(إنه أفضل ابن يتمناه الوالدان.. إنه أفضل أخ تتمناه الأخت.. إنه أفضل والد تتمناه الابنة.)
نطق بطل الفيلم الهندي بهذه الكلمات، فوجدت صورة خالي رجب تقفز إلى ذهني الذي يردد: إنه أفضل خال يتمناه ابن الأخت، إنه أفضل صديق يتمناه طفل يبدأ التعرف على العالم.
لم أسبب الإحباط لأحد في العالم مثلما سببته لخالي رجب. وضع على عاتقي تنفيذ أحلامه المهمة، وخيّبت أمله فيها كلها.
كان خالي رجب -ولا يزال حفظه الله- وسيمًا، جريئًا، لا يحسب للغد حسابًا، بل لا يحسب للدقيقة التالية أي حساب، لديه يقين -لا أعرف من أين أتاه- أن كل أموره ستكون بخير، وحدها هكذا، لأنه لا يعرف الكراهية، وإن كان يعرف الغضب السريع، ولا يعرف البخل، وإن كان يعرف الشكوى من تسرب الفلوس كالمياه من بين الأصابع، ثم تأتي الفلوس فيحرص على أن يسرّبها بسرعة.
لم يكن خالي رجب يحب المدرسة، كان كثير الغياب عن الحصص، فلم يحصل على الشهادة الابتدائية، لكنه كان أمهر فتيان القرية في ركوب الدراجات، يسبقهم جميعًا، وإذا حاول أحدهم أن يَسبقه أو يُسقطه بدراجته فالويل له، فالأكيد أن خالي رجب هو من سينتصر.
لم يكن خالي رجب غبيًا، لكنه ببساطة لا يحب المدرسة، فكرة الالتزام لا تناسب شخصيته، موعد للحضور، موعد للانصراف، مواعيد للحصص، واجبات، عقاب على عدم عمل الواجب أو استكماله أو الكراسة المقطوعة أو المنسية أصلًا أو الكتاب الضائع.. هَمٌّ كبير لا معنى له، تركه غير آسف عليه، عندما اقترب من الخمسين كان يأسف قليلًا، لأنه كان يريد إجادة القراءة والكتابة بدرجة أفضل مما هو عليها الآن، لكني أعرف أنه أسفٌ لحظي، فلو عاد الزمان، لما استمر في المدرسة.
ذكاء خالي رجب كان في يديه، بسرعة تعلم صنعة الحدادة، والميكانيكا، في الورشة التي أرسله إليها سيدي العربي رحمه الله (جدي)، لأنه كان يعرف أن ابنه لن يتعلم في ورشته، لابد أن يكون معلمه غريبا، وقويًا، وعنيفًا، يعاقب على أية هفوة بإلقاء المفتاح باتجاه خالي دون تحديد المنطقة التي يريد أن يصيبه فيها، الوجه، الأكتاف، البطن، المنطقة الحساسة التي كان خالي يحرص على حمايتها أكثر من بقية الجسم. ولم يحتج الأسطى ميمي إلى هذه الطريقة المثالية في التعليم مع خالي رجب الذي وجد متعته في الفك والتركيب، يشعر بنشوة عندما تخرج السيارة من تحت يديه حية تسعى بعد أن كانت مجرد قطعة حديد لا روح فيها، انتهت بعثته التعليمية في ورشة الأسطى ميمي فانتقل إلى ورشة سيدي العربي ليكون أهم وأنشط عضو فيها.
كان خالي رجب؛ ولا يزال، وسيمًا، أبيض، رشيقًا، أشقر، أخضر العينين، وكان يعرف هذه الميزة فيه، ولم تكن تهمه، فلا تدخل البنات في دائرة اهتمامه أكثر من الدراجات التي أصبحت بعد ذلك السيارات، ركوبها والانطلاق بها بأقصى سرعة، وإصلاحها، هذا ما يمنحه متعة حقيقية.
لا أعرف إن كان خالي مرَّ بقصة أو قصص حب، وإن كان بالتأكيد أُعجب ببعض الفتيات اللاتي كان يراهن في سوق الأحد، وبعضهن كن يشاغلنه، فيفرح لاهتمامهن به، لكنه لا يهتم بالرد عليه بأحسن منه ولا حتى بمثله. لكني أعرف أنه تزوج قريبة لجدتي، هي أيضًا جميلة ملونة العينين، لذلك تجد في أسرتنا بعض ذوي العيون الملونة، بعض إخوتي، بعض أبنائي، بعض أحفادي، لكن في أسرة خالي رجب، كلهم ملونو الأعين. ولأننا جميعًا نعرف أن خالي رجب الطيب يحبه الله فقد رزقه بسيدة عكسه تمامًا، هي ماء ينزل بسلام وهو نار يشعلها الغضب في لحظات، تترك له إدارة شؤون الحياة واثقة في أنه لن يخذلها، وحتى إن خذلته الظروف، فالله يقيض له من يخرجه من أية حفرة، هو “سايبها على الله تمامًا” كما يحب أن يقول.
