أحدث الحكايا

د. هيثم الحاج علي يحكي: حكاية لطفية النادي.. أرادت أن تكون حرة فطارت

في عام 1932 أنشئت مدرسة الطيران المصرية، وكانت تابعة لشركة مصر للطيران التي كانت من أوائل الشركات التي أنشئت باسم مصر في تلك الفترة، وهي من أوائل مدارس الطيران في العالم، وقد التحق بالمدرسة في عامها الأول ثلاث وثلاثون شابا مصريا استهوتهم الفكرة وبحثوا عن تجربة جديدة فتحوا بها آفاق أحلامهم.

أم كلثوم تقوم بزيارة شركة الخطوط الجوية المصرية التي افتتحت عام 1932

 

في العام نفسه فوجئ الكابتن كمال علوي مؤسس المدرسة بفتاة تطلب مقابلته بوساطة الصحفي أحمد الصاوي الذي كتب عن المدرسة في عموده الصحفي، وعندما قابلها فوجئ بها تطلب منه الالتحاق بالمدرسة لتتعلم الطيران، لكنه تحفظ في البداية، فعلى الرغم من كون الفتاة قد تخطت عامها الخامس والعشرين فقد طلب منها موافقة ولي الأمر، في اختبار لجدية طلبها.

ذهبت لطفية النادي المولودة في التاسع والعشرين من أكتوبر من عام 1907 بالقاهرة، وعادت ومعها أمها التي شرحت لمدير المدرسة الأمر، فقد كانت لطفية النادي ابنة لموظف في المطابع الأميرية وكان يرى أن الفتاة يجب أن يتوقف تعليمها عند المرحلة الابتدائية، غير أن الأم قد حاربت الفكرة وألحقت ابنتها بمدرسة أمريكان كولدج، وقد أتمتها، فاشترطت الأم ألا تكلف الدراسة الأب أي تكاليف إضافية في نوع من التحفيز للموافقة، ورأى كمال علوي أن التحاق فتاة بالمدرسة ستكون دعاية جيدة للمدرسة في وقت ليس ببعيد عن تاريخ حصول أول فتاة مصرية على رخصة قيادة السيارات، وفي وقت قريب جدا من حصول أول فتاة في العالم على رخصة الطيران.

لطفية النادي أول امرأة مصرية تقود طائرة

 

عرض المدير عليها أن تعمل بالمدرسة سكرتيرة وعاملة تليفون لتتمكن من تسديد مصروفات الدراسة من دخلها من العمل بالمدرسة وقد وافقت على الفور، وعملت سكرتيرة بمدرسة الطيران، وكانت تحضر دروس الطيران مرتين أسبوعيًا دون علم والدها، وقد تعلمت الطيران مع زملاء لها على يد مدربين مصريين وإنجليز في مطار ألماظة بمصر الجديدة، وقد كانت الفتاة الوحيدة بين المتدربين وقد حظيت باحترامهم وتقديرهم، في الوقت نفسه، كانت تعمل في مطار ألماظة بغرض الحصول على المال لتمويل تعلمها الطيران.

كان رقمها 34 عند التخرج، أي إنه لم يتخرج قبلها على مستوى المملكة المصرية سوى 33 طيارًا فقط، جميعهم من الرجال، وكانت بذلك أول فتاة مصرية عربية أفريقية تحصل على هذه إجازة «طيار أ» مدرب بتاريخ 27 سبتمبر 1933.


في عامها السادس والعشرين، كانت لطفية النادي أول امرأة مصرية تقود طائرة بين القاهرة والإسكندرية، وثاني امرأة في العالم تقود طائرة منفردة، إذ تمكنت من الطيران بمفردها بعد ثلاث عشرة ساعة من الطيران المزدوج مع مدربها مستر كارول، كبير معلمي الطيران بالمدرسة، حيث إنها قد أكملت حصتها التدريبية في سبع وستين يوما، وقد تلقت الصحافة من مدير المدرسة كمال علوي الدعوة لحضور الاختبار العملي لأول طيارة «كابتن» مصرية في أكتوبر 1933.

بذلك تكون هذه الفتاة الصغيرة الحالمة أول فتاة عربية أفريقية تحصل على هذه الإجازة وعمرها 26 ربيعًا؛ لتحقق بذلك حلمها بالطيران بمفردها، وقد نشرت الصحف هذا الخبر مع صور تم التقاطها لها مما أثار غضب والدها الذي لم يعلم بالأمر إلا من الصحف.

لطفية النادي

 

وفي محاولة منها لإرضاء والدها اصطحبته معها في الطائرة، وحلقت به فوق القاهرة والأهرامات عدة مرات، ولما رأى جرأتها وشجاعتها ما لبث أن أصبح أكبر المشجعين لها.

في الفيلم الذي أنتج عن قصة حياتها سئلت لطفية عن السبب الذي دفعها لخوض مغامرة تعلم الطيران فأجابت: لأنني أردت أن أكون حرة.

