكيم، مازالت لدى حتى الآن.
دامت الذكريات، ودام الإبداع.
حفظك الله
نوستالجيا توخز الروح وخزا رقيقا ناعما لتتدفق الذكريات في هذا السرد البديع الماتع لنقف مشدوهين امام هذا القلم
ونتسائل كيف ببراعة نسج لنا تلك المشاهد، نرفانا التي بظهورها كما قرص الشمس الذي سطع مرة واحدة بهذا التألق ليظلا على مر العمر رمزا للجمال الذي يمنح الكاتب المناعة ليغض الطرف عن كل القبح الذي ملأ الدنيا.. كل التحية لقلمك المبدع.
شكرا جزيلا ربنا يحفظك