يكبرني خالي رجب بأقل من عشر سنوات، لذلك هو أقرب لأن يكون أخًا أكبر أو صديقًا، هو الوحيد الذي كان يدللني باسم غير اسمي فيناديني (نور)؛ حتى الآن. يشتري لي الحلاوة والمصاصة، يأخذني معه إلى الإسكندرية عندما يرسله سيدي ليشتري بضاعة أو يحاسب التجار، فيشتري لي عصير القصب والهريسة، يأخذني خلفه على الدراجة، حاول أن يعلمني ركوبها وفشل أو أنا فشلتُ لخوفي، أما هو فلا يعرف كلمة الخوف، فطوال عمره مرهوب الجانب، لأنه لن يخشى عددًا من الرجال المسلحين بمطاوي أو سيوف، وهو وحده أعزل، سيرمي نفسه بينهم، يضربهم بكل ما أوتي من قوة، ولا يعنيه ما سيحدث له، أما أنا فسأكون نجمًا سينمائيًا يجب أن أحافظ على وجهي وجسدي!
وهذا أول أمل أحبطتُ فيه خالي رجب الذي كان يراني متعلقًا بأفلام ومسلسلات التليفزيون، فيُلحُّ عليَّ بضرورة أن أتعلم لأكون مثل هؤلاء الممثلين الذين يحصلون على أموال طائلة ويعيشون في القصور!
أنا وخالي رجب وبروس لي
أما الإحباط الثاني الذي سببته له فهو عدم استطاعتي أن أكون بروس لي!
كان خالي يحب بروس لي، ويتمنى أن يكون مثله، كما كان يتمنى أن يكون نجمًا سينمائيًا، وطبيبًا، لكنه لم يكن يحب أن يسعى لتحقيق أي حلم منها، ولماذا يشغل باله عن عمله المحبب ما دام (نور) موجودًا ليحقق فيه أحلامه.
ركبت الأتوبيس، ذهبت لأول مرة وحدي إلى منطقة العوايد، اشتريت كتاب (بروس لي تعلم فن الكاراتيه)، وضعت الكتاب تحت ملابسي خجلًا من أن يراه أحد، كنت أشعر أن من يراه سيضحك عليَّ، أو يختبرني فيه، أو يضربني ليثبت أنني لا أستحق أن أكون مثل بروس لي الذي يطير مفتوح الساقين على غلاف الكتاب الأصفر.
أوراق الكتاب أردأ من ورق الجرائد، الكتابة تُقرأ بصعوبة، توجد رسوم توضيحية للحركات التي لا بد أن أقلدها وأتدرب عليها حتى أتقنها لأكون بروس لي كما أراد خالي رجب، ولم يكن كل هذا صعبًا بالنسبة لي، كنت أحتاج فقط لأن أفهم هذه الحركات، وأقسم بالله يا خالي بعدها سأتدرب عليها وأتقنها، وأضرب كل العيال!
ضاعت فلوس خالي المصروفة على الكتاب والمواصلات دون جدوى، لكن الكتاب ظل معي زمنًا طويلًا، أعذب به نفسي، غصة في حلق القوة والشجاعة أتجرعها كلما رأيته، لكني لا أتخلص منه، حتى ضاع، فارتحت.
في الثانوية العامة؛ التحقت بالقسم الأدبي، لأن رغبتي الوحيدة كانت دخول كلية الآداب، لكن خالي كان يُلحُّ عليَّ لأجتهد، لأنه يريدني أن أكون طبيبًا. فكرة أنه من المستحيل أن أدخل كلية الطب عن طريق القسم الأدبي، وأنني أدوخ إذا رأيت فرخة تذبح (لكني آكلها عادي)، وأن جسدي يقشعر لمجرد رؤية دماء، أو سماع أحد يحكي عن أوجاعه، كلها تفاصيل يحرص خالي رجب أن لا تصل إلى أذنيه، ويواصل إلحاحه عليّ بالاجتهاد لأكون طبيبًا، وعندما التحقت بكلية الآداب وعدته؛ غير صادق عمدًا، أن أجتهد لأكون دكتورًا في الجامعة، فتقبل الأمر على مضض.
الوحيد في أخوالي وأعمامي الذي يتصل بي فجأة ليطمئن علي، فبداخله يشعر أنني ابنه البكر، لكنني أشعر دائمًا أنه فتى العائلة المدلل الذي لا يكبر أبدًا، محبوب ومغفور له كل ما يعمله. عندما يغضبه أحد إلى درجة يشعر معها أنه يمكن أن يندفع ويتسبب في مصيبة يحدثني ويحكي لي ما حدث وما ينوي فعله، فأسكب على ناره بهدوئي دلوَ ماءٍ بارد، يتقبله مني، هو اتصل أصلًا لأنه يعرف أنني سأفعل ذلك، لكن تقبله لا يعني أنه سيفعل ما اتفقنا عليه، يمكن فقط أن يخفف ما كان ينويه، أو يؤجله قليلًا، وأحيانًا يفعل ما أقول له ليس فقط لثقته في بل لأنه طيب لدرجة أن النار التي تشتعل بداخله فجأة؛ تخمد فجأة بكلمة طيبة، أو طبطبة على الكتف، أو ظهور أمر آخر يشغله.
خالي رجب من أطيب الناس، وأحبهم، لديه رضا عن نفسه والناس والحياة والله، ولا يشعر بأنه تمنى شيئًا لم يحققه، رغم الشكوى من وقت لآخر، وأنا لا أذكره بما تمناه ولم أحققه له، لكني سأتصل به الآن، فقد أوحشني صوته.
استمتعت جدا بما قرأت، واقترح علي حضرتك استاذ منير أن تدعوه للمختبر حتي ري ما حققته من نجاح وأعتقد أن هذا هو ماكان يتمناه لك حسن حبم أن تصبح طبيبا لأن أغلب الناس يشعرون أن مهنة الطب هي اسمي المهن ،
حسن تدعوه ستعرف انك تحارب الجهل وتثري العقول وستتفاجيء بأنه سبكون متابع لندوات حضرتك بعد ذلك
تمنياتي بمزيد من النجاح والتألق
حفظك الله أستاذة أماني
ربي يخلي خالو رجب.. الخال والد فعلًا.. كويس حضرتك سيبت بروس لي واتجهت للكتابة، كسبنا أديب، والكاراتيه خسر لاعب..
ألف شكر أستاذة نهى
يقولون الخال والد وأنا أقول بعضهم، والعلاقة بينك وبين خالك علاقة جميلة ومفعمة بالحب.. لكن في نفس الوقت هناك جانب نفسي تعويضي ؛ فخالك يريد أن يحقق فيك مالم يستطع أن يحققه هو.. بارك الله فيكما وأطال عمركما.
ألف شكر أستاذة أمينة
مقالة ممتعة جدا والعبرة منها أن الإنسان مهما يحاول يحقق احلام الآخرين بالنهاية لن يحقق إلا ما يناسبه
حبيبتي يا جوجو
الخال والد..
جميل الخال رجب، وجميل الأديب ابن الأخت
دام هذا القلم البديع الصادق
سلمت أستاذ علي
دمت بإبداع ودام حضورك العطر مبدعنا المتألق أستاذ منير عُتيبة
تسلم أستاذ سمير
ذكريات و مواقف لا تنسى و تذكرها يزيدها روسخًا
حفظك الله أستاذة نبيلة
يبدو يا أستاذ منير، ان لكل واحد منا خالا بمكانة رجل يختزل كل الأماني ويستمع لكل الأغاني.. مثلما ظل يسكننا بروس لي وبعده جاكي شأن وربما تايسون.
شكرا لمقالك الجميل..
تسلم صديقي د عز الدين ميهوبي
مقال مميز ورائع
ألف شكر أستاذة رانيا
السرد السريع يناسب الجميع هذه الأيام حتى يشجع الشباب على القرأه
شكرا للأدب ا منير عتيبه
ألف شكر استاذ عبدالله
الخال رجب يذكرني بشخصية البهي في رواية ابراهيم عبدالمجيد الأيقونية لا أحد ينام في الأسكندرية. نفس الملامح والقوة والإقدام والتميز ممتزجا بالحب والحنان والاهتمام. وكأن الأرض تنبت ازهارا متفردة تتحول مع الأيام إلى رموز لا تنسى. دام الإبداع
ألف شكر د.إيهاب
مقال مهم جداااااااا
شكرا جزيلا أستاذة سارة
حكي شيق ينعش ذاكرتنا بالماضي القريب حيث الاسرة والدفء العائلي
التلاحم بين الاباء والابناء الجد والخال والعم بيت العائلة الكبير مانفتقده الان من بعد وتفكك اسري لا احد يزور الاهل الابناء كل في عالمه الافتراضي
الكل يسكن تحت سقف واحد بينما تفصلهم حواجز غاب الدفء والتلاحم الاسري وانكفا الجميع علي شاشته الزرقاء بينما نحن الاقدم عمرا مازلنا نعيش مع ابطال الماضي واحلامنا التي مازالت هناك بين قبضة بروس لي الحديدية
سحر النحاس
حفظك الله أستاذة سحر
ذكريات جميلة والخال والد فعلا .. مزيد من الإبداع والذكريات الممتعة أ.منير🌹🌹🌹🌹
ربنا يحفظك أستاذة فاطمة
مقال جميل، كتب باسلوب قصصي شيق ، كما عودنا الكاتب الكبير بتمكنه في فن الحكي … فهو واحد من كبار الروائيين في الوطن العربي ، تحياتي
تسلم المبدع شريف محيي الدين صديق العمر
كسبنا اديبا بمزايا مقاتل
خفيف الروح
ورشيق فى الكتابه
وصلابه فى النقد والسرد
دمتت مبدعا
ودامت محبتك للخال
وحفظه الله وبارك فى صحته وعمره وولده
تسلم أخي أشرف
مقالة ممتعة، كل التقدير والاحترام لقلمك
ألف شكر أستاذة أمل
مقال رائع
الخال والد وأخ ومثل وكلنا يملك رجب في حياته وإن لم يكن خالا، يأنس إليه ويعده وينكث في وعوده معه ولا يذكره أنه أيضا لم يفعل كل ما وعد به نفسه في أمنياتك. فلا يليق أن يحزن رجب أو يغضب ليظل رمزا للسعادة والأمان اللذان يبثهما في الاخرين
أحسنتم أ.منير
لف شكر أستاذة غادة
مقال رائع أستاذ منير
لف شكر دكتورة بدرة
بحب إحساس الونس في مقالاتك ..ربنا يبارك لك يارب
ربنا يخليك أستاذة هناء
تصوير رائع لشخصية الخال جعلنا جميعا نحبه ونتمنى أن نتعرف إلى هذا الرجل الذي يمثل صورة واقعية للمصري الشهم. رسم رائع لملامح الشخصية الاجتماعية والنفسية يجعل من يفكر في سرقتها لتصبح بطلا لعمله السردي لا يحتاج أكثر مما جاء في سرديتك. يبدو أن روح الدعابة الرائعة في سردياتك ستكون علامة أخرى تضاف إلى ملامح عبقريتك الفنية المتعددة
ألف شكر يا دكتور
عندنا مثل بالسوري يقول:( الولد لو بار بيطلع ثلثيه للخال).
وحضرتك، بهذا المقال الشيق، تجسد هذا المثل، وفاء لخالك الذي أراد ان يعيش حياته على سجيته ولكنه علق آماله عليك.
أستمتع كثيرا بهذا النوع من المقالات الاجتماعية لأنها تبعث في النفوس الدفء العائلي الوجداني الذي بتنا نفتقده في أيامنا هذه بحال من الأحوال.
ربنا يحفظك د.عبير
مقال رائع يشعر بدفئ الاسرة والتقالب المفتقد الان
كسب الأدب وخسرت الرياضه
ألف شكر أستاذة عبير
شخصيا حبيته وافرحانه اكتر انه هيكون فرحان بهذا السرد الشيق ومضات اكشن سريعه
الله يحفظك، فعلا انبسط وكلمني وبعت لي 100 بوسه وهو يرسلها بفرح وخجل كأنني أنا الخال ههههههههههه
الحمد لله
فعلا الخال والد كما يقال،، سرد جميل وسلس، دمت مبدعا متألقا والسلام أمانة للخال رجب العزيز
تسلم يا صديقي محمد المبدع
٠سيرة شيقة وسرد غاية في الروعة لكاتب كبير متميز كتابته لها مذاق خاص
تسلم يا صديقي المبدع أحمد توفيق
حالك مع خالو رجب يشبه حال عمر طاهر مع خاله
و حالي مع زوج خالتي اللول ..يبدو أن لكل منا في حياته خالو رجب ..طب و النبي السلام امانة
تسلمي أستاذة جيهان