طائرة خاصة للطفية النادي

في ديسمبر من العام نفسه قام نادي الطيران المصري بالدعوة لعقد مؤتمر الطيران الدولي في مصر للمرة الأولى في تاريخه، وهو المؤتمر الذي ناقش تطوير مهارات الطيارين وقوانين الطيران، وقد شاركت لطفية النادي في الجزء التسابقي في المؤتمر بالاشتراك في سباق سرعة بين القاهرة والإسكندرية، وبالفعل كانت الأولى في ترتيب الوصول غير أن المحكمين سحبوا منها الجائزة بحجة أنها لم تلتزم بمسار السباق، فما كان من الملك فاروق إلا أن منحها جائزة شرفية ومبلغ مائتي جنيه تقديرا لأول فتاة مصرية تطير، كما أرسلت لها هدى شعراوي برقية تهنئة تقول فيها: “شرّفت وطنكِ، ورفعت رأسنا، وتوجت نهضتنا بتاج الفخر، بارك الله فيكِ”، وبدأت هدى شعراوي بعدها حملة اكتتاب لشراء طائرة خاصة للطفية النادي لتصبح سفيرة لنساء بلادها في كل مكان تطير فيه، وبالفعل تم شراء الطائرة التي شاركت بها لطفية النادي في عدد من مسابقات الطيران الدولية.

أسهمت لطفية في تأسيس نادي الطيران المصري وعينت سكرتيرا عاما له، وظلت تديره بكفاءة حتى أصيبت في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي في حادث طيران وسافرت للعلاج في سويسرا حيث تم الاحتفاء بها هناك وتكريمها ومنحها الجنسية السويسرية فأقامت هناك لفترة طويلة من حياتها حتى التسعينيات، قبل أن تعود إلى مصر وتتوفى بها عام 2002، بعد أن فتحت الباب لبنات جنسها من المصريات لخوض التجربة فلحقت بها دينا الصاوي، وزهرة رجب، ونفيسة الغمراوي، ولندا مسعود أول معلمة طيران مصرية، وبلانش فتوش، وعزيزة محرم، وعايدة تكلا، وليلى مسعود، وعائشة عبد المقصود، وقدرية طليمات؛ ثم أحجمت فتيات مصر عن الطيران بصفة نهائية فلم تدخل مجال الطيران فتاة مصرية منذ عام 1945 وحتى التسعينيات.

قالوا عنها

احتفى الكتاب والمفكرون المصريون بلطفية النادي فكتبوا عنها المقالات التي تحييها بوصفها نموذجا مشرفا للفتاة المصرية فكتب عنها سلامة موسى في “المجلة الجديدة” في عددها الصادر في يناير 1934 قائلا:

“ولكن مصر حاربت هذه التقاليد ونجحت في محاربتها.. وأثبتت للعالم أن المرأة المصرية ليست قعيدة البيت.. وأن فيها من الإقدام والاقتحام ما هو جدير بإعجاب العالم.. فإذا بالمرأة في مقدمة الصفوف.. وها نحن نرى ثمرة التطور في لطفية النادي التي يشمخ كل مصري الآن برأسه افتخارا بها”.

وكتب أحمد حسن الزيات في مجلة الرسالة بعددها الصادر في الشهر نفسه يقول:

“مَن كان يخطر بباله أن الآنسة لطفية بنت الخدر العربي، وذات الخفر المصري، تباري أساطين الطيران ذوي الماضي البعيد والمران الطويل والخبرة الواسعة، وهي لم تقض في علاج هذا الفن غير ستة شهور، فكيف يقع في الظن أن تسبق سابقهم وتهبط الأرض قبله بدقيقة كاملة؟”.

لطفية النادي

 

تم إنتاج فيلم وثائقي عن قصة حياتها عام ١٩٩٦ تحت عنوان “الإقلاع من الرمال”، كما احتفى موقع جوجل بعيد ميلادها عام 2014 بصورة تذكارية لها، وقد أطلقت مصر اسمها على واحد من محاورها المرورية الجديدة المؤدية إلى مطار القاهرة.

في الفيلم الذي أنتج عن قصة حياتها سئلت لطفية عن السبب الذي دفعها لخوض مغامرة تعلم الطيران فأجابت: لأنني أردت أن أكون حرة.

فتحية للطفية النادي التي حققت حريتها وفتحت الباب للمرأة المصرية لكي تثبت جدارتها بهذه الحرية.

عن د. هيثم الحاج علي

شاعر وناقد، أستاذ مساعد الأدب العربي الحديث والنقد بكلية الآداب جامعة حلوان. شغل سابقا العديد من المناصب في وزارة الثقافة المصرية مثل: رئيس مجلس إدارة الهيئة المصرية العامة للكتاب، أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، رئيس مجلس إدارة جريدة القاهرة الصادرة عن وزارة الثقافة المصرية، له العديد من الكتب النقدية والإبداعